Ad

في عالم الجمال، تتلاشى الخطوط الفاصلة بين ما يُعتبر “طبيعيًا” و”مصطنعًا” باستمرار. وبينما نتنقل في المشهد المعقد للسعي وراء الكمال الجسدي، أصبح هناك شيء واحد واضح بشكل متزايد: النظرة التي ننتقد بها أولئك الذين يختارون الخضوع لتحولات جسدية كبيرة هي نظرة ممتلئة بالنفاق. من منا لم يشعر بلسعة الشك الذاتي عند النظر إلى المرآة، أو الضغط للتوافق مع معايير الجمال المجتمعية؟ وما هو الشيء المتعلق بالجاذبية الجسدية الذي يجعلنا نشعر بعدم الارتياح، ومع ذلك نرغب في مدح أولئك الذين يمتلكونها؟ ومتى بدأنا ننظر إلى الجمال باعتباره شيئًا يمكن اكتسابه، وليس هبة طبيعية؟ وأين يتم رسم الخط الفاصل بين قبول الذات وتحسين الذات؟

التمييز على أساس المظهر

التمييز على أساس المظهر (lookism)، هو مفهوم لم يدخل بعد في المعجم النقدي السائد، هو شكل من أشكال التمييز على أساس الجاذبية الجسدية. إنها ظاهرة لا تستثني أحدًا، حيث يلحق الزمن في النهاية حتى بأكثر الجميلات شهرة. هل تتذكرون استبدال كيلي ماكجليس بجينيفر كونيلي في فيلم (Top Gun 2)؟ إنها ليست هوليوود فقط؛ فالجاذبية تؤتي ثمارها في العالم الحقيقي أيضًا. وقد أوضحت عالمة النفس نانسي إتكوف هذا في كتابها الصادر عام 1999 بعنوان “البقاء للأجمل: علم الجمال”. حيث أن اثنان فقط من رؤساء الولايات المتحدة، جيمس ماديسون وبنجامين هاريسون، كان طولهما أقل من المتوسط.

النظام القانوني ليس محصنًا أيضًا؛ فالأشخاص الأكثر جاذبية جسديًا يحصلون على عقوبات أخف ويدفعون غرامات أقل. وأظهرت دراسة أجرتها جامعة هارفارد وجامعة واشنطن في سانت لويس عام 2021 أن التفاوت في الدخل الناجم عن الجاذبية المتصورة يمكن مقارنته بفجوة الدخل بين السود والبيض، أو حتى تتجاوزها. لقد شارك البشر دائمًا، من خلال الآليات التطورية، في التمييز على أساس المظهر، والتي ربما كانت مسؤولة عن سقوط الحضارات.

نبذة تاريخية عن الجمال

الهوس بالجمال الجسدي ظاهرة قديمة. من اليونان القديمة إلى الجراحة التجميلية الحديثة، كان السعي وراء الجمال جانبًا موجودًا في كل مكان من الثقافة الإنسانية. لقد تطور مفهوم الجمال مع مرور الوقت، وتشكل من خلال الأعراف المجتمعية والقيم الثقافية والتقدم التكنولوجي.

دعونا نأخذ خطوة إلى الوراء. في اليونان القديمة، كان الجمال مرتبطًا بالتناسب والانسجام والتوازن. اعتقد اليونانيون أن الجمال الجسدي كان انعكاسًا للفضيلة الداخلية والشخصية الأخلاقية. وقد تجسد هذا المفهوم في الأعمال الفنية والهندسة المعمارية الشهيرة التي لا تزال تلهمنا حتى اليوم. وسرعان ما انتقلنا إلى عصر النهضة، حيث أصبح مفهوم الجمال أكثر فردية، وتحول التركيز إلى السعي وراء الأناقة والرقي.

في العصر الحديث، أصبحت صناعة التجميل سوقًا بمليارات الدولارات، مدفوعة بظهور وسائل الإعلام والإعلانات ووسائل التواصل الاجتماعي. وقد أدى انتشار معايير الجمال إلى ثقافة التوقعات غير الواقعية، حيث يشعر الأفراد بالضغط للتوافق مع فكرة مثالية للجمال.

وأصبحت الجراحة التجميلية، التي كانت موضوعًا محظورًا في السابق، أمرًا طبيعيًا بشكل متزايد. يناقش المشاهير وأصحاب النفوذ علنًا إجراءاتهم التجميلية، وقد حولت برامج تلفزيون الواقع مثل (Botched) حوادث الجراحة التجميلية المؤسفة إلى ترفيه.

وبينما نتنقل في مشهد الجمال المعقد أخلاقيًا، من الضروري أن نسأل: ما الذي يدفع سعينا الدؤوب لتحقيق الكمال الجسدي؟ هل هو سعي لقبول الذات أم مجرد استجابة للضغوط المجتمعية؟ وما هي آثار هذا الهوس على صحتنا العقلية وعلاقاتنا وإحساسنا بقيمة الذات؟

السعي وراء الكمال الجسدي

السعي إلى الكمال

عندما نفكر في الرغبة في الخضوع للتعزيز الجسدي، فمن الضروري أن نفهم الدوافع النفسية وراء هذا السعي لتحقيق الكمال. لطالما ارتبطت الجاذبية الجسدية بالوضع الاجتماعي والثقة وحتى السعادة. وأظهرت الأبحاث أن الأفراد الجذابين هم أكثر عرضة لأن يكونوا اجتماعيين وواثقين ومنفتحين على التجارب الجديدة، مما يؤدي في النهاية إلى حياة أكثر إشباعًا.

ويمكن أن تعزى هذه الظاهرة إلى أن الأفراد الجذابين يحظون بمزيد من الاهتمام والتشجيع، مما يعزز بدوره احترامهم لذواتهم. غالبًا ما يُنظر إلى الأشخاص الجذابين على أنهم أكثر جدارة بالثقة وذكاء وكفاءة، مما يمنحهم ميزة غير عادلة في مختلف جوانب الحياة.

إن السعي وراء الكمال الجسدي متجذر بعمق في علم النفس البشري. لقد برمجتنا الآليات التطورية للاستجابة بشكل إيجابي للميزات الجذابة، لأنها تشير إلى الصحة والحيوية واللياقة الإنجابية. وقد تم تضخيم هذه الاستجابة الفطرية بسبب الضغوط المجتمعية، حيث غالبًا ما يُساوي الجمال بالنجاح والإعجاب.

في هذا السياق، يمكن النظر إلى التحول، أي التحسينات الجسدية الكبيرة، كوسيلة لسد الفجوة بين الجاذبية الجسدية المتصورة والمطلوبة. من خلال فهم الأسس النفسية للتعزيز الجسدي، يمكننا أن نبدأ في تقدير مدى تعقيد القضية والدوافع وراء قرارات الأفراد للخضوع للعمليات الجراحية التجميلية.

قضية قبول التحولات الجسدية

عندما نغامر بدخول عالم تغيير المظهر، من الضروري أن ندرك أن وصمة العار المحيطة به متجذرة في افتراض خاطئ: أن الجمال “الاصطناعي” غير شرعي. ولكن أين نرسم الحدود بين أشكال تغيير المظهر المقبولة وغير المقبولة؟ هل يعتمد على الأدوات المستخدمة، أو مستوى التغيير، أو “الطبيعة” المتصورة للنتيجة؟

الحقيقة هي أن فهمنا للجمال يتطور باستمرار، وغالبًا ما تطمس تفضيلاتنا الجمالية الخطوط الفاصلة بين الطبيعي والاصطناعي. نحن نشيد بالأشياء الاصطناعية لمظهرها الطبيعي، بينما نُعجب بالعجائب الطبيعية التي تظهر النظام والبنية.

علاوة على ذلك، ندين تغيير المظهر، وعندما نفعل ذلك فنحن ننكر جانبًا أساسيًا من التجربة الإنسانية وهو الرغبة في تطوير أنفسنا وتحسينها. إن السعي وراء الجمال ليس خطأً بطبيعته؛ إنها المزايا والعيوب غير العادلة التي تأتي مع الجمال والتي تحتاج إلى معالجة. ومن خلال تبني التحول، يمكننا إنشاء مجتمع أكثر مساواة حيث لا يتم الحكم على الأفراد على أساس مظهرهم الجسدي.

خذ على سبيل المثال الأفراد الذين خضعوا لعمليات إعادة تحديد الجنس أو جراحة تأنيث الوجه. هل نحرمهم من حقهم في الجمال والتعبير عن أنفسهم؟ من خلال قبول تغيير المظهر، نحن لا نتغاضى عن السعي وراء الجمال السطحي. لكن نحن ندرك أن الجمال جزء لا يتجزأ من الهوية الإنسانية وأن كل شخص يستحق أن يشعر بالثقة والراحة في جسده.

في نهاية المطاف، ترتكز قضية قبول التحول الجسدي وتغيير المظهر على فرضية بسيطة؛ أن كل شخص يستحق أن يعيش حياته متحررًا من أغلال الضغط المجتمعي والشك في الذات. من خلال تبني تغيير المظهر، نحن لا نشجع على السطحية والابتذال؛ بل نعزز المساواة، وقبول الذات، والسعي لتحقيق السعادة.

كيف يمكن أن يؤدي تبني التغيير إلى مجتمع أكثر مساواة؟

إن تغيير المظهر، أو التحسينات الجسدية الكبيرة، لديه القدرة على تحقيق تكافؤ الفرص وإنشاء مجتمع أكثر مساواة. فمن خلال إتاحة الوصول إلى الجمال وجعله أمر أسهل، يمكننا تقليل المزايا غير العادلة التي يتمتع بها الأشخاص الجذابون حاليًا. لن يتم معاقبة الناس بعد الآن بسبب مظهرهم الجسدي، وستتاح الفرصة للجميع لتحقيق النجاح.

لكن هذه الرؤية للمستقبل لا تخلو من التحديات. يجب علينا أن نتغلب على تحيزاتنا وأحكامنا المسبقة، وأن نتعلم كيفية فصل مفهوم الجمال عن الأخلاق. يجب علينا أيضًا أن ندرك أن الجمال لا يقتصر على المظهر الجسدي فحسب. بل يتعلق بالثقة واحترام الذات والشعور بقيمة الذات.

ومن خلال تبني التحول الجسدي، يمكننا إنشاء مجتمع خالي من الخجل من الجسد أو الشعور بالعار، حيث يتحرر الناس للتعبير عن عواطفهم ومصالحهم دون الخوف من الحكم عليهم. يمكننا أن نخلق عالماً لا يعود فيه الجمال مصدراً للاستبداد، بل وسيلة للتمكين.

المصادر:

The Hypocrisy of Judging Those Who Become More Beautiful / wired

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فلسفة علم اجتماع

User Avatar


عدد مقالات الكاتب : 550
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *