Ad

يقضي مُعظم الناس حياته عليها. سواء بالمنزل، أو بالشارع، أو بمقر العمل، أو بأي مبنى آخر يدخله المرء، فهي موجودة لا محالة. وبدونها سيبدو العالم المتقدم والمتطور الذي نعيش به مختلفًا اختلافًا جذريًا.

فهل علمت ما هي؟

-إنها الخرسانة.

على الرغم من أهميتها في حياتنا، إلا أنّ معظم البشر لا يعرفون كيف وأين صُنعت.

فهل هي قديمة؟ أم اختُرعت حديثًا مثل التلفاز أو الهاتف؟ ومن قام بابتكارها؟ وأين؟

تعالوا معي لنكتشف بعض المعلومات المثيرة عن تلك المادة الفارقة في تاريخنا.

ما هي الخرسانة؟

قبل الخوض في تاريخ الخرسانة وكيف وأين صُنعت، يجب أولاً تصحيح مفهوم خاطئ: وهو أن الخرسانة هي الإسمنت.

على الرغم من أن الكلمتين غالبًا ما يتم الخلط بينهما، إلا أن هناك فرقًا رئيسيًا واحدًا: وهو أن الإسمنت مكون من مكونات الخرسانة.[1][2][3]

يُصنع الإسمنت من مجموعات مختلفة من الحجر الجيري، والطين، والحصى، والطباشير، والصخر الزيتي، والأردواز، ورمل السيليكا. يتم سحق/طحن هذه المكونات ثم تسخينها في درجات حرارة عالية للغاية لإنتاج مادة تسمى الكلنكر-وهي مادة أسمنتية صلبة للغاية- ثم يُضاف الجبس إلى الكلنكر، ويُطحن الخليط بالكامل جيدًا لإنتاج مسحوق الإسمنت.[1][2][3]

يُضاف الماء بعد ذلك، فتقوم جزيئات الماء بعمل روابط كيميائية مع المعادن الموجودة في مسحوق الإسمنت، وهذه المعادن هي: الكالسيوم، والسيليكون، والألمنيوم، والحديد، وغيرها. مع انتهاء هذه العملية، يتبخر الماء ويجف المعجون، تاركًا وراءه هذه الروابط في مادة تشبه الصخور. وحينها: نحصل على الخرسانة.[1][2][3]

نعلم ممّا سبق أن الخرسانة هي عبارة عن خليط من عجينة الإسمنت والماء وركام الرمل والصخور.

الأنباط هم أول من استخدموا الخرسانة!

يوجد تاريخ طويل ومثير للإعجاب لهذه المادة منذ آلاف السنين. وعلى الرغم من صعوبة تصديق أن وجودها يرجع إلى ذلك العصر القديم -نظرًا لصعوبة تقنية تصنيعها وتشغيلها- إلا أنها قد استُخدمت بالفعل من قبل النبطيين الذين احتلوا وسيطروا على سلسلة من الواحات في مناطق جنوب سوريا وشمال الأردن منذ حوالي 6500 قبل الميلاد. وهم الذين قاموا ببناء مدينة البتراء بالأردن،التي تُعد أحد أكثر الأماكن الأثرية شهرةً في العالم. وكان كل هذا بسبب اكتشافهم لمزايا الجير الهيدروليكي. -أي الإسمنت الذي يتصلب تحت الماء-

كان النبطيون بحلول عام 700 قبل الميلاد يقومون ببناء منازل ذات جدران، وأرضيات خرسانية، وصهاريج/خزانات مقاومة للماء تحت الأرض. ظلت الصهاريج في طي الكتمان وكانت أحد الأسباب التي أدت إلى ازدهار الأنباط في الصحراء.[1][3][4]

أدرك النبطيون الحاجة إلى الحفاظ على المزيج جافًا بحيث يكون المحتوى المائي بأقل نسبة ممكنة. لأن الماء الزائد يؤدي إلى إحداث فراغات ونقاط ضعف في الخرسانة. ولذلك كانوا يقومون بدكّ الخرسانة والتي بدورها تقوم بتثبيت وربط المكونات بشكل أكبر.[1]

بناء أهرامات الجيزة وسور الصين العظيم بالخرسانة!

تم العثور عند الفراعنة على دلائل-تعود إلى أكثر من 3000 سنة قبل الميلاد- من عينات تم أخذها من أهرامات الجيزة. تشير إلى استخدامهم لمونة من الجبس ومونة من الجير والطين الممزوج بالقش لترتبط أكثر بالحجارة المُستخدمة في البناء. ويُقدّر حجم المونة المستخدمة في بناء الهرم الأكبر بحوالي 500,000 طن من المونة![1][3][4]

وفي نفس هذا التوقيت وعلى الجانب الآخر من الكرة الأرضية، كان الصينيون يستعملون الأرز كمادة لاصقة كالإسمنت مع عيدان الخيزران لتثبيت قواربهم. وقد استعملوه أيضًا في بناء سور الصين العظيم أحد عجائب الدنيا السبع![1][3][4]

براعة الهندسة الرومانية في البناء

اكتشف الإغريق -منذ 600 قبل الميلاد- مادة البوزلان-وهي مادة بركانية سوداء مثل الحصى تستخدم في تصنيع الإسمنت- لكنهم لم يستفيدوا منها شيئًا. وعلى النقيض منهم كان الرومان-منذ 200 قبل الميلاد- يبنون الكثير من المباني باستخدام الخرسانة. لكنها لم تكن مثل الخرسانة التي تستخدم اليوم، بل كانت أشبه بركام أسمنتي. وقد بنى الرومان معظم هياكلهم عن طريق تكديس الأحجار ذات الأحجام المختلفة وملء الفراغات بين الأحجار يدويًا بالمونة.[1][3][4]

قد يُعتبر”البانثيون”-ويعني معبد كل الآلهة- أشهر مُنشأة تم بناءها من قبل الرومان. وقد تم بناءه في عصر الإمبراطور “هادريان” عام 124 بعد الميلاد. وتوجد به أشهر قبة غير مسلحة -أي لا يوجد بها حديد تسليح لتقويتها من إجهادات الشد-. وظلت القبة صامدة حتى الآن أي ما يقارب2000 سنة رغم كل الزلازل التي تعرّضت لها المنشأة، والكفيلة بهدم المُنشأة كاملة وليس القبة فقط![1]

قام علماء وباحثون بجامعة كاليفورنيا في عام 2013 بدراسة عينات من الخرسانة الرومانية المأخوذة من ميناء بالقرب من نابولي بإيطاليا. أثبتت تلك الدراسة أن الخرسانة التي استخدمها الرومان منذ أكثر من 2200 سنة أقوى من الخرسانة التي نستعملها حاليًا في البناء![5]

وجد الباحثون أيضًا أن العملية الرومانية لإنشاء الخرسانة تُطلق كمية أقل من ثاني أكسيد الكربون مقارنة بالطريقة الحالية. حيث يتطلب الإسمنت البورتلاندي الحالي كمية كبيرة من الحرارة لإنتاجه. بينما استخدم الرومان مادة طبيعية، وهي الرماد البركاني.[5]

وعلى الرغم من أن الخرسانة الرومانية أقوى وأقل تأثيرًا على البيئة، فمن غير المُرجح أن تحل محل نسختنا الحديثة. لأنها تستغرق وقتًا أطول في عملية الجفاف أكثر من الخرسانة الحالية. مما يعني إهدار الكثير من الوقت، وكلنا نعلم أن الوقت هو المال في مشاريع الإنشاءات وبالتالي هذا يجعل الخرسانة الحالية مفضلة في الاستخدام.[5]

إعادة اكتشاف الخرسانة بالعصور المظلمة

خلال العصور الوسطى المظلمة، تراجع استخدام الخرسانة في البناء. فبعد سقوط الإمبراطورية الرومانية عام 476 بعد الميلاد، فُقدت تقنيات صناعة الإسمنت البوزولاني بالطريقة الرومانية.إلى أن تم اكتشاف مخطوطات رومانية قديمة -تعود لعام1414م- تصف تلك التقنيات. فأدى الأمر إلى إعادة تنشيط الاهتمام بالبناء بالخرسانة.[1][3][4]

ولم يكن حتى عام 1793 ميلاديًا عندما قفزت التكنولوجيا قفزة كبيرة إلى الأمام عندما اكتشف “جون سميتون” طريقة أكثر حداثة لإنتاج الجير الهيدروليكي (المونة) للإسمنت. حيث استخدم الحجر الجيري في مزيجٍ يحتوي على الطين ثم قام بتسخين هذا المزيج حتى تحول إلى الكلنكر -وهي مادة أسمنتية صلبة للغاية- ثم قام بطحن هذا الكلنكر حتى تحول إلى مسحوقٍ. ثم قام باستخدام هذه المادة في إعادة البناء التاريخي لمنارة إديستون في كورنوال، إنجلترا. والتي هُدمت بعد 126 عامًا بعد تآكل الصخرة التي كانت قد بُنيت عليها من أمواج البحر![1][3][4]

أخيرًا، وفي عام 1824 ميلادي، اخترع رجل إنجليزي يُدعى “جوزيف أسبدين” الإسمنت البورتلاندي عن طريق حرق الطباشير المطحون جيدًا في مزيجٍ مع الطين في فرن حتى يتم إزالة ثاني أكسيد الكربون من المزيج. وسُمي بأسمنت “بورتلاند” لأنه يُشبه أحجار البناء عالية الجودة الموجودة في بورتلاند بإنجلترا.[1][3][4]

ومن هنا، كانت بداية طريق طويل للغاية في عملية تطوير الخرسانة كما نعرفها حاليًا، حيث تم ابتكار خرسانة مُضيئة في الليل لتنير للمارين بسياراتهم ليلاً بدلاً من عواميد الإنارة التي تستهلك الكهرباء![6]

إن الخرسانة التي تبدو كخرسانة عادية ذات لون رمادي أثناء النهار. ستولد – عند حلول الليل- توهجًا مضيئًا يستمر طوال الليل دون الاتصال بأي مصدر طاقة. على الرغم من أن هذا قد يبدو كتكنولوجيا لاتوجد إلا في كتب وروايات الخيال العلمي، إلا أنه في الواقع شيءٌ ممكنٌ هذه الأيام![6]

بين هذا وذاك، تبقى الخرسانة أحد أهم ابتكارات الانسان على مر العصور. وإن كنت لا تتفق معي في هذا يا صديقي، فأنصحك أن تتخيل العالم بدون تلك المادة. كيف كان يمكن أن يكون حاله؟!

المراجع

  1. The Inter­national Association of Certified Home Inspectors: History of Concrete
  2. Concrete Network: What is Concrete?
  3. Big Rentz: The history of Concrete
  4. GiatecScientific: The history of Concrete
  5. Concrete Network: Roman Concrete study
  6. Concrete Network: Glow in the dark

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


غير مصنف

User Avatar

Beshoy Samy


عدد مقالات الكاتب : 6
الملف الشخصي للكاتب :

شارك في الإعداد :
تدقيق لغوي : صفاء بلحساوية

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق