
لطالما كان علم الوراثة محورًا للتساؤلات الأخلاقية العميقة، ومع ظهور تقنيات تحرير الجينات مثل تقنية “كريسبر-كاس9″، تصاعدت هذه التساؤلات إلى مستويات غير مسبوقة. فبينما تعد هذه التقنية ثورة واعدة لعلاج الأمراض الوراثية وتحسين صحة الإنسان، تلوح في الأفق مخاوف جدية بشأن استخدامها لتعديل جينات الأجنة البشرية، خاصة مع دخول جهات تجارية ومليارديرات التكنولوجيا على الخط. تبرز هذه المقالة النقاش الدائر حول هذه التطورات، مع تسليط الضوء على أبرز اللاعبين والمخاوف الأخلاقية والقانونية المرتبطة بها.
محتويات المقال :
تقنية “كريسبر-كاس9”
تُعد تقنية “كريسبر-كاس9” (التي تعني “التكرارات العنقودية المتناوبة القصيرة والمتباعدة بانتظام” المرتبطة ببروتين كاس9) أداة قوية وثورية لتحرير الجينات. وهي مستوحاة من نظام دفاعي طبيعي في البكتيريا ضد الفيروسات، حيث تتيح للعلماء تعديل تسلسلات الحمض النووي (DNA) بدقة متناهية. تُستخدم هذه التقنية في مجالات واسعة، تتراوح من علاج الأمراض الوراثية مثل فقر الدم المنجلي والتليف الكيسي، إلى تحسين المحاصيل الزراعية لزيادة مقاومتها للآفات والأمراض، وصولاً إلى البحوث الأساسية لفهم وظائف الجينات المعقدة. ومع ذلك، فإن إمكانية تطبيقها على الجينات البشرية، وخاصة في الأجنة، يطرح تحديات أخلاقية وقانونية كبيرة تتطلب نقاشًا عالميًا مستفيضًا.
فضيحة “أطفال كريسبر” عام 2018: نقطة تحول عالمية
في نوفمبر 2018، هز العالم خبرٌ صادم أعلنه العالم الصيني هي جيانكوي، حيث كشف عن نجاحه في إجراء تجربة غير مسبوقة باستخدام تقنية “كريسبر-كاس9” لتحرير جينات أجنة بشرية، مما أدى إلى ولادة توأم، لولو ونانا، تم تعديل جيناتهما لجعلهما مقاومتين لفيروس نقص المناعة البشرية (HIV). كانت هذه هي المرة الأولى التي يُعلن فيها عن ولادة أطفال معدلين وراثيًا، مما أثار موجة من الاستنكار والإدانة العالمية من قبل المجتمع العلمي والأخلاقي. حُكم على هي جيانكوي بالسجن لمدة ثلاث سنوات في ديسمبر 2019، بالإضافة إلى غرامة مالية كبيرة، بتهمة انتهاك القوانين الطبية والأخلاقية الصينية. وقد دفعت هذه الفضيحة الحكومات والمنظمات الدولية إلى إعادة تقييم الحاجة الملحة إلى وضع أطر تنظيمية صارمة لهذه التقنيات لمنع تكرار مثل هذه التجارب غير المنضبطة.
دور المليارديرات والعلماء
على الرغم من الجدل الأخلاقي والقانوني الذي أعقب فضيحة 2018، يبدو أن هناك حركة متزايدة نحو تسويق تقنية “كريسبر ” لتحرير جينات الأجنة البشرية. فوفقًا لمقالة نشرتها The tech billionaires and rogue scientists moving to commercialize CRISPR babies في يونيو 2025، تخطط شركات مثل “بوتستراب بيو” (Bootstrap Bio) لإجراء تجارب بشرية على الأجنة في هندوراس خلال عامي 2026 أو 2027. يهدف هذا التوجه إلى تجنب القيود التنظيمية الصارمة المفروضة في الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى.
بالإضافة إلى ذلك، أعلن براين أرمسترونغ، الملياردير ومؤسس شركة “كوينبيز” (Coinbase) للعملات المشفرة، عن استعداده لتمويل شركات ناشئة أمريكية متخصصة في تحرير جينات الأجنة. هذا الدعم المالي من قبل شخصيات مؤثرة يشير إلى اهتمام قوي بتحويل هذه التقنية إلى مشروع تجاري.
كما أن هناك علماء بارزين مثل دايتر إيجلي وباولا أماتو، واللذين يحملان براءات اختراع في مجال تحرير الجينوم الوراثي، يدعمون هذه الجهود البحثية والتجارية. والمثير للدهشة، أن هي جيانكوي نفسه، بعد إطلاق سراحه من السجن في عام 2022، يُقال إنه حصل على تمويل جديد من مستثمرين أمريكيين، مما يعكس استمرار الاهتمام بهذا المجال على الرغم من تاريخه المثير للجدل.
المعارضة والمخاوف الأخلاقية: دعوات لحظر عالمي
في المقابل، تتزايد الأصوات المعارضة لهذه الجهود التجارية والعلمية غير المقيدة. في مايو 2025، دعت ثلاث منظمات بارزة، بما في ذلك المرصد العالمي لتحرير الجينوم البشري، إلى فرض حظر عالمي شامل لمدة عشر سنوات على جميع أشكال تحرير الجينوم الوراثي البشري. تأتي هذه الدعوة بسبب مخاوف جدية تتعلق بالسلامة على المدى الطويل للأفراد المعدلين وراثيًا، بالإضافة إلى عدم وجود حاجة طبية واضحة ومبررة لهذه التدخلات في الوقت الحالي.
تتجاوز المخاوف القضية الطبية لتشمل أبعادًا أخلاقية واجتماعية أعمق. هناك قلق واسع النطاق من أن يؤدي استخدام هذه التقنية إلى تعميق الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، مما قد يخلق “فئة” من البشر المعدلين وراثيًا بامتيازات معينة، في مقابل فئات أخرى. كما يُخشى من ظهور شكل جديد من “الاختيار الجيني” الذي قد يقود إلى مجتمعات مبنية على معايير جينية محددة، مما يهدد مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية الجدول: ملخص الجهود والمعارضة في مجال تحرير الجينات
مستقبل غامض لتقنية تحرير الجينات البشرية
تمثل تقنية “كريسبر” إنجازًا علميًا هائلاً يحمل وعودًا كبيرة في مجال الطب والبيولوجيا. ومع ذلك، فإن تطبيقها على تحرير الجينات البشرية، وخاصة في الأجنة، يظل قضية محفوفة بالجدل الأخلاقي والاجتماعي العميق. فبينما يرى بعض المليارديرات التكنولوجيين والعلماء في هذه التقنية فرصة غير مسبوقة للابتكار وتحقيق تقدم طبي، يرى آخرون فيها خطرًا وجوديًا على البشرية وعلى القيم الأخلاقية التي يقوم عليها المجتمع. يبقى مستقبل هذه التقنية غير واضح المعالم، وتطوره سيتوقف بشكل كبير على الأطر القانونية والأخلاقية التي ستوضع لضبط استخدامها، خاصة في ظل الضغوط المتزايدة نحو تسويقها والمعارضة القوية التي تواجهها.
قراءة المزيد: وعود “كريسبر” ومخاطر تحرير جينات الأجنة: هل يقود مليارديرات التكنولوجيا و”العلماء المارقون” البشرية نحو مصير مجهول؟!سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :