شكل اعتبار الفيروسات حية من عدمه جدلية واسعة عبر الزمن ولا يزال. ولنفهم جوانب هذا النقاش لابد لنا من الإجابة عن سؤال آخر لا يقل أهمية.
محتويات المقال :
كيف تعرف العلوم المختلفة الحياة؟ وما هي نقاط الضعف في كل منها؟
يعرف علم الاستقلاب Metabolism الأنظمة الحية بأنها كائنات ذات حدود واضحة، فهي تتبادل بعض المواد مع محيطها لكن دون أن تغير صفاتها العامة، على الأقل خلال فترة زمنية معينة.
إلا أن هذا التعريف لا يخلو من الاستثناءات، حيث تبقى بعض الأبواغ والبذور على سبيل المثال خاملة دون نشاط استقلابي لمئات وربما آلاف السنين في درجات الحرارة المنخفضة، لكنها سرعان ما تستعيد نشاطها هذا عند تواجد ظروف بيئية ملائمة.
ولكن ماذا عن احتراق الشمعة؟! أليس للهب شكل محدد وحدود واضحة؟! بل وأليس يحافظ على هذه الحدود من خلال استقلابه لماده الشمع العضوية وجزيئات الأكسجين المحيطة منتجا بذلك ثاني أوكسيد الكربون والماء؟! هل يمكننا أن نقول إذا أن لهب الشمعة حي؟!
يدفعنا هذان المثالان الجدليان للتفكير مليا قبل القول أن التعريف السابق كاف للإجابة عن معنى الحياة.
فيما يعرف علم وظائف الأعضاء Physiology الحياة بأنها أي نظام قادر على أداء وظائف مختلفة مثل الأكل والتمثيل الغذائي والإفراز والتنفس والحركة والنمو والتكاثر والاستجابة للمنبهات الخارجية.
مجددا، لا يخلو هذا التعريف من المشاكل الجدلية التي تؤثر على كفايته ودقته. حيث أن العديد من الخصائص سابقة الذكر غائبة عن بعض الكائنات مثل بذرة الشجرة الخاملة ذات الغلاف القاسي والتي ندعوها جميعا بالحية، فيما أننا قد نجدها في العديد من الآلات التي بالطبع لن يرغب أحدنا بتسميتها كائنا حيا!!
تنظر الكيمياء الحيوية للكائنات الحية على أنها أنظمة تحوي معلومات وراثية قابلة للتكاثر مشفرة ضمن جزيئات الحمض النووي، وتقوم بعملية الاستقلاب عن طريق التحكم في معدل التفاعلات الكيميائية باستخدام المحفزات البروتينية المعروفة باسم الإنزيمات.
قد يكون هذا التعريف أكثر إرضاءً من التعريفات الفسيولوجية أو الاستقلابية للحياة إلا أن الأمر لا يخلو من الأمثلة الخلافية. تفتقر البريونات وهي عوامل شبيهة بالفيروسات إلى الأحماض النووية، إلا أن الأحماض النووية الخاصة بالخلايا الحيوانية المضيفة قد تكون متورطة في تكاثرها.
في مثال آخر، يمكن لجزيئات الحمض النووي الريبي (RNA) أن تتكاثر وتطفر ومن ثم تستنسخ طفراتها في أنابيب الاختبار وذلك على الرغم من أنها ليست حية في حد ذاتها!
علاوة على ذلك، فإن تعريفا مقتصرا على المصطلحات الكيميائية لوحدها يعتبر ضعيفا.
نلاحظ من خلال استعراضنا السابق أنه لا يوجد إلى الآن جواب حاسم ودقيق عن معنى الحياة، وربما يكون هذا أحد الجوانب المساهمة في الخلاف حول الفيروسات.
إذا، هل الفيروسات كائنات حية؟!
يعتبر D.David Bhella أستاذ علم الفيروسات البنيوي أن محاولة إيجاد تعريف دقيق لـ “الحياة” ليس لها قيمة عملية تذكر، ولكن من الممتع بالنسبة له التفكير بذلك.
ويعتقد بأن الجدلية حول كون الفيروسات حية من عدمها غالبا متجذرة في إجابتها ضمن علم الأحياء التطوري والفرضيات حول أصول الحياة. حيث يمكن لجميع الكائنات الخلوية أن تدعي نسبًا مباشرًا لخلية أو خلايا بدائية من خلال العودة لسلسلة مستمرة من الانقسامات الخلوية التي مرت بها. فهل الفيروسات قادرة على ادعاء أصل مماثل؟
إضافة لتساؤل D.behella يضيف علماء الأحياء الدقيقة تساؤلا آخر حول إمكانية مساهمة الفيروسات في تطور الكائنات الحية الأخرى، مما سيعزز من كونها كائنا حيا كذلك.
للإجابة عن هذه التساؤلات، فلنخض رحلة قصيرة في عالم تطور الكائنات الحية والفيروسات.
اقترحت نظرية التطور لأول مرة بناءً على الملاحظات البصرية للحيوانات والنباتات.ثم ساعد اختراع المجهر الضوئي في النصف الأخير من القرن التاسع عشر العلماء على البدء باستكشاف العالم الشاسع للكائنات غير المرئية، والتي أطلق عليها لويس باستور اسم الأحياء الدقيقة Microbes. مما أدى إلى إعادة التفكير في تصنيف الكائنات الحية.
حيث اقترح من قبل كارل ويز وعلماء آخرين في منتصف السبعينيات تصنيف جديد للكائنات الحية، استنادا على تحليل جيناتها الريبوزومية، يقسمها إلى: حقيقيات النوى والبكتيريا وبدائيات النوى.
وعلى الرغم من أن الفيروسات كانت مرئية في ذلك الوقت باستخدام المجاهر الإلكترونية إلا أنها تركت خارج شجرة الحياة لأنها لم تكن تمتلك الجينات الريبوزومية المستخدمة عادة في التحليلات الجينية.
حاليا، ومع ظهور تسلسل الجينوم الكامل، أدرك الباحثون أن معظم الكائنات الحية تحتوي في الحقيقة على جينات من مصادر مختلفة ( حقيقيات النوى وبدائيات النوى وفيروسية على حد سواء ). هذا يقودنا إلى إعادة التفكير في التطور وفي مدى التدفق والتبادل الجيني بين العالمين المرئي والمجهري.
بعد إعادة التفكير، هل ساهمت الفيروسات في التطور؟
لقد أصبح معترفا به على نطاق واسع أن الفيروسات مكوكات للمواد الوراثية، حيث تشير الدراسات المجراة في علم الجينوم البيئي metagenomic إلى أن مليارات الفيروسات على الأرض تحتوي على معلومات وراثية أكثر من بقية العالم الحي مجتمعة. كما تقترح هذه الدراسات أهميتها على الأقل في تطور الحياة مثلها مثل جميع الكائنات الحية الأخرى على الأرض.
اكتشاف حديث في مطلع الألفية الثانية، يحمل أهمية كبرى في هذا المجال: الفيروسات العملاقة.
إن الفيروسات العملاقة Giant Viruses هي فيروسات كبيرة في الحجم كما يشير اسمها وكذلك في المخزون الجيني. إن بعضها يماثل حجما أو يكبر بعض الجراثيم الطفيلية.
يحتوي بعضها أيضًا على جينات للبروتينات الضرورية للترجمة( وهي العملية التي تقرأ من خلالها الخلايا التسلسلات الجينية من أجل بناء البروتينات). وتعتبر هذه العملية واحدة من أهم العمليات التي تقوم بها الكائنات الحية.
من ناحية أخرى، تشير البيانات المتاحة إلى أن بعض جينات الفيروسات العملاقة المحفوظة جيدًا يمكن أن تساعد في إعادة بناء التاريخ التطوري للفيروسات.
وحسب D.Didier Raoult أخصائي الأمراض المعدية والأحياء الدقيقة فإنه وجد من خلال تجميع الجينات ذات الوظيفة المعروفة ظهور أربع مجموعات لها ذخيرة جينية مختلفة تتوافق مع كل من الفيروسات العملاقة وبدائيات النوى والجراثيم وحقيقيات النوى. وبالتالي يجب أن تأخذ الفيروسات العملاقة مكانها بين الأحياء الدقيقة والأهم من ذلك بين الأحياء ككل باعتبارها الفرع الرابع من الحياة.
ويشير D.Raoult إلى إنه من خلال دمج الفيروسات العملاقة في الأشجار الوراثية سنكون قادرين على البدء في فهم دورها أكثر في تطور الحياة.
قد تكون الفيروسات عراب العالم الحديث!!
يعتقد D. Patrick Forterre رئيس قسم الأحياء الدقيقة في معهد باستور ومجموعة من العلماء الآخرين بأن الحمض النووي الريبي منقوص الأوكسجين DNA صنع بواسطة الفيروسات، مما ساعد في تحويل العالم من كائنات مستندة على RNA إلى آخر أصبح فيه DNA الوحدة الرئيسية للوراثة. حيث تقترح الفرضيات العلمية أن الحمض النووي الريبي RNA هو الأساس الجزيئي للحياة الأولى على الأرض.
يقترح D.Forterre دفاعا عن فرضيته هذه أن كلا من خلايا ال RNA المبكرة وفيروسات ال RNA القديمة التي قد تكون مشتقة من هذه الخلايا المبكرة ،تعايشتا وتفاعلتا معا في ذلك الوقت، وعلى الأرجح من خلال علاقة تطفل للفيروسات القديمة على الخلايا المبكرة.
ربما طورت الفيروسات القديمة أثناء علاقة التطفل ال DNA لتحمي نفسها ضد هجمات المضيفين. في حين أن المضيف ربما قام بتطوير دفاعات خاصة مرتبطة بال RNA تحديدا وذلك لحماية نفسها من العدوى الفيروسية. انطلاقا من هذه النقطة الحساسة، لربما قامت الفيروسات أثناء استعارة المادة الوراثية للمضيف وإعادتها إليه بتمرير ال DNA الخاص بها إلى هذه الخلايا. وبما أن ال DNA يعتبر أكثر استقرارا فغالبا تم تفضيله بعملية الانتقاء الطبيعي.
في حين لا تزال هذه الفرضيات تحتاج للكثير من التوضيح، لكن يبدو جليا أن الفيروسات المهملة منذ فترة طويلة أساسية للإجابة عن الكثير من الأسئلة حول تطور الكائنات الحية.
بعد رحلتنا مع عالم التطور، ماذا عن التكاثر والاستقلاب؟ وكيف يجادل D.Bhella في هذا المجال؟
الفيروسات كائنات بسيطة وراثيا. حيث يبلغ أصغر الجينومات الفيروسية 2-3 كيلوبت طولا في حين أن أكبرها يصل تقريبا إلى 1.2 ميغابيت. إنها تمتلك على اختلاف أنواعها جميعًا دورة تكاثر معقدة بشكل مدهش. إنها تتكيف بشكل رائع مع المضيف لإيصال جينوماتها إلى موقع التكاثر ولديها كذلك تنظيم دقيق لشلالات التعبير الجيني.
تعمل الفيروسات أيضًا على هندسة بيئتها، من خلال تجهيز العضيات من الداخل بحيث تتمكن من التكاثر فيها بأمان، وهي سمة تتشاركها مع الطفيليات داخل الخلوية الأخرى.
“أعتقد أن الفيروسات حية للغاية، بمجرد توصيلها للبيئة المناسبة” يقول D.Behella.
تجادل وجهة النظر القائلة بأن الفيروسات ليست على قيد الحياة باعتبارها كلا من القدرة على الاستقلاب والتكاثر الذاتي تعريفان رئيسيان للحياة. فالفيروسات لاتستطيع التكاثر بدون النشاط الاستقلابي للخلية المضيفة.
لكن لا يوجد كائن حي يعتمد كليًا على نفسه. هناك العديد من الأمثلة على العضيات الحية المجبرة خلويا من بدائيات النواة وحقيقيات النوى والتي تعتمد بشكل أساسي على الأنشطة الأيضية للخلايا المضيفة. وبالمثل، يعتمد البشر على النشاط الأيضي للبكتيريا المثبتة للنيتروجين والتركيب الضوئي للنباتات وعلى نشاط الفلورا الموجودة لدينا.
يعتقد D.Bhella أن التعريف المرضي الوحيد للحياة يكمن في الخاصية الأكثر أهمية للوراثة الجينية: التطور المستقل. وفي حين أن الحياة هي عرض لمجموعة من الجينات المختصة بنسخ نفسها ضمن المجال الذي توجد وتتطور به فإن الفيروسات تحقق هذا التعريف.
المصادر:
The Scientist: Viruses Reconsidered
اقرأ المزيد:
ماذا تعرف عن عالم الفيروسات البسيط بتركيبه المُعقّد بألغازه ؟
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :