فكر بالأمر جيدًا، ما هي المدينة؟ حسب رأي عالم الآثار الأسترالي غوردون تشايلد فهي مستوطنة مكتظة بالسكان. تحتوي على مبانٍ ضخمة. يتمتع شعبها بالقدرة على الإبداع والكتابة والفن ويستخدمون نوعًا من العملات في حياتهم ويدفعون الضرائب. لهم علاقات تجارية على مسافات طويلة، كما أنهم ينتجون فائضًا من السلع، وبالنسبة لحياتهم الاجتماعية فهي مبنية على الطبقية. إن المدن أو المراكز الحضارية، سواء كانت موجودة قبل 9 آلاف عام أو اليوم، فإن لها تاريخًا فريدًا. ومع ذلك، بغض النظر عن سبب تشكلها أو كيفية ازدهارها، فإن جميع هذه المدن ستواجه نفس المصير: النهاية المحتمة. وفي هذا التقرير سنتحدث عن قصة أربع مدن ضائعة.
محتويات المقال :
المدن الأربعة
لن نتكلم هنا عن مغامرات اكتشاف المدن المدفونة تحت الرمال. ولا عن أسطورة المدينة المفقودة أو الحضارة الغارقة، فهذه المفاهيم والأفكار دائمًا ما تحجب الحقيقة؛ حقيقة كيف يدمر الناس حضاراتهم.
مدينة “شاتال هويوك-Çatalhöyük” بوسط تركيا، هي واحدة من أولى المدن في العالم. استوطنها البشر من حوالي 7100 إلى 5700 قبل الميلاد. وصفها بعض علماء الآثار بأنها مجموعة من القرى، فقد كانت المدينة تعج بالنشاط قبل تعرضها للفيضانات وتخلي سكانها عنها. أما مدينة بومبي الرومانية عاش فيها رجال أعمال من عدة طبقات اجتماعية لعدة قرون. قبل أن تدفن في الرماد البركاني في عام 79 بعد الميلاد.
أما مدينة “أنغكور-Angkor” في كمبوديا (حوالي 800 إلى 1431 م)، فقد اعتمدت على شبكة ضخمة من القنوات وبرك التخزين التي بناها الخدم أو العبيد. قبل أن تنتهي بسبب النزاعات مع العمال المثقلين بالديون وبسبب البنية التحتية الفاشلة. وعلى طول سهول نهر المسيسيبي، جذبت مدينة “كاهوكيا- Cahokia” (حوالي 1050 إلى 1350 بعد الميلاد) الناس من جميع أنحاء المنطقة الذين تجمعوا للاحتفالات الدينية والثقافية. ومن المحتمل أن يكون سكانها قد عانوا كثيرًا لأن قادتها أصبحوا أكثر استبدادًا وربما تسبب تغير المناخ في الجفاف والمجاعة.
يروي الصحفي العلمي “Annalee Newitz” في كتابه “أربع مدن ضائعة” قصصًا رائعة عن الناس في هذه المدن الكبرى. وعن كيفية توصل الباحثين وعلماء الآثار إلى فهمهم الحالي عن هؤلاء الناس وكيف عاشوا حياتهم. والعديد من الاكتشافات في هذا المضمار تحصل بمساعدة التقنيات الجديدة والأساليب التحليلية الحديثة.
الاكتشافات الآثرية
توضح التماثيل الأنثوية التي يواصل علماء الآثار اكتشافها في شاتال هويوك الديانة والمعتقدات الذي يبدو أنها انتشرت في جميع أنحاء المنطقة. وتساعد الأدلة على الحرائق في إظهار كيف تغيرت المدينة على مدار تاريخها الذي يقارب 1500 عام. أما في بومبي، فيستخدم الباحثون “البيانات الضخمة” لبناء صورة أكثر اكتمالاً للحياة اليومية هناك.
يستفيد علم الآثار من كل شيء بدءًا من العلامات على الصخور وحتى النقوش على الورق. يمكن أن ينتج عن تحليل التآكل على أحجار الشوارع في بومبي ثروة من المعلومات: تشير الحفر في الطريق التي تصنعها آلاف المركبات التي تتحرك إلى المسافة بين عجلات العربات. تظهر القواطع على الأرصفة العالية التي منعت المشاة من السير في مياه الصرف الصحي المتدفقة عبر الشوارع أن الرومان من المحتمل أنهم قادوا عرباتهم على الجانب الأيمن من الطريق. كما توجد على بعض الجدران في مدينة بومبي كتابة لنساء يفخرن بتجارتهن حيث يحولون الإماء إلى عاملات بالجنس.
في أنغكور، يستخدم علماء الآثار تقنية الليدار، وهي تقنية تستخدم الليزر لرسم خرائط للأشكال الجغرافية المخبأة في الأرض. تُستخدم تكنولوجيا البيانات هناك أيضًا لتحليل قوائم العمال، واتضح أن غالبيتهم من النساء.
في كاهوكيا، استخدم علماء الآثار مقاييس المغناطيسية من أجل كشف الهياكل المدفونة. لأنها يمكن أن تكتشف الحالات الشاذة التي يمكن أن تمثل طبقات التربة المضطربة، والأشياء المحروقة، والمعادن على بعد عدة أقدام تحت السطح.
نظريات الانهيار
عندما يكتشف الباحثون شيئًا جديدًا عن هذه المدن – سواء كان مفهوم أعمق للجنس في الحضارة الرومانية في بومبي أو التضحية البشرية في كاهوكيا – فإن اكتشافاتهم تتأثر حتمًا بما تعتبره مجتمعاتنا الحالية مقبولًا أو غير مقبول. لا تزال منحوتات القضيب، التي يُعتقد أنها تجلب الحظ السعيد، محفوظة في قسم “الخزانة السرية” في متحف نابولي، على الرغم من أن أصحاب المتاجر عرضوها بشكل بارز في بومبي القديمة.
في الأوساط العلمية، تضاءلت فكرة سقوط الحضارات فقط بسبب التفاعل البشري مع البيئة قبل أن يعيد جاريد دياموند الحياة إلى هذه النظرية بكتابه الصادر عام 2004 بعنوان “الانهيار: كيف تختار المجتمعات أن تفشل أو تنجح”. فالبيئة عامل مساهم في التفكك الحضاري، ولكن هذا جزء فقط من القصة. التخلي عن المدينة وهجرها هو الأهم.
غالبًا ما يرغب قادة المدن أو أفراد العائلة المالكة في الاستثمار في المباني والمناظر الجميلة. بدلاً من الأشياء التي يحتاجها الناس للازدهار، مثل البنية التحتية العاملة والأسواق الآمنة. وبدون هذه الأشياء، غالبًا ما تكون المدن أكثر عرضة للكوارث البيئية، والتي يمكن أن تؤدي إلى اضطرابات سياسية عندما تغمر المنازل بالمياه أو تذبل المحاصيل.
إقرأ أيضًا: الانهيار الحضاري الكبير .. هل احتلت شعوب البحر العالم؟
هل تنهار الثقافة مع انهيار المدينة؟
انهارت المدينة، لكن هل تموت الثقافة عندما تختفي المستوطنة؟ إن معظم المهاجرين من المدن القديمة عبر التاريخ أخذوا معهم قيمهم وفنونهم وتقنياتهم واندمجوا في المدن الجديدة.
في حالة بومبي، على سبيل المثال، غالبًا ما انتقل أولئك الذين نجوا من الانفجار البركاني إلى مدن أخرى استعمرها الرومان. ربما انتشر سكان كاهوكيا السابقون وشكلوا مجتمعات أصغر عبر الغرب الأوسط.
تتوسع المناطق الحضرية وتتقلص مع موجات الهجرة بمرور الوقت. عندما ينقسم سكان المدينة إلى قرى أصغر، فهذا ليس إخفاقًا. إنه مجرد تحول، غالبًا ما يعتمد على استراتيجيات البقاء السليمة. وتستمر ثقافة تلك المدينة في تقاليد الناس الذين عاش أجدادهم هناك، وسيستمر الكثير منهم في بناء مدن جديدة على صورتها.
على الرغم من أنها قد لا تدوم إلى الأبد، إلا أن المدن الناجحة تحتاج إلى أشياء معينة لتزدهر: البنية التحتية المرنة، والمناطق التي يمكن للجمهور الوصول إليها، وتوفر المساكن للجميع، والحراك الاجتماعي، والقادة الذين يحترمون عمال المدينة.
المصادر
1- Four Lost Cities: A Secret History of the Urban Age
2- Man makes Himself
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :