Ad

علاج السرطان بالمناعة، من الحُلم إلى نوبل في الطب

لطالما كان السرطان في عصرنا الحالي من أكثر الأمراض فتكاً بصاحبها بما يعانيه من أعراضٍ المزعجة والتي قد تسبب موته، والأسوأ ما يعانيه صاحبه في رحلته العلاجية المحفوفة بالمخاطر. وبوصول الأعداد المصابة بذلك المرض المميت إلى 18 مليون في عام 2018 من بينهم 9.6 مليون قتيل، أصبح البحث عن علاجات جديدة أمر بالغ الأهمية لا يمكن التساهل فيه. وقد لفتت المناعة نظر الباحثين كمفتاح محتمل للغز العلاج في العقود الأخيرة إلا أن ما بين أيدينا اليوم استطاع أن يبهر المجتمع العلمي لدرجة حصوله على جائزة نوبل عام 2018.

تفاعل المناعة مع الأجسام الغريبة:

هناك مراحل عديدة لتفاعل الجهاز المناعي مع الجسم الغريب وعند قولنا الجسم الغريب نقصد أي جسم قادر على استثارة جهاز المناعة حتى يتخلص منه قبل أن يضر المضيف، وتتم الاستثارة عن طريق تعرف المناعة على بعض المركبات المميزة لذلك الجسم الغريب تسمى تلك المركبات بالمتسضدات أو الأنتيجن. ونحن نستطيع القول أن الكثير من البكتيريا والفيروسات أجسام غريبة مسببة للمرض، وكذلك الخلايا السرطانية حيث تمتاز تلك الخلايا بعدد ضخم من الطفرات الجينية التي قد تنعكس على سطحها الخارجي، فيكون مستفز للجهاز المناعي. وقد يسبب انقسامها الزائد عن الحد الغير منظم إلى وجود مركبات حُرة مثل الأحماض النووية تتعرف عليها المناعة.

لكن كيف تهاجم المناعة؟ في حالة الخلايا السرطانية تتولى بعض الخلايا الهجوم عليها أو تحفيز خلايا مناعية أخرى للهجوم عليها. وتُعتبر أهم خلية في ذلك السياق هي الخلايا التائية التي تنقسم بدورها إلى «خلايا تائية مساعدة- T helper cells» و «خلايا تائية قاتلة-T cytotoxic cells». تمر الاستجابة المناعية بعدة مراحل؛ في البداية تلتهم بعض الخلايا المناعية البلعمية الخلايا السرطانية، وتحصل على الأنتيجن الذي من شأنه استفزاز الجهاز المناعي، لمهاجمة الخلايا السرطانية. تقوم الخلايا البلعمية بعرض تلك المركبات على سطحها حتى تتعرف عليها الخلايا التائية المساعدة وفي بعض الأحيان الخلايا التائية القاتلة أيضاً. حتى تنشط الخلايا التائية وتدخل في معركة قوية ضد السرطان، وذلك بإفراز بعض المركبات المناعية من الخلايا التائية المساعدة التي تحفز المزيد من الخلايا البلعمية؛ لأداء وظيفتها بقوة، وكذلك تحفز الخلايا التائية القاتلة التي تقتل الخلايا الغريبة بطرق مختلفة كإفراز السموم. وتقوم الخلايا التائية المساعدة بتحفيز خلايا مناعية أخرى مختلفة الأنواع. ولكن هل يتطلب تحفيز الخلايا التائية مجرد التعرف على الأنتيجن؟ في الحقيقة لا؛ فيتطلب أيضا وجود بعض الإشارات المحفزة لمستقبلات على سطح الخلايا التائية بفعل ارتباطها ببعض المركبات الموجودة على سطح الخلايا البلعمية، دعني أضرب لك مثالاً لتوصيل الفكرة:

بروتين B7: يتواجد على سطح بعض أنواع الخلايا البلعمية بروتين يُسمى B7 يرتبط ببروتين آخر يتواجد على سطح الخلية التائية المُراد تحفيزها يُسمى CD28، يساهم ذلك الارتباط في تنشيط الخلية التائية. هناك أكثر من محفز آخر غير B7 إلا أن هذا أكثر ما يهمنا في حديثنا اليوم. تلك الارتباطات ضرورية جدا لنشاط الخلايا التائية وغيابها يعني بالضرورة عدم تنشيط الخلايا التائية.

عزيزي القارئ، هل يمكنك تخيل وجود مركبة سباق بلا فرامل؟ بالطبع لا؛ فالأمر عندما يزيد عن الحد بالضرورة سيؤدي لضرر صاحبه إذا هل يمكن ترك المناعة بلا فرامل؟ بالطبع لا، فلو ظل رد الفعل المناعي زائدا عن الحد في الأوضاع الطبيعية سيؤدي ذلك بالضرورة للإضرار بالجسم، إذا للمناعة فرامل.

ما هي فرامل رد الفعل المناعي؟

هناك العديد من الأمور التي تثبط رد الفعل المناعي بعد فترة من نشاطه؛ من أهمها أحد أنواع الخلايا التائية التي تسمى «الخلايا التائية المنظمة-regulatory T cells»، المفرزة لبعض المواد المثبطة للمناعة عن طريق الحد من النشاط الخلايا التائية الأخرى. بالإضفة لذلك يوجد بعض البروتينات على سطح الخلايا التائية القاتلة خاصةً، وأحياناً الخلايا التائية المساعدة من شأنها الحد من نشاط تلك الخلايا. البروتينات المعنية حديثة الاكتشاف؛ فقد تم اكتشافها في أواخر القرن الماضي ومنهم:

  1. بروتين CTLA-4: يمنع ذلك البروتين التفاعل بين B7 وCD28 بالطبع كما ذكرنا من قبل تلك أحد أهم التفاعلات التي تصب في صالح تنشيط الخلايا التائية، وبغيابها يغيب نشاط تلك الخلايا كُلياً.
  2. بروتين PD-1: يتواجد ذلك البروتين أيضاً على سطح الخلايا التائية المساعدة والقاتلة كذلك، ومن شأنها أن تتسبب في إبطال نشاط تلك الخلايا وتُسبب موتها.

تلك الفرامل غاية في الأهمية لكبح نشاط الخلايا المناعية الذي قد يؤدي إلى الإضرار بالجسم نفسه، ولكن ماذا لو كنا نحتاج لذلك النشاط في بعض المواقف؟ دعنا نستعرض الصورة سوياً: الجسم لايزال يُعاني من السرطان حيث تتواجد تلك الخلايا السرطانية في نفس الوقت يقل نشاط الخلايا التائية بفعل تلك البروتينات، إذا كيف سيموت السرطان؟ بالطبع لن يموت لأن النشاط المناعي بدأ يقل في الوقت الذي يزداد فيه النشاط السرطاني. الأمر عزيزي القارئ أشبه بالضغط على فرامل مركبة السباق قبل بلوغ خط النهاية بكثير هل ستفوز حينها؟ بلا محالة لا. إذاً فما الحل؟

كيف نتحكم بالفرامل؟

كانت الإجابة على يد كلاً من الأمريكي «جيمس أليسون-james allison»، واليباني «تاسوكو هونجو-Tasuku Honjo» الحائزين على جائزة نوبل بالتقاسم عام 2018. فقد استطاع كلاً منهما التحكم بالفرامل لصالح القضاء على السرطان، وقد نجحا في ذلك نجاحاً مستحقاً لجائزة نوبل، فماذا فعلا؟

علاج السرطان بالمناعة، من الحُلم إلى نوبل في الطب
الأمريكي «جيمس أليسون-james allison»، واليباني «تاسوكو هونجو-Tasuku Honjo»

1. التحكم ببروتين CTLA-4:

قام جيمس أليسون وفريقه بعمل جسم مضاد لذلك البروتين قادر على منع نشاطه، واختبروا كفاءته على الفئران. قاموا بحقن الفئران ببعض الخلايا السرطانية، وعالجوا بعضهم بمضاد CTLA-4 والبعض الآخر لم يُعَالج تماماً، أو تم علاجه بمضاد CD28. فلاحظوا أن المجموعة المُعَالجة بمضاد CTLA-4 أظهرت تحسناً قوياً بالمقارنة مع باقي المجوعات. ثم تم اختبار الفئران الناجية بحقنهم بالخلايا السرطانية مرةً أخرى، فأظهرت الفئران التي تم علاجها في التجربة السابقة بمضاد CTLA-4 حماية قوية ضد السرطان مقارنة بباقي المجموعات. وبعد ذلك تم اختبار إذا كان رد الفعل ذلك ناجم عن تقديم مضادات CTLA-4 باكراً بعد حقن الخلايا السرطانية أم لا؟ فتم حقن فئران بالخلايا السرطان وتعريض أحد المجموعات لمضادات CTLA-4 في نفس اليوم، وتعريض المجموعة الثانية للمضادات بعدها بسبعة أيام. كانت النتيجة أن كلا المجموعتين كان لهم رد فعل قوي ضد السرطان بل أن تأخر العلاج قد يكون له رد فعل أقوى. بعد نجاح تلك الدراسة وتقديمها لنتائج جيدة للغاية تم تجربة ذلك النوع من العلاج على مرضى سرطان الجلد من نوع «ميلانوما-Melanoma»، وهو نوع خطير من سرطان الجلد إلا أن تقديم ذلك النوع من العلاج كان له أثر إيجابي ملحوظ.

2. التحكم ببروتين PD-1:

أظهرت دراسة منشورة سنة 2004-2005 -شارك فيها «تاسوكو هونجو-Tasuku Honjo»- أن التحكم ببروتين PD-1 باستخدام أجسام مضاده له يُعد طريقة واعدة بقوة في علاج السرطانات التي تنتشر عبر الدم، وأن ذلك النوع من العلاج قد يكون أقوى حتى من مضادات CTLA-4؛ فهو أكثر قدرة منه على محاربة السرطان المنتشر في الدم فقد يكون علاج قوي مستقل بذاته على عكس العلاج بمضادات CTLA-4 المُحتاج إلى علاجات مساندة له. ويعتمد ذلك العلاج على إطالة فترة نشاط الخلايا التائية، وزيادة أعداد الخلايا المناعية النشطة، فيعطي فرصة أكبر لقتل السرطان كما أن السرطانات التي تنتقل في أنحاء الجسم عن طريق الدم قد يسهل القضاء عليها باستخدام الخلايا المناعية؛ لتوافرها في الدم وقتها. وقد أظهرت بعض الدراسات الأخرى أن تقديم هذين النوعين من العلاج سويا قد يكون أقوى من تقديم أحدهم فقط.

في الحقيقة ذلك النوع عن العلاجات ليس بالشهرة الواسعة حتى الآن، ولايزال يحتاج للعديد من الدراسات لتقصي الأضرار الجانبية التي قد تنتج عنه؛ فزيادة النشاط المناعي بشكل مبالغ فيه قد ينجم عنه تدمير للأنسجة الطبيعية بالغة الأهمية. فلذلك ما زال ميدان البحث واسع للوصول للحقيقة الكاملة إلا أن الآمال عالية جداً، وخصوصا بعد جائزة نوبل في الطب عام 2018.

مصادر(علاج السرطان بالمناعة، من الحُلم إلى نوبل في الطب):

Cancer research UK

Nobel prize 2018

Oxford academia

Science

أقرأ المزيد:

الملاريا من السحر والخرافات إلى نوبل في الطب

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


طب حياة

User Avatar

Ahmed Khatab


عدد مقالات الكاتب : 31
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق