ينطلق الإنسان يكشتف، يخترع، يطور، ويصنع. متمتعاً بنواتج تلك العملية حتى يلاحظ فيما بعد بوجود عواقب لم تكن في الحسبان. يُعتبر التلوث من أخطر تلك العواقب منذ القرن الماضي؛ فبالإضافة إلى تأثيراته الصحية المعروفة والخطيرة أصبح هناك قلق حول تأثيره على استمرارية الجنس البشري نفسه بوجود علاقة بين تلوث الهواء وكلاً من نسبة الذكور والخصوبة على مستوى العالم. وأصبح لابد من التعرف على تفاصيل تلك الادعاءات ومدى صحتها؛ لكن قبل ذلك يتطلب الأمر فهم واضح لماهية تلوث الهواء وما يتضمنه من مواد مختلفة.
محتويات المقال :
ما هو تلوث الهواء؟
خليط من مواد غازية، صلبة، وحتى سائلة بنسب أكبر من الطبيعية مؤديةً لمشاكل بيئية وصحية. وينقسم التلوث الهوائي طبقاً لمكان التعرض له إلى نوعين أساسين وهما:
- «التلوث الخارجي- outdoor air pollution»: هو الذي نتعرض له خارج المنازل والبيوت. كنتائج حرق البترول والفحم وغيرهم. وكذلك الغازات الضارة مثل ثانى أكسيد النيتروجين، ثانى أكسيد الكبريت. والأوزون الأرضي المختلف عن أوزون الطبقات الجوية العليا كما سنعرف معاً فيما بعد.
- «التلوث الداخلي-indoor air pollution »: هو الذي نتعرض له داخل المباني والبيوت. مثل الغازات: أول أكسيد الكربون، رادون. نواتج بعض الأجهزة الكهربية مثل الفورمالدهيد، الرصاص وغيرهم بالإضافة إلى التدخين. كما أن التلوث الخارجي ممكن أن يتسرب لداخل المباني عن طريق النوافذ وفتحات التهوية وما إلى ذلك.
يتضمن التلوث الهوائي العديد من المواد ولكن لطالما حذرت منظمة الصحة العالمية «WHO» من أربع مواد على وجه التحديد نظراً لارتباطهم بمشاكل صحية عديدة خاصة في الجهاز التنفسي قد تصل لسرطان الرئة. وهم:
- «المواد الدقيقة – particulate matter »: تعتبر الجانب الأسوأ من تلوث الهواء، والأخطر تأثيراً على صحة الإنسان. وهي عبارة عن خليط من مواد صلبة وسائلة من مصادر مختلفة. يتراوح قطرها من 10 ميكرون أو أقل «pm10» إلى 2.5 ميكرون فما أقل «pm 2.5». كلما صغر حجم تلك المواد كلما كانت أسوأ.. لماذا؟! لأنه بصغر الحجم تكتسب قدرة أكبر على النفاذية خلال جسم الإنسان فتقتحم الرئتين، وتصل حتى الدورة الدموية فلا يقتصر تأثيرها على الجهاز التنفسي فقط، ولكن تؤثر أيضا على القلب والجهاز الدوري، والأسوأ من ذلك أنها تشارك في تطور سرطان الرئة. وتكشف الأبحاث عن وجود علاقة بين زيادة نسبة الوفيات وزيادة التعرض لتلك المواد.
- «الأوزون- Ozone»: كما ذكرنا سابقا فإنه مختلف عن الموجود في طبقات الغلاف الجوي العليا الذي يحمينا من الأشعة الضارة؛ فذلك النوع يتكون نتجية تفاعل ضوئي لبعض المواد مع ضوء الشمس مثل أكسيد النيتروجين، والمركبات العضوية المتطايرة وغيرهم تلك المواد ناتجة من المصانع، السيارات. وبذلك يتزايد نسبة تكوين الأوزون في الأيام الحارة. ويعتبر الأوزون مؤثر قوي على الرئتين ويسبب الحساسية، والأزمة الصدرية، والأمراض التنفسية.
- ثاني أكسيد النيتروجين: يظهر كناتج لعمليات التسخين وإنتاج الطاقة، بالإضافة لمحركات السيارات والسفن. يرتبط التعرض لثاني أكسيد النيتروجين بأعراض التهاب الشعب الهوائية في الأطفال المصابين بالأزمة. وأيضا يؤثر على نمو الرئتين وتطورها.
- ثانى أكسيد الكبريت : ينتج بشكل أساسي من حرق الوقود الحفري، وصهر المعادن، وأيضاً للمحركات يد في إنتاجه. يعتبر ثاني أكسيد الكبريت سبب أساسي لزيادة أعراض الأزمة وزيادة نسب العدوى فى الجهاز التنفسي، وله دور في أمراض القلب. كما أنه عندما يختلط بمياه الأمطار يسبب المطر الحمضي الذى يسبب إزالة الغابات.
بعد أن اتضحت الصورة العامة حول تلوث الهواء حان وقت الشروع في إجابة السؤال : هل هناك علاقة بين تلوث الهواء ونسبة الذكور والخصوبة؟
تلوث الهواء ونسبة الذكور :
منذ فترة شغل بال الباحثين فكرة غريبة: وهي العلاقة بين تلوث الهواء ونسبة الذكور، فأنطلقت بعض الأبحاث المعدودة تبحث عن علاقة بين تغير نسبة المواليد مع زيادة نسبة بعض الملوثات. حتى عام 2018 نشرت «المجلة الأمريكية لصحة الرجل- American journal of men’s Health » ورقة بحثية بعنوان «تلوث الهواء و النسبة بين نوعي الحيوانات المنوية» كان ذلك البحث هو الأول من نوعه فهو لم يبحث فى نسبة المواليد إنما ذهب لمصدر تحديد الجنس ذاته وهو نوع الحيوان المنوي إذا كان حاملا للكروموسوم X -الجنين أنثى- أو Y -الجنين ذكر -.
تضمنت تلك الدراسة 195 رجل من بين عامي 2008 و 2011 تم جمع بعض المعلومات عنهم مثل العمر، والحالة الاجتماعية، التدخين، مكان السكن، وتم الحصول على عينات من البول، اللعاب، وبالطبع السائل المنوي. تم فحص السائل المنوي بتقنيات ميكروسكوبية خاصة لتحديد نوع الحيوان المنوي X أم Y. و حساب نسبة الملوثات التي تعرض لها المشاركين خلال 90 يوم قبل الحصول على العينات… لماذا 90 يوم تحديداً؟ لأن عملية تصنيع الحيوانات المنوية تستغرق من 64 إلى 74 يوم؛ فتسعين يوماً ستكون فترة كافية حتى تتعرض فيها تلك الدورة إلى الملوثات. تم تحديد نسبة الملوثات اعتماداً على مكان سكن المشاركين -من ضمن البيانات التي تم تحصيلها – واستناداً إلى قاعدة بيانات الهواء الأوروبية المسجل عليها تغيرات المناخ ونسب الملوثات المختلفة في الأماكن المختلفة.
وبعد تحليل البيانات المحصلة جائت النتائج بوجود ترابط عكسي بين زيادة نسبة بعض الملوثات وتحديدا «المواد الدقيقة – particulate matter» بنوعيها، وقلة الحيوانات المنوية الحاملة للكروموسوم Y. لتضيف تلك الورقة البحثية شكوكاً إلى شكوكٍ سابقة بوجود ترابط عكسي بين التلوث الهوائي ونسبة المواليد الذكور. أتفقت تلك الورقة البحثية مع بحث مماثل تم في ساو باولو حول العلاقة بين النسبة بين جنسي المواليد والتلوث الهوائي التي كان من نتائجها أيضاً وجود ترابط عكسي بين المواد الدقيقة الملوثة «pm» وتراجع نسب المواليد الذكور، و اتفق مع كلاهما بحثان في تايوان وسكوتلاند، ولكن اختلف عن كل ما سبق بحثان آخران في تايوان وسكوتلاند أيضاً حيث أكدا عدم وجود دليل علمي مقنع أو نسب كافية تدعم ذلك الترابط المزعوم.
و لنكون أكثر وضوحاً ؛ تلك الأبحاث كانت تدور حول الأرقام والنسب، لم يكن بينهم بحث قوي حول تفسير كيفية حدوث ذلك، إلا أن هناك بعض الاقتراحات أن تلك الملوثات كانت تؤثر على دورة إنتاج الحيوانات المنوية مغيرة النسبة بين X و Y لصالح X. وبذلك خطونا خطوة تشوبها بعض الشكوك حول تأكيد خطر الملوثات الهوائية على مستقبل عدد المواليد الذكور. وهكذا تم الإجابة على الشق الأول من سؤال هل توجد علاقة بين تلوث الهواء وكلاً من نسبة الذكور وخصوبتهم؟
تلوث الهواء وخصوبة الذكور :
انطلقت ادعاءات قوية عن وجود ترابط بين التلوث الهواء وانخفاض نسبة الخصوبة لدى الذكور، تلك الادعاءات مدعومة ببعض الأبحاث القديمة التي تتصف بكثير من العيوب مثل عدم دقة الأجهزة المستخدمة حينها. ولكن ما جذب الانتباه حقاً؛ هو خفض منظمة الصحة العالمية القيم الطبيعية التي تقيس القدرة الإنتاجية لدى السائل المنوي أو الحيوانات المنوية على وجه التحديد . وكان ذلك الخفض مقروناً بزيادة نسبة ملوثات الهواء. لذلك انطلق الباحثون في ذلك المجال من كل حدبٍ وصوب وتم جمع نتائج 22 دراسة تقريباً من حول العالم حيال ذلك الأمر ونشر ورقة بحثية طويلة بالنتائج في جورنال «Reproductive biology and endocrinology».
اتفقت أغلب الدراسات في كيفية حساب التعرض الملوثات حيث تم جمع البيانات من قواعد البيانات الخاصة بتلوث الهواء خلال التسعين يوم قبل جمع عينات السائل المنوي. أمثلة على تلك النتائج:
- وجدت بعض الأبحاث في جمهورية التشيك أن زيادة نسبة التعرض لملوثات الهواء يتناسب عكسياً مع نسبة الحيوانات المنوية القادرة على الحركة، وذات الشكل الطبيعي. ولكن أظهرت دراسة أخرى تمت فيما بعد عدم وجود ذلك الترابط؛ لنخرج بافتراض أن اختلاف النتائج نابع من اختلاف التعرض للملوثات.
- في إطار دراسة في لوس أنجلوس حول الأوزون الأرضي أظهرت بوجود ترابط سلبي بين عدد الحيوانات المنوية والتعرض للأوزون الأرضي.
- في دراسة عام 2010 في مدينة «Salt Lake» في الولايات المتحدة الأمريكية؛ أظهرت التأثير السلبي للمواد الدقيقة الملوثة «pm2.5» على نسبة الحيوانات المنوية المتحركة، وذات الشكل الطبيعي.
- لاحظت دراسة في الصين أن التعرض لمركبات «PAHs» -مركبات عضوية خطيرة في السجائر- يقلل من النسبة الطبيعية للحيوانات المنوية وكذلك يؤثر سلباً على حركتها.
والعديد من النتائج المشابهة ظهرت في باقي الدراسات مع اختلافات طفيفة ترجع لاختلاف نسب التعرض للملوثات.
هل يمكن أن يؤثر تلوث الهواء على خصوبة العاملين في مهنة معينة؟
اهتمت دراسة في تركيا بذلك السؤال فجمعوا العينات من 35 عامل بمحطات الوقود – باعتبارهم الأكثر تعرضا لملوثات الهواء- ، وكذلك من 35 موظف مكتب، وكانت النتائج تشير أن المجموعة الأولى أقل من الثانية بكثير في نسب الحيوانات المنوية الطبيعية شكلاً، حركةً، وتركيزاً. تلك الدراسة كانت ضمن الاثنين وعشرين بحث السابق ذكرهم.
تُرى ماذا يحدث في الكواليس؟
ما الذي يتسبب في مثل ذلك الخلل الملحوظ في خصوبة الرجال؟ نجحت القليل من الدراسات أغلبها على الحيونات -الفئران- في الإجابة على ذلك السؤال:
- ففي دراسة عام 2006 ربطت بين قدرة الأوزون الأرضي على التسبب بالتهاب وإنتاج سموم قد تؤثر على عمل الخصية الطبيعي.
- دراسة في عام 2007: المواد الدقيقة «pm10» قد تصل للخصية متفاعلة مع المادة الوراثية DNA في أثناء تصنيع الحيوانات المنوية مسببة تكسيره وإفساده في الحيوانات المنوية الناتجة.
- أظهرت دراسة عام 2010 أن المواد الدقيقة «pm2.5» قد تؤثر على الغدد الصماء مفسدةً تصنيع البروتينات الضرورية لحركة الحيوانات المنوية وكذلك تفسد المادة الوراثية مؤثرةً بالسلب على حركة وعدد الحيوانات المنوية.
مما سبق يتضح وجود علاقة محتملة بين تلوث الهواء وكلاً من نسبة الذكور والخصوبة؛ مما يجعل الاهتمام بتقليل التلوث أمر واجب النفاذ ولم يعد رفاهية مختارة؛ لأجل مصلحة بقاء واستمرار الجنس البشري.
المصادر:
Air pollution and human sperm sex ratio
Air pollution and male fertility
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :