يُعتَبر الكاتب والمفكّر جورج طرابيشي من أهمّ المفكّرين والناقدين في العصر الحديث. حيث اشتُهِرَ بترجماته الغزيرة لفرويد وهيغل وسارتر وغيرهم. كما اشتهر بمشروعه الفكري الضخم «نقد نقد العقل العربي» الذي جاء ردّاً على مشروع محمد عابد الجابري «نقد العقل العربي». وعمل أيضاً على تحديد الإشكاليّات التي تعيق تطوّر المجتمعات العربيّة. وفي مقدمتها إشكاليّة الديمقراطيّة الأكثر إلحاحاً على الساحة العربيّة. فالإشكاليّة، على عكس المشكلة التي يتم حلّها بطريقةٍ علميّةٍ برهانيّة، هي طرحٌ يتناول مسألةً تخضع لأجوبةٍ متعددةٍ متناقضةٍ أحياناً. تختلف هذه الإجابات باختلاف أدوات المعرفة وبتطور النظرة التاريخيّة. فهي لا تتحرّى عن جوابٍ بقدر ما تحاول إعادة صياغة السؤال. من هنا تناول طرابيشي الإشكاليّة الديمقراطيّة في عدّة مستويات ومحاور في محاولة تصويب المفاهيم. فكيف حلّل جورج طرابيشي الإشكاليّة الديمقراطيّة في العالم العربي؟
الديمقراطيّة في العالم العربي
يتبنى المثقّف العربيّ اليوم تحت ضغط التأخر الفكريّ والسياسيّ والعسكريّ في مواجهة الغرب، وفي محاولة اللحاق بالمجتمعات المنتجة للحداثة، الديمقراطيّة كأيديولوجيا خلاصيّةٍ تمتلك الحلّ السحريّ لجميع القضايا بعد فشل المشاريع القوميّة والاشتراكيّة التي عوّل عليها سابقاً. لكنّ الديمقراطيّة، كما يراها جورج طرابيشي، هي نتاج تطوّر المجتمع وتقدمه وليست مفتاح هذا التطوّر. حيث يحتاج ترسيخها إلى جهدٍ مضاعفٍ في فكر الفرد وبنية المجتمع. فهي وإن كانت شرطاً أساسياً لا يحدث الإقلاع دونه، لن تعطي الهدف منها دون توافر كافة العوامل الأخرى. وإذا تمّت ممارسة الديمقراطيّة في مجتمعاتٍ غير مؤهّلةٍ أو تمّ فرضها بطريقةٍ ميكانيكيّةٍ أدّت إلى نتائج كارثيّةٍ. وهو ما يظهر في التجارب التاريخيّة في أمريكا المكارثيّة والجمهوريّة الفرنسيّة الرابعة وغيرها من الأمثلة.
والديمقراطيّة التمثيليّة وعلى الرغم من أصولها اليونانيّة هي اختراع الطبقة البرجوازيّة التي صنعت الحداثة. تظهر لظهورها وتغيب لغيابها. لذلك لا تظهر الديمقراطيّة في المجتمعات الاشتراكية والشيوعيّة ولا في دول العالم الثالث. فالثورات الوطنيّة اليساريّة والانقلابات العسكريّة التي اجتاحت الوطن العربي قضت على الطبقة البرجوازيّة المترهّلة أساساً والمنحدرة من صلب الإقطاع وبالتالي على الديمقراطيّة في سبيل ترسيخ سلطتها المطلقة. لذلك تدفع المجتمعات العربيّة اليوم ثمن تغييب البرجوازيّة من خلال ضغط السلطات الفوقيّة السّاعية لترسيخ دكتاتوريّتها، وضغط الحركات الشعبيّة الأصوليّة والمنذرة بقطعٍ أكبر مع قيم الحداثة والديمقراطيّة.
الديمقراطيّة بين قمع السلطة والتشدّد الدينيّ
« الأنظمة العربيّة لا تتحمّل انتخاباً حراً، والمجتمعات العربيّة لا تتحمّل رأياً حراً »
جورج طرابيشي
تصوّر التحليلات الشعبويّة المأزق الديمقراطيّ في العالم العربيّ على أنّه نتيجةٌ منطقيّةٌ لانفراد الدولة في التحكّم في مصائر الشعب دون أن يكون للمجتمع المدنيّ دورٌ في الحكم. أمّا جورج طرابيشي فيرى أنّ ضعف الدولة وقلّة حضورها هو السبب في هذا المأزق دون إغفال دور ضعف المجتمع المدنيّ ومحدوديّة فعاليته في هذا الإشكال. فالدولة واقعةٌ تحت عدوان السلطة الدكتاتوريّة التي كسرت احتكار الدولة للتنظيم وللعنف الشرعيّ ومارست العنف ضد الدولة والمجتمع على السواء. لذلك لابدّ من إعادة الاعتبار إلى الدولة وسلطة القانون من أجل حلّ الإشكاليّة الديمقراطيّة.
تقدّم الديمقراطيّة عن طريق مبادئ فصل السلطات وحقوق الإنسان علاجاتٍ ناجعةً لمحاولات مراكمة المزيد من السلطة في يد الدولة. لكّن انتشار الطائفيّة والتقوقع الدينيّ في المجتمعات العربيّة تقوّض الديمقراطيّة. فالأكثريّة داخل البرلمان ليست أكثريّةً حزبيةً وإنّما أكثريّةٌ دينيّةٌ طائفيّة والتصويت لا يكون إلّا في خدمة المصالح الدينيّة أو الإثنيّة. كما يدخل التشدد الدينيّ في صدامٍ عنيفٍ مع مبادئ حريّة الفكر والاعتقاد الأساسيّة في كلّ نظامٍ ديمقراطي باستخدام سلاح التكفير الذي يتراوح تأثيره بين العنف المعنوي والسجن وحتّى القتل. لذلك فإّن المبادئ الديمقراطيّة واقعةٌ بين ضغط الرِّقابة السياسيّة للسلطة وضغط الرِّقابة الشعبيّة الدينيّة.
يرى جورج طرابيشي أنّ تحديث النظام الاجتماعي والتعليمي وبالتالي تحرير العقل العربيّ من الجهل من شأنه ترسيخ الظاهرة الديمقراطيّة على أساسٍ اجتماعي. لذلك لن يتمّ ترسيخ الديمقراطيّة ولن تكون حريّة صندوق الاقتراع واقعاً ما لم يتم تحرير الفكر في المجتمعات العربيّة. فمجتمعٌ يريد الديمقراطيّة في السّياسة لا بد أن يقبلها في الفكر والدين.
المصادر: كتاب هرطقات للكاتب جورج طرابيشي
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :