في القرن الحادي عشر، قام فيلسوف رائد يُدعى ابن سينا في العالم الإسلامي بصياغة تجربة فكرية مثيرة تدعى “الرجل المعلق” تتحدى فهمنا للوعي الذاتي والإدراك والروح البشرية تمت مناقشتها لعدة قرون.
تنص التجربة الفكرية أن هناك إنساناً خلقه الله في الهواء، في حالة جيدة، لكن بصره محجوب وأطرافه ممدودة بحيث لا يلمس أي شيء، حتى جسده. هذا الإنسان ليس لديه ذكريات، لأنه قد خُلِق للتو. هل سيكون ذهنه فارغاً، خالياً من أي تجربة حسية ماضية أو حاضرة؟ كلا، طبقًا لابن سينا. حيث سيكون مدركاً لوجوده.
محتويات المقال :
الوعي الذاتي
هل سبق لك أن توقفت عن التفكير فيما يجعلك أنت؟ ما هو الشيء الذي يميزك عن صخرة أو شجرة على سبيل المثال؟ هذه أسئلة حيرت الفلاسفة لعدة قرون، وفي قلبها يكمن مفهوم الوعي الذاتي. وبعبارة أخرى، ما الذي يعنيه أن يكون المرء واعيًا بوجوده؟
لقد نوقش هذا السؤال من قبل الفلاسفة من اليونان القديمة إلى العصر الحديث، حيث قدم كل مفكر وجهة نظره الفريدة حول هذا الموضوع. لكن قبل أن نتعمق في تفاصيل تجربة ابن سينا الفكرية للرجل الطائر، دعونا نرجع خطوة إلى الوراء ونستكشف السياق الأوسع للوعي الذاتي.
في جوهره، يشير الوعي الذاتي إلى القدرة على الحصول على فهم واعي لأفكار الفرد ومشاعره وتجاربه. إنه ما يسمح لنا بالتفكير في حالاتنا العقلية، لنعرف أننا نفكر أو نشعر أو ندرك شيئًا ما. قد يبدو هذا مفهومًا مباشرًا، لكن من الصعب تحديده بشكل دقيق.
على سبيل المثال، هل تتذكر وقتًا كنت فيه منغمسًا تمامًا في نشاط ما، مثل ممارسة رياضة أو حل لغز ما؟ لقد كنت شديد التركيز على المهمة التي بين يديك لدرجة أنك لم تلاحظ حتى مرور الوقت. هذه هي حالة التركيز (التدفق)، حيث يكون وعيك منخرطًا بشكل كامل في النشاط. ولكن ماذا يحدث عندما تخرج من حالة التدفق هذه وتصبح فجأة واعيًا لنفسك وأنت تفكر، “هل كنت أفعل هذا منذ ساعات”؟
من أرسطو إلى ابن سينا
لقد ناقش الفلاسفة مفهوم الإدراك الذاتي لعدة قرون، حيث وضع المفكرون اليونانيون القدماء مثل أرسطو الأساس لهذا البحث. اعتقد أرسطو أن الروح جزء لا يتجزأ من الجسد، وهو مفهوم يعرف بالهيدومورفيزم. ومن وجهة النظر هذه، فإن الروح ليست كيانًا منفصلاً، بل هي شكل أو جوهر الجسد.
ومع ذلك، اختلف ابن سينا مع وجهة نظر أرسطو، بحجة أن الروح هي كيان متميز موجود بشكل مستقل عن الجسد. يمثل هذا الاختلاف في الرأي نقطة تحول مهمة في تاريخ الفلسفة، حيث أثر في تطور نظرية المعرفة، ومفهوم الإدراك الذاتي.
تشكلت أفكار ابن سينا حول الوعي الذاتي من خلال عقيدته الإسلامية ودراسته لأعمال أرسطو. حيث كان يعتقد أن الروح كيان عقلاني وفكري يمكن أن يوجد بعيدًا عن الجسد. تنعكس هذه الفكرة في تجربة الرجل المعلق الفكرية، والتي تتحدى فكرة أن الوعي الذاتي يعتمد فقط على الأحاسيس الجسدية.
يستمر الإرث الفلسفي لأرسطو وابن سينا في تشكيل فهمنا لإدراك الذات اليوم. وقد أثرت أفكارهم في الفلسفة الغربية، والفلسفة الإسلامية، والفكر الشرقي، مما جعلهم من الشخصيات البارزة في تاريخ الفلسفة.
الرجل المعلق
الفكرة من هذه التجربة هي عزل جوهر الإدراك الذاتي، والتخلص من جميع عوامل التشتيت والمؤثرات الخارجية. هل سيظل هذا “الرجل المعلق”، الذي ليس لديه تجارب سابقة أو حاضرة، واعيًا بوجوده؟
إجابة ابن سينا هي “نعم”. حيث يدعي أن الرجل المعلق سيكون بالفعل واعيًا لذاته، حتى بدون أي مدخلات حسية. ولكن كيف؟ إذا كان هذا الرجل ليس لديه ذكريات ولا أحاسيس ولا اتصال بجسده، فما هو أساس وعيه بذاته؟
تعتمد حجة ابن سينا على فكرة أن الإدراك الذاتي هو جانب أساسي من جوانب علم النفس البشري، وهو وعي خلفي دائم موجود بشكل مستقل عن تجاربنا الخارجية. إنه يدعونا إلى تخيل أنفسنا مكان الرجل المعلق، للتأمل والتعرف على وعينا الذاتي الفطري. تم تصميم هذه التجربة الفكرية للكشف عن الطبيعة الجوهرية للوعي الذاتي، غير الملوث بالمؤثرات الخارجية.
لكن ماذا عن الانتقادات المحتملة؟ هل يمكن للرجل الطائر أن يشعر بجسده من خلال حاسة إدراك الحركة (proprioception)، حتى بدون الرؤية أو السمع أو اللمس؟ يعترف ابن سينا بهذا الاحتمال، لكنه يرى أنه يمكن تعديل التجربة الفكرية لمنع حاسة إدراك الحركة، مما يجعلها غير ذات صلة. إن جوهر المسألة يكمن في التمييز بين الوعي الذاتي والوعي الجسدي. قد لا يعرف الرجل المعلق وجود جسده، لكنه سيظل على علم بوجوده كشخص.
كشف سر الوعي الذاتي
يدعي ابن سينا أنه يوضح أننا لسنا متطابقين مع أجسادنا. إن الرجل المعلق يدرك نفسه، لكنه لا يشعر بجسده. وإذا لم يكن واعيًا بجسده فكيف تكون روحه مطابقة له؟ قد تبدو هذه حجة مقنعة، ولكن هل هي حقًا بهذه البساطة؟
أحد الأسئلة الصعبة هو ما إذا كان ابن سينا يفترض الكثير حول طبيعة الوعي. هل يمكن أن نكون واعين لشيء ما دون أن نكون واعين بكل شيء عنه؟ على سبيل المثال، قد تكون على علم بقراءة هذه المقالة دون أن تدرك أنها كتبت أثناء استماع الكاتب لأم كلثوم. هذا لا يعني أن المقال لم يكتب أثناء غناء أم كلثوم؛ هذا يعني فقط أنك لم تكن على علم بهذه التفاصيل.
لتعزيز حجته، قد يحتاج ابن سينا إلى إظهار أن الوعي الذاتي للرجل المعلق يختلف بشكل أساسي عن وعيه الجسدي. إحدى الطرق الممكنة للقيام بذلك هي افتراض أن الحواس هي الطريقة الوحيدة لإدراك أي جسم. إذا كان هذا صحيحًا، فإن أي شيء يمسكه الرجل المعلق دون استخدام حواسه يجب أن يكون غير مادي. وبما أنه يمسك روحه دون استخدام حواسه، فلا يمكن لروحه أن تكون جسدًا.
تمثل تجربة ابن سينا الفكرية تحديًا للفلاسفة الماديين، حيث تطلب منهم إظهار كيف يمكن للجسد أن يكون واعيًا بذاته دون استخدام الإحساس. هل يمكنهم الارتقاء إلى مستوى التحدي؟
الجسد والروح
بالنسبة لابن سينا، فإن قدرة الرجل المعلق على إدراك نفسه دون أن يكون واعيًا بجسده تشير إلى أن أرواحنا ليست متطابقة مع أجسادنا. يتحدى هذا المنظور وجهة نظر أرسطو، التي تفترض أن الروح جزء لا يتجزأ من الجسد. وفقا لابن سينا، الروح هي كيان متميز يمكن أن يوجد بشكل مستقل عن الجسد، حتى ولو للحظة عابرة.
ولكن ماذا يعني هذا بالنسبة لفهمنا للهوية الإنسانية؟ هل يعني ذلك أننا، في جوهر الأمر، أرواح نسكن أجسادنا المادية مؤقتًا؟ أم أنها تشير إلى أن أجسادنا وأرواحنا متشابكة، ولكنها كيانات متميزة؟ تدعونا تجربة الرجل المعلق الفكرية إلى التفكير في نسيج وجودنا، وتشجعنا على التساؤل عما يعنيه أن تكون إنسانًا.
في سياق علم الأعصاب الحديث، قد تبدو أفكار ابن سينا قديمة إلى حد ما، إلا أن بحثه الفلسفي يظل وثيق الصلة بالموضوع بشكل ملحوظ. وبينما نواصل كشف أسرار الدماغ البشري وعلاقته المعقدة بالجسد، فإننا مضطرون إلى مواجهة نفس الأسئلة الأساسية التي طرحها ابن سينا منذ قرون.
المصدر
What can Avicenna teach us about the mind-body problem? | big think
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :