يتعلّق البشر بطبيعتهم بالأماكن. وفي إطار علم النفس البيئي، فإن «التعلق المكاني – Place Attachment»، هو الروابط الشعورية التي يشعر بها البشر تجاه الأماكن المختلفة. وتختلف الأماكن ومعانيها التي يتعلق بها البشر. فقد تكون بالغة الصغر كشجرة في حديقة اعتاد أحدهم أن يلعب حولها وهو طفل. أو حتى فكرة مجردة مثل مفهوم الوطن بالنسبة للاجئين أو المغتربين.
يهتم باحثو علم النفس البيئي بهذا التعلق، لأهميته تجاه جودة الحياة السكانية وصحتها. فالتعلق المكاني يتراوح بين المشاعر الإيجابية كالألفة والطمأنينة في حالة البيت، والمشاعر السلبية كالحزن أو الفقد في حال خسارة البيت. وقد تتسبب خسارة مكانٍ ما إلى إصابة المتعلّقين به بالجزع.
وقد ركزت نظريات التعلق المكاني على ما يكوّن ويحجّم من مشاعر التعلق المكاني، وكيف تتداخل مع مفاهيم كالانتماء والهوية المكانية. فمثلا، يدرس بعض الباحثين العلاقة بين شعور الناس بالانتماء إلى مكانٍ ما، ومدة بقائهم فيه.
محتويات المقال :
تحاول عدة نظريات تحديد مكونات التعلق المكاني. وإحدى هذه النظريات تحددها بثلاثية المكان-الشخص-العملية؛ أي أن المشاعر تجاه مكانٍ ما تتأثر بتجارب وتاريخ الأفراد والجماعات. وتعتمد على سمات المكان المحسوسة والرمزية، والسلوكيات التي حدثت فيه. في حين أن بعض النظريات الأخرى تضيف أبعادًا مختلفة، منها الروابط الأسرية والصداقات.
على أي حال، فإن مفهوم التعلق المكاني يشتمل على عدة مفاهيم أخرى تحته. مثل “الشعور بالمكان” أي تجربة المرء الشعورية في مكانٍ ما بناءً على رمزياته، و”الهوية المكانية” أي تضمين المكان في هوية الفرد أو الجماعة.
ويعتمد الباحثون حول مفهوم التعلّق المكاني أيضًا على مجالات فلسفية أخرى، مثل الفينومينولوجيا أو الظاهراتية. والفينومينولوجيا هي المجال الذي يحاول سبر أغوار التجربة البشرية، وفهم المعاني والرموز التي يتبنّاها البشر. ومن المعماريين المشهورين في هذا المجال، والذي له كتابات خاصة بمفهوم التعلق المكاني، المعماري الفنلندي “يوهاني بالازما”. ويرى يوهاني أن مفهوم البيت مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمشاعر الألفة والطمأنينة والأمان التي نشعر بها ونحن أطفال. وتتكون تلك المشاعر بدورها من خلال شعورنا وإحساسنا بلحظات معينة، مثل لحظة وصولنا للبيت بعد يومٍ طويل.
يمكن للتعلق بالأماكن أيضًا أن يشتمل على مشاعر سلبية كما أسلفنا، وقد يحدث هذا لأسباب مختلفة. فربما يُدمّر مكان عزيز على الفرد، أو يتغير بشكل دائم. أو قد يكون مكان مهم ما مصدرًا لتجارب سعيدة ومريرة للفرد في الآن نفسه. وفي إحدى الدراسات على سكانِ قريةٍ تم تهجيرهم لبناء بحيرة صناعية، وجد الباحثون أن السكان لا زالوا يشعرون بالفقد بعد 40 عامًا من تهجيرهم.
التعلق المكاني منتجٌ اجتماعي بشكل كبير. فشعور المرء بالتعلق بحديقة أو ميدانٍ ما، قد يكون سببه فعاليات أو حوادث معينة مرتبطة بالثقافة الموجودة. كما أن مشاعره تجاه الأماكن المختلفة تعتمد على البنى الاجتماعية والثقافية التي يجدها فيه. فإذا تمكن فرد أو جماعة ما من تكوين شبكة علاقات قوية ومستقرة في مدينة جديدة، فغالبًا سيؤدي ذلك إلى إضفاء معانٍ حسنة على تلك المدينة. في حين أنه إذا تعرض للمضايقات أو العنصرية أو لم يتمكن من تكوين شبكة معارف، فغالبًا سيكوّن انطباعًا سلبيًا عنها.
ومن تفرّعات دراسة التعلق المكاني أيضًا ما يسمى باللا-مكانية، أو غياب الانتماء المكاني «Placelessness». ويحمل هذا المصطلح معنيين؛ فقد يعني افتقار الأماكن المختلفة لهوية خاصة بها. قد يجعل هذا الافتقار من أماكن متباعدة متشابهة في الشكل والطبيعة، مما قد يفقد سكانها بأي شعور بتميزها. وهذا ينطبق مثلًا على المناطق “الحديثة” من المدن، والتي لا يبدو فيها أي أثر للطابع المحلّي. إذ يمكن لبعض الأحياء السكنية أو التجارية أن توجد في دبي، أو إسطنبول، أو لندن دون أن يشعر ساكنوها بأي فرق. كما قد يحمل هذا المصطلح معنى فقدان الأفراد لمشاعر التعلق بالأماكن بسبب كثرة التنقل. أو بسبب تجارب سلبية مرّوا بها تجاه الأماكن التي عاشوا فيها. ويرتبط هذا المفهوم الأخير بإشكاليات مثل: اندماج المهاجرين في بلدانهم الجديدة. أو شعور أبناء المهاجرين أو الأبناء مزدوجي الجنسيات بعدم الانتماء لبلدهم الأم، أو لبلدهم الذي هاجر أهلهم إليه. ولذلك، قد يفيد البحث في مثل هذه المجالات في تحديد سياسات الهجرة، والاندماج والعدالة الاجتماعية، ضمن عدة تطبيقات أخرى.
في عالم متسارع الحركة والهجرة والتنقل، يصبح فهم تعقيدات تعلقنا بالأماكن المختلفة أكثر أهمية. وتشمل تطبيقات البحث حول التعلق المكانيّ دراسة التنقل والهجرة، والأزمات البيئية، والمشادّات بين الفئات المجتمعية المختلفة في بيئة واحدة، والتحديات التي تواجه التخطيط العمراني.
ففي مجال التنقل والحركة والعولمة، يساعدنا البحث حول مشاعر التعلق بالنتائج المترتبة عن كثرة التنقل أو التهجير. كما يمكّننا من تحليل الكيفية التي يتأقلم بها المهاجرون في بيئاتهم الجديدة. وكيف يمكن توفير بيئة آمنة وصحية لأقليات وأعراق مختلفة، لتتعايش فيما بينها وتشعر بالانتماء والتعلق بالأحياء التي يسكنونها. كل ذلك دون أن تفقد هوياتها أو تشعر بأنها في غيتو أو منفى.
كما يمكن للسياسيين ومسؤولي السياسات الوطنية أن يستفيدوا من نظريات التعلق المكاني، لفهم الاضطرابات التي تحدث عند وفود جماعةٍ ما إلى منطقة معينة. مثل وفود السكان السود إلى الأحياء البيضاء في جنوب إفريقيا. ففي مثل هذه الحالة، تلعب التغطية الإعلامية، والسرديات الوطنية دورًا في تأجيج أو تخفيف حدة الشعور بفقدان هوية الأماكن المختلفة.
أما في مجال التخطيط العمراني، فيتيح البحث في التعلق المكاني للسكان أدوات للتفاعل المجتمعي مع خطط التطوير والتخطيط. حيث يصبح للسكان رأيٌ في الخطط الحضرية يحفظ هوية الأماكن ورمزيتها. كما يمكن للإدارات الحضرية أن تستغل تلك الدراسات للحفاظ على منشآت أو أماكن معينة، كرموز ومعالم لها رمزيتها ومعانيها التي يتعلق الناس بها. كما يساعدنا البحث عن علاقة البشر ببيئتهم وتقييمهم لها على فهم ظواهر كشعور الناس بخطر الجرائم حتى لو انخفضت معدلاتها. شاركنا تجربتك في التعلق بالأماكن في التعليقات.
عندما يتعلق الأمر بحماية بشرتنا من التأثيرات القاسية لأشعة الشمس، فإن استخدام واقي الشمس أمر…
اكتشف فريق من علماء الآثار 13 مومياء قديمة. وتتميز هذه المومياوات بألسنة وأظافر ذهبية،وتم العثور…
ركز العلماء على الخرسانة الرومانية القديمة كمصدر غير متوقع للإلهام في سعيهم لإنشاء منازل صالحة…
من المعروف أن الجاذبية الصغرى تغير العضلات والعظام وجهاز المناعة والإدراك، ولكن لا يُعرف سوى…
الويب 3.0، الذي يشار إليه غالبًا باسم "الويب اللامركزي"، هو الإصدار التالي للإنترنت. وهو يقوم…
لطالما فتنت المستعرات العظمى علماء الفلك بانفجاراتها القوية التي تضيء الكون. ولكن ما الذي يسبب…