لطالما كان الفن عموماً -الرسم خاصة- طريقة للتعبير عن الإندهاش، والاهتمام بمظهر معين أو فكرة، وهو كذلك طريقة للتعبير عن فلسفة الفنان تجاه أمر معين مثل الطبيعة أو الحياة والموت ويمكن فلسفته تجاه نفسه. الفنان الذي يحكي عنه مقالنا اليوم هو مثال للخروج عن التقليدية والوصول لطرق جديدة وغريبة في التعبير ليس فقط عن جمال المشهد الملاحظ بل عن وعيه بالمشهد نفسه وهذا ما سيتضح في ثنايا أعماله وما جعله واحد في سلسلة أهم الفنانين على مر العصور.
محتويات المقال :
نشأته وحياته:
أوسكار كلود مونيه ولد عام 1840 في الرابع عشر من نوفمبر في باريس بفرنسا، وتوفي عام 1926 في جيفرني بفرنسا. كان والده رجل أعمال في مجال البقالة، وبعد ولادته بفترة وجيزة انتقلت عائلته إلى ساحل نورماندي بالقرب من مدينة «le havre» في شمال غرب فرنسا حيث اقترابه من البحر كان له أثر كبير عليه وعلى فنه طول عمره، أحب الرسم منذ نعومة أظافره واشتهر في بلدته بالرسم الكراكتيري حيث كان يبيع ذلك النوع من الرسومات وهو في عمر الخامسة عشر. بدأ حبه واهتمامه برسم المناظر الطبيعية بالزيت مع تعرفه على رسام محلي اسمه «يوجين بودين». وفي عام 1859 التحق بالأكاديمية السويسرية في باريس وتعرف فيها على زوجته المستقبلية «كاميل دينسو » وبعدها تم تجنيده في الجيش من عام 1861حتى عام 1862 في الجزائر، ثم عاد إلى مدينه والده مرة أخرى ولم يلبث أن عاد لباريس ليكمل دراسته وتعرف على مزيد فنانين يشاركونه نفس الطريقة التعبيرية، وبدأت ملامح الانطباعية تظهر في أعماله -كما سنرى فيما بعد – إلا أنه لم يحقق نجاحات تذكر في تلك الفترة حيث لم تكن ستينيات القرن التاسع عشر سعيدة أبداً علي مونيه.
أما السبعينيات فشهدت فترة نشاط كبيرة لمونيه وزملائه ولكن بدون نجاح أيضاً وانتقل مونيه وأسرته إلي «فيتويل- Vetheuil» والتي فيها زادت علاقته مع أحد التجار «إزنست هوشيدى- Ernest Hoshedé» وزوجته «أليس هوشيدى» تلك العلاقة التي ستؤثر على أعمال وحياة مونيه فيما. وفي عام 1879 توفيت زوجته بعد صراع مع المرض أصبحت تعيش معه أليس هوشيدى وأطفالها بعد أن هجرهم زوجها.
ومع بداية الثمانينات تفكك مجموعة مؤسسي المدرسة الانطباعية وظل مونيه يعرض لوحاته في معارض فردية، وازدهرت أعماله بشده. فانتقل من بيته الصغير في جيفرني إلى منزل آخر كبير الذي أسس به بحيرة صغيرة بها أنواع كثيرة من النباتات والزهور جميلة ومتباينة الألوان وأقام جسر ياباني صغير، وظل في ذلك المنزل الجميل يعمل علي رسم المشاهد الجميلة الموجودة بحديقته حتى موته عام 1926. تاركاً ورائه أكثر من ألفي عمل فني نستعرض أمثله منهم فيما يلي:
شاطئ سانت أدريس:
في صيف عام 1867 كان مونيه مقيماً مع عمته في سانت أدريس في تلك الفترة بدأ حبه بالطريقة الجديدة في التعبير يتكون يزدهر وهي مدرسة الانطباعية. ولكن ما هي الانطباعية من الأساس؟
مدرسة فنية تعكس انطباع، ووعي الفنان بالمشهد المقابل وخاصة المشاهد الطبيعية من أمثلة ذلك لوحة شاطئ سانت أدريس التي رسمها مونيه، وركز فيها على منظر السحاب الأبيض والبحر بأمواجه والصيادين، ولكن ليس بالطريقة المعتادة فلم يعكسها كما هي إنما صور إحساسه بها وتحديداً إحساسه بالضوء فقد عشق مونيه أن يأسر الضوء في لوحاته ويلاحظ أثر الضوء على الأشكال الطبيعية المختلفة.
وصول القطار لمحطة سانت لازار :
رسمه عام 1876 وهي ليست من أشهر أعماله ولا أكثرها مشاهدة ولكنها من أكثرهم تميزا فبدل من تصوير وعيه بالمشاهد الطبيعية المجرة اتجه فيها لتصوير الحياة الحديثة حيث المشهد المهيب بدخول القطار لمحطة «سانت لازار- Saint Lazare» والدخان يتصاعد بكثافة وسط انتظار من المحيطين في صورة مليئة بالحياة. والجميل في لوحات مانيه هو حبه لتصوير أثر الطقس أو الهواء في لوحاته كما فعل هنا فقد جعل دخان القطار شديد السمك حتى، وكأنه يبرز من اللوحة مجبراً المشاهد لتلك الروعة الفنية أن ينظر للدخان ويهتم به حتى وإن كان لا يعيره اهتماماً في الحياة الحقيقية، وهذا يدل على فرط نجاح مونيه في تصوير انطباعه وليس فقط المشهد مجرداً.
دورة زنابق الماء :
في متحف «L’orangeria» يوجد تحفة فنية مكونه من 8 قطع متراصة جنبا لجنب عن دورة «زنابق الماء – water lilies». فالجدير بالذكر أن مونيه ابتكر طريقة رسم جديدة وجميلة وهي تصوير المشهد الطبيعي ذاته في أوقات مختلفة من اليوم أو من العام حتى يظهر تأثير الطقس والضوء على الشيئ ذاته وهذا ما يحدث في تلك التحفة بين أيدينا وغيرها من رسوماته. ولكن ما هي القصة وراء ذلك العمل الضخم؟
ربط كلاً من مونيه و «جورج كلامينسو- George Clémenceau» علاقة صداقة منذ عام 1860 التي استمرت لفترة ثم انتهت وعادت موجودين عام 1908 فكان مونيه متفق مع أفكار كلامينسو السياسية وكلامينسو كان محباً للفن ويحترم فن مونيه جداً، ففي عام 1919 وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أراد مونيه اهداء الدولة لوحتين ولكن كلامينسو أراد أكثر من لوحتين، أراد سلسة كامله من اللوح يتم عرضها رمزا للسلام، وبعد عناء استطاع إقناع مونيه الذي شرع العمل بهم وهو في الثمانينات من عمره وكان مفترض أن ينتهي منهم عام 1922 لكن الشك تجاه تلك اللوح كان يقتله، فكان دائما ما يمزقها ويدخل عليها العديد من التعديلات حتى مات في عام 1926. وتم عرض تلك اللوح أخيرا عام 1927، وتظهر تأثير الضوء والطقس على زنابق المياه فتارة انعكاس السماء الصافية وتارة السماء مليئة بالغيوم وتارة أخرى انعكاس الأشجار. مرتبة على شكل بيضاوي كما أوصى مونيه القائمين على ترتيبها أثناء عمله بهم.
شهد مونيه حياة مليئة باللألوان والضوء، الضوء الذي أحبه مونيه وأحب أن يصوره في لوحاته. مات وترك ورائه فلسفة مذهلة وجديدة فليس من الضروري أن يكون الواقع هو اللوحة الفنية بل يمكن أن يكون إدراك ذلك الواقع يستحق أن يتم تصويره.
مصادر:
اقرأ أيضاً
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :