لقد برز مفهوم أبدية الإنترنت ومحتوياته كسمة مميزة للعصر الرقمي. ولكن مع مرور كل يوم، يصبح من الواضح بشكل متزايد أنه مفهوم خاطيء. لقد اختفت بالفعل أجزاء كبيرة من الإنترنت لأن القائمين عليها تخلوا عنها أو وجدوها غير مربحة. الأرشيفات تختفي، المواقع على الإنترنت تُغلق، وعلينا حماية التراث الرقمي من الاختفاء للأبد.
ووفقا لدراسة أجراها مركز بيو للأبحاث، فإن 38% من جميع مواقع الويب التي كانت موجودة في عام 2013 لم تعد متاحة بحلول أكتوبر 2023. كما أن 54% من جميع المقالات باللغة الإنجليزية على ويكيبيديا ترتبط بمصدر واحد على الأقل اختفى منذ ذلك الحين. يطلق الباحثون على هذه الظاهرة اسم “الاضمحلال الرقمي” (digital decay).
محتويات المقال :
وهم الذاكرة الرقمية الأبدية
إن فكرة اضمحلال الإنترنت تبدو متناقضة. فقد تصورنا الإنترنت لفترة طويلة ككيان غير مادي وأبدي. في عام 1996، تصور الناشط الرقمي جون بيري بارلو، في “إعلان استقلال الفضاء السبراني”، الإنترنت كمساحة حيث “يمكن إعادة إنتاج كل ما ابتكره العقل البشري وتوزيعه بلا حدود ومجاناً”. ولكن هذه النظرة المثالية تجاهلت الجوانب العملية للعالم الرقمي.
إن الإنترنت ليس مصنوعًا من اللاشيء، بل إنه بل إنه مبني على معادن نادرة من الأرض، وأقمار صناعية، وكابلات تحت البحر، وخوادم، ومحطات طاقة. ويتطلب الحفاظ على المحتوى الرقمي وتوزيعه بذل الجهود والموارد، وفي ظل نظام مدفوع بالسوق، لابد أن يكون أي شيء مكلف مربحاً. وما لا يولد ربحاً يُستبعد في نهاية المطاف.
الأرباح أهم
إن المنتجات الثقافية أصبحت الآن موجودة في كثير من الأحيان على خوادم الشركات فقط، بدلاً من أن تكون موجودة في واجهات المتاجر أو غرف المعيشة أو أرفف الكتب أو المكتبات. ويستطيع المستخدمون الوصول إليها من خلال الاشتراكات أو مشاهدة الإعلانات.
وإذا لم تلب أرباح الشركة ربع السنوية التوقعات، فقد يتم تغيير المحتوى أو إغلاق الخوادم بالكامل. وفي حالة الوسائط المادية، مثل أقراص البلوراي، لم يكن من الضروري أن تحقق الأعمال الثقافية الربح إلا مرة واحدة عند إصدارها الأولي. ولكن في العصر الرقمي، لابد أن تظل مربحة إلى أجل غير مسمى. لقد كان هذا التحول من الثقافة باعتبارها ملكية إلى خدمة جارياً منذ فترة.
بعض أمثلة الاضمحلال الرقمي
في عام 2009، أغلقت شركة ياهو خدمة استضافة الويب “GeoCities”، مما أدى إلى حذف ما يقرب من 38 مليون موقع ويب أنشأه المستخدمون، وهو أرشيف قيم لجماليات وثقافة الإنترنت المبكرة. وبعد استحواذ إيلون ماسك على تويتر، فرض قيودا كبيرة على وصول الباحثين إلى الأرشيف. وقد طبقت فيسبوك وشركات أخرى سياسات مماثلة.
حتى البنية الأساسية للإنترنت ليست آمنة. ففي يونيو 2024، أعلنت جوجل عن إيقاف خدمة اختصار الروابط المستخدمة على نطاق واسع. وبدءًا من عام 2025، ستصبح جميع الروابط المختصرة باستخدام هذه الخدمة غير نشطة، وهو ما يؤدي فعليًا إلى إنشاء عدد لا يحصى من الطرق المسدودة الرقمية بنقرة زر واحدة.
أرشيف الإنترنت
إن أرشيف الإنترنت عبارة عن مكتبة رقمية غير ربحية تهدف إلى “الوصول الشامل إلى كل المعرفة”. أسسها بروستر كاهل في عام 1996، وهي توفر الوصول العام المجاني إلى مجموعة ضخمة من المواد الرقمية، بما في ذلك مواقع الويب والكتب والموسيقى ومقاطع الفيديو والبرامج. فكر فيها كمكتبة ضخمة على الإنترنت، تحافظ على القطع الأثرية الرقمية وتجعلها متاحة للجميع.
ومن أشهر خدماتها خدمة “Wayback Machine”، التي تقوم بأرشفة مواقع الويب، مما يسمح للمستخدمين برؤية كيف كانت هذه المواقع خلال لحظات مختلفة من الماضي. وهذا لا يقدر بثمن للباحثين والمؤرخين وأي شخص فضولي بشأن تطور الويب. كما يقوم أرشيف الإنترنت برقمنة الكتب، مما يجعلها في متناول القراء في جميع أنحاء العالم، ويستضيف مجموعة من التسجيلات الصوتية والمرئية، بما في ذلك الموسيقى والأفلام والبرامج التلفزيونية.
إلى جانب الأرشفة، يدافع أرشيف الإنترنت بنشاط عن حرية الإنترنت وانفتاحه. ويدعم المبادرات التي تعزز الوصول الرقمي ومحو الأمية. ويتم تمويل المنظمة من خلال التبرعات والمِنح والخدمات مثل أرشفة الويب للمؤسسات الشريكة. ويمثل الأرشيف موردًا بالغ الأهمية في العصر الرقمي، حيث يحافظ على تراثنا الثقافي ويضمن بقاء المعلومات متاحة للأجيال القادمة.
ولكنه ليس كافياً بأي حال من الأحوال للوقوف بمفرده ضد الاضمحلال الرقمي. فقبل بضعة أشهر تعرض لهجوم من جانب مخترقين ولم يتمكن من أرشفة أي شيء لعدة أسابيع. ثم رفعت عليه مجموعة هاشيت للنشر دعوى قضائية بتهمة انتهاك حقوق الطبع والنشر. وتقاضي شركات التسجيلات حالياً الأرشيف بمبلغ 621 مليون دولار لأسباب مماثلة، وهو ما قد يعني نهايته. ولا أحد يعرف ماذا سيحدث لملايين الجيجابايتات من المواد الأرشيفية.
حماية التراث الرقمي من الاختفاء
نحن بحاجة إلى تحول جذري في نهجنا لحماية التراث الرقمي من الاختفاء. ولا يمكننا الاعتماد على الشركات أو الحكومات للحفاظ على تراثنا الثقافي؛ نحن بحاجة إلى جهد جماعي لإعطاء الأولوية للحفاظ على ماضينا الرقمي. وهذا يتطلب فهماً جديداً لقيمة الثقافة الرقمية والرغبة في الاستثمار في الحفاظ عليها.
أحد الحلول الممكنة هو إنشاء أرشيفات لا مركزية يقودها المجتمع وتكون خالية من ضغوط الربح والتسويق. وهناك نهج آخر يتمثل في تطوير نماذج أعمال جديدة تعطي الأولوية للحفظ وإمكانية الوصول إلى المكاسب قصيرة المدى. كما نحتاج أيضًا إلى تثقيف الجمهور حول أهمية الحفاظ على الثقافة الرقمية وعواقب الاضمحلال الرقمي.
وفي نهاية المطاف، فإن الحفاظ على الماضي في عالم يحركه الربح يتطلب منا إعادة تقييم قيمنا وأولوياتنا. ويتعين علينا أن ندرك أن الثقافة الرقمية تشكل جزءاً قيماً من تراثنا الجماعي، وأن الحفاظ عليها يشكل ضرورة أساسية لفهم أنفسنا ومكانتنا في العالم. يجب أن نعمل معًا لخلق مستقبل يتم فيه الحفاظ على ماضينا الرقمي للأجيال القادمة.
المصدر
The Internet Is Not Forever — How To Prevent Our Digital Heritage From Vanishing | world crunch
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :