عكف المسلمون على التمييز بشكل حاسم وصريح بين نمطين من أنماط الحرية. الأول هو الحرية بمعناها الفلسفي والوجودي، وكان يحمل بعدًا كلاميًا ميتافيزيقيًا. والثاني بمعناها الاجتماعي. لذلك نجد متكلمي الإسلام يعبرون عنهما بمصطلحين يختلف أحدهما عن الأخر، وهما “حرية الإرادة” و”حرية الاختيار”. فهل غاب مفهوم الحرية عن الإسلام؟
محتويات المقال :
الحرية في الإسلام
ورغم التعريفات المختلفة للحرية، إلا أن هناك مفهومًا لها يعني تسليم الفرد للقانون والنظام الإلهيين. وهذا المفهوم ينطبق بشكل أو بأخر على الوضع السائد لها في الإسلام. فكما يقرر لويس غارديه في مؤلفه (فلسفة الفكر الديني بين الاسلام والمسيحية): “رغم كل الاختلافات، فإن المفهومين الإسلامي والمسيحي للحرية يشتركان في أمر واحد، كلاهما على حد سواء يقف ضد البحث اللامشروع عن حرية متوهمة ولفظية. فالمسيحي كالمسلم ليس عنده حس بالحرية إلا إذا كان على توافق مع نفسه ومع نظام أسمى.” ويقول معه كاتب أخر أن: “الحرية في الإسلام هي حرية مربوطة بالخضوع.” وهذا الوصف للحرية أو المأزق بالأحرى، هو مأزق للحرية في أي تراث ديني أخر.
وفي لسان العرب لابن منظور عن تحرير الولد يقول: “أن يفرده لطاعة الله عز وجل ولخدمة المسجد.” ومنه قوله تعالى: “إني نذرت لك ما في بطني محررًا فتقبل مني”. قال الزجاج: “هذا قول امرأة عمران، ومعناه جعلته خادمًا يخدم في متعبداتك”.
الحرية والشريعة
ولمن نافلة القول هنا أن نتحدث عن الارتباط العضوي بين مفهوم الحرية، والربط بينها وبين التعلق والتسليم بالأوامر الإلهية في فترة أبعد من ذلك زمانيًا. فلقد تطور في مناخ الأديان الموحدة قبل الحقبة المسيحية، فنرى عند الربّي البابلي أحابار يعقوب الذي عاش سنة 300 ميلادية، ألواح الشريعة الموسوية تعني “رقيم” أو harut وفهمها على أنها تعني “الحرية”. لذلك كانت “الشريعة” هي ذاتها “الحرية” عنده.
والخضوع للشريعة هو حرية. حيث استشهد المدراش اليهودي بالفقرة نفسها ليثبت أن “الإنسان الحر الوحيد في العالم هو الذي يطبق أحكام ألواح الشريعة”. وقد عبّر أيضًا متصوفة الإسلام وزهاده عن الفكرة نفسها بأشكال متمايزة. هذه الفكرة تبرز بأوضح معانيها في قصة لقمان السرخسي الذي يُروى أنه التمس من الله أن يحرره من عبوديته، أو من موقفه كعبد في مقابل الله. فكانت الحرية التي منحت له هي الجنون.
تاريخ الحرية في العربية
أما عن تاريخ مصطلح الحرية بمعناها المجرد في اللغة العربية، فليس واضحًا على الإطلاق إن كان قد استخدمت عند عرب ما قبل الاسلام. وأقصد هنا بمعناها المجرد البعيد كل البعد عن المعنى المجازي لها. فإذا قصدناها بمعناها المجرد فهي غائبة تمامًا، وربما في الثقافة الإسلامية كلها فضلا ًعن عرب ما قبل الحقبة الإسلامية. حتى وإن وجدت فستكون بالمعنى المجازي كالنُبل، والسؤدد، والكرم، والشرف، والفعل الحسن، وهذا ما ورد في لسان العرب لابن منظور، الحُرُّ : الفعل الحسن، يقال: “ما هذا منك بِحُرٍ أي بحسن ولا جميل. وفي هذا يقول “طرفة”: “لا يكن حبك داء قاتلًا، ليس هذا منك، ماوي، بِحُرّ، أي بفعل حسن.” ووردت أيضا كلمة الحرية بمعنى نبيل في شعر” ذي الرمة” حيث قال:
فصار حيًا وطبق بعد خوف، على حرية العرب الهزالي. أي على أشرافهم، والهزالي مثل السكارى.
الحر والعبد
ورغم أننا قد نجد عند عرب ما قبل الحقبة الاسلامية نزعة -وإن كانت من مبادرات شخصية- إلى فك الأسرى وعتق الرقاب، مثلما فعل بعض سادات القبائل العربية، فقد ذكر بعض العلماء أسماء رجال عاشوا في الجاهلية، عرفوا بعدم رضاهم عن الأسر، وذلك حسبما ورد في كتاب “المفصل في تاريخ العرب” لجواد علي ويقول: “فكانوا يدفعون مالًا مقابل فك رقبتهم، ومن هؤلاء سعد بن مُشمت بن المُخيل، وهو من رجال قبيلة “بني المخيل”، وكان قد آلى ألا يرى أسيرا إلا افتكه.” غير أنها تظل كمفهوم مفقودة في الثقافة الإسلامية قاطبة. ويظل استخدام كلمة “حر” مقابل كلمة “عبد” واضح المعنى، فالإنسان الحر يمثل كل الصفات النبيلة، في حين يمثل العبد كل ما هو شرير ودنيء في الطبيعة البشرية.
الحرية عن فلاسفة العرب
لعل مما يلفت النظر في تعريف الحرية عند متكلمي الاسلام وفلاسفته، هو الغياب التام لمفهوم الحرية والتردد فيه. مثلما الحال مع “الكندي” الذي تجاهلها في رسالته حول الحدود. ويشير “فرانز روزيتنال” إلى أن أقدم تعريفات الحرية في الشرق الإسلامي قد صدرت في الأعمال السريانية لـ “ميخائيل أوبازوذ” 800 ميلادية، حيث كتب يقول: “الحرية هي القوة غير المحددة للطبائع العاقلة التي تتعلق بالحواس والإدراك العقلي معًا”. هذا التعريف يمثل -معبراً عنه بطريقة رديئة- عن نتائج المناقشات اللاهوتية التي دارت آنذاك حول حرية الإرادة في أوساط الكنيسة الشرقية.
كما يصف “أفراييم السوري” الحرية بأنها: “هبة الله التي قدمها لآدم، فامتدحها؛ لأنّها صورة الله التي بدونها ينهار العالم، فالحرية وجدت لكي يستطيع الإنسان أن يختارها أو يرفضها. كما يمكن أن تكون موضوع قيود ينزلها الله وتحددها الشريعة، وعبثاً يحاول الشيطان احتواءها.” ويقول أيضا “فرانز روزينتال” أن الجدل والنقاش حول مفهوم “الحرية” في علم الكلام الإسلامي هو نفس الصورة القاتمة، إذا أُخذ بعين الاعتبار الصلات الوثيقة بين اللاهوت المسيحي وعلم الكلام الإسلامي. فكان الجدل الإسلامي حول مسألة حرية الإرادة، محاولة شكلية لتأكيد حيز منزوٍ للحرية في النسيج العام. وهذا الحيز على محدوديته، كان ينظر إليه كضرب من التجاوز تجاه القدرة الإلهية المطلقة.
الحرية في المعاجم الإسلامية
إذا ما بحثنا عن تعريفات “الحر” و”الحرية” عند مؤلفي المعاجم الاسلامية، فأول ما يلاحظ هو اكتفاؤهم بتعريف الحر بأنه عكس الرقيق. أي أن مفهوم الحرية، ظل كما هو دون تغيير عن معناه القانوني في حقب ما قبل التاريخ. بيد أن “الواحدي النحوي” المتوفى سنة 1075 ميلادية، قد حاول تقديم تفسير للحرية من وجهة نظر فقهاء اللغة. فأشار النحوي إلى أن اللفظ مشتق من حَر الذي هو ضد البرد؛ لأنّ الرجل الحر يمتلك كبرياء وأخلاقاً حاثة تبعثه على طلب الأخلاق الحميدة. أما “الأصفهاني”، فقد حاول في معجمه لمفردات القرآن أن يقدم تعريفًا للحرية يقيم تمايزًا بين بعدها الشرعي وبعدها الأخلاق، فحدد الحُر أولا بأنه يقابل العبد، ثم فرق بين ضربين من الحرية: “والحر خلاف العبد، يقال حر بين الحرورية. والحرورة والحرية ضربان: الأول من لم يجر عليه حكم الشيء نحو (الحر بالحر). والثاني، من لم تمتلكه الصفات الذميمة من الحرص والشره على المقتنيات الدنيوية، وإلى العبودية”. ومنه قول الشاعر: ورق الأطماع رق مخلد. وقيل: عبد الشهوة أذل من عبد الرق.
أما فخر الدين الرازي، فقدّم تعريفًا فلسفيّا للحرية. وعبّر الرازي عن حرية النفس، فـ”النفس إما ألا تكون تائقة بغريزتها إلى الأمور البدنية، وإما أن تكون تائقة، فالتي تكون تائقة هي الحرة…”. أما “الجرجاني”، فيعطي للحرية بعدًا صوفيًا في كتابه “التعريفات “، فعرفها بأنها في اصطلاح أهل الحقيقة، الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع العلائق والأغيار، وهي على مراتب. حرية العامة عن رق الشهوات، وحرية الخاصة عن رق المرادات لفناء إرادتهم في إرادة الحق، وحرية خاصة الخاصة عن رق الرسوم والأثار لانمحاقهم في تجلى نور الأنوار.
خلاصة القول في غياب الحرية في الإسلام
تعرض المقال لتحليل مفهوم الحرية في الإسلام، والتمييز بين نمطين منها، الأول هو الحرية بمعناها الفلسفي والوجودي، والثاني بمعناها الاجتماعي. يرى البعض أن الحرية في الإسلام هي حرية مربوطة بالخضوع، وأن مفهوم الحرية في الإسلام يعني تسليم الفرد للقانون والنظام الإلهيين، وهو مفهوم مشابه لمفهوم الحرية في الأديان الأخرى.
أشار المقال أيضًا إلى الربط العضوي بين مفهوم الحرية والشريعة، حيث يرى البعض أن الخضوع للشريعة هو حرية، وهذا يتفق مع فهم الشريعة عند الربي البابلي أحابار يعقوب. وبالرغم من أن الحرية في الإسلام تحمل معانٍ مختلفة، إلا أن هناك توافق فيما بين المفاهيم الإسلامية والمسيحية للحرية، إذ يتفق الاثنان على رفض البحث عن حرية متوهمة ولفظية، ويتمسكان بضرورة التسليم للنظام الإلهي.
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :