Ad

لنقل أنك استيقظت من ليلة نوم سيئة، وتشعر بالترنح والارتباك، وتكافح من أجل تذكر حتى أبسط ذكريات اليوم السابق. هذه التجربة الشائعة هي أكثر من مجرد إزعاج، إنها نافذة على العلاقة المعقدة بين إشارات الدماغ والنوم وتكوين الذاكرة. توصل باحثون من كلية الطب بجامعة ميشيغان إلى اكتشاف رائد يسلط الضوء على هذه العلاقة المعقدة، حيث كشفوا أن إشارة الدماغ المهمة المرتبطة بالذاكرة طويلة المدى تتعثر لدى الفئران عندما تُحرم من النوم. تشير الدراسة التي أجراها عالم الأعصاب كامران ديبا، والتي نُشرت في مجلة (Nature)، إلى أن هناك “وقت حرج لمعالجة الذاكرة”. وأنه حتى ليلة من النوم الطبيعي بعد ليلة نوم سيئة ليست كافية لإصلاح إشارة الدماغ. النتائج التي توصل إليها الفريق لها آثار مهمة على فهمنا لتكوين الذاكرة ويمكن أن تؤدي إلى علاجات مستهدفة لتحسين الذاكرة.

العلاقة بين النوم والذكريات طويلة المدى
العلاقة بين النوم والذكريات طويلة المدى

العلاقة الهشة بين إشارات الدماغ والذاكرة

إنها علاقة معقدة، حيث يتحرك شركاء الخلايا العصبية في وئام تام، وتزامنهم ضروري لتكوين ذكريات طويلة الأمد. يتم تنظيم هذا الأداء المعقد من خلال إشارات الدماغ، وتحديدًا الموجات الدماغية الحادة ( sharp-wave ripple)

الموجات الدماغية الحادة، وهي إشارات الدماغ المميزة المرتبطة بالذاكرة طويلة المدى، أبهرت العلماء لعقود من الزمن. يعود مفهوم هذه الموجات إلى ثمانينيات القرن الماضي، عندما بدأ جيورجي بوزاكي، عالم أعصاب النظم في جامعة نيويورك لانغون هيلث، في البحث عن هذه الموجات لأول مرة. في البداية، اكتشف بوزاكي أنها تحدث في منطقة الحصين في الدماغ، وهي منطقة مهمة لتكوين الذاكرة. وقد وجد أن هذه الموجات هي عبارة عن عمليات إعادة تشغيل متسارعة لأنماط نشاط الدماغ التي حدثت خلال الأحداث الماضية.

ماذا يحدث بالضبط داخل الدماغ؟

على سبيل المثال، عندما يستكشف حيوان ما بيئته، فإن مجموعة معينة من الخلايا العصبية في الحصين تنشط في انسجام تام، مما يخلق تمثيلًا عصبيا لتلك التجربة. وفي وقت لاحق، قد تشارك هذه الخلايا العصبية نفسها في الموجات الدماغية الحادة، مما يؤدي بسرعة إلى إعادة تشغيل مقتطفات من تلك التجربة.

ومع تقدم الأبحاث، أدرك العلماء أن الموجات الدماغية الحادة لا تحدث أثناء ساعات الاستيقاظ فحسب، بل أيضًا أثناء النوم العميق. حيث تلعب دورًا حاسمًا في تحويل المعرفة قصيرة المدى إلى ذكريات طويلة المدى. وقد تم الآن توثيق الارتباط بين النوم والذاكرة بشكل جيد، حيث أظهرت الدراسات أن تعطيل النوم يؤثر على تكوين الذاكرة. على سبيل المثال، واجهت الفئران ذات الموجات المضطربة صعوبة في اختبارات الذاكرة، في حين أظهرت الفئران ذات الموجات الطويلة أداءً أفضل.

هذه العملية ضرورية لتعزيز الذاكرة، لأنها تساعد على تسهيل الاتصال بين الحُصين والقشرة الحديثة (neocortex)، حيث يتم تخزين الذكريات طويلة المدى. ومن خلال إعادة تشغيل مقتطفات من تجارب الماضي بسرعة، تساعد هذه الموجات على ترسيخ الذكريات. وفي جوهرها، تعمل كمؤشر حيوي معرفي للذاكرة والتعلم. ومع ذلك، فإن هذا العلاقة الدقيقة لإشارات الدماغ والذاكرة هشة ويمكن أن تتعطل بسبب عوامل مختلفة، مثل الحرمان من النوم. إن عواقب مثل هذه الاضطرابات بعيدة المدى تؤثر على قدرتنا على تكوين الذكريات والاحتفاظ بها. وستؤثر في نهاية المطاف، على قدرتنا على التعلم والتكيف.

كيف اكتشف الباحثون رابط الذاكرة بالنوم؟

عندما لا نحصل على قسط كافٍ من النوم، لا تتأثر مستويات الطاقة لدينا فحسب، بل تكافح أدمغتنا أيضًا لمعالجة الذكريات وتخزينها. لقد عرف الباحثون منذ فترة طويلة أن النوم يلعب دورًا حاسمًا في تكوين الذاكرة. لكن دراسة جديدة سلطت الضوء على كيفية تأثير النوم المتقطع على إشارات الدماغ التي تكمن وراء هذه العملية.

فكر في إشارات الدماغ وكأنها سيمفونية معقدة، حيث تعمل الخلايا العصبية المختلفة بشكل متناغم لتكوين الذكريات. ولكن ماذا يحدث عندما يعطل الحرمان من النوم هذه السيمفونية؟ كان أحد الجوانب الحاسمة في البحث هو تسجيل نشاط الحصين في الفئران أثناء استكشافهم للمتاهات على مدار عدة أسابيع. ومن خلال القيام بذلك، تمكن الباحثون من ملاحظة أنماط الموجات الدماغية الحادة في أدمغة الفئران أثناء النوم واليقظة.

أراد الباحثون معرفة مدى تأثير اضطراب النوم على إشارات الدماغ هذه. وقد فعلوا ذلك عن طريق إيقاظ بعض الفئران بشكل متكرر، مع السماح للآخرين بالنوم دون إزعاج. وكانت النتائج مذهلة، على الرغم من وجود مستويات مماثلة من نشاط الموجات الدماغية الحادة، أظهرت الفئران المحرومة من النوم أنماط إستثارة عصبية أضعف وأقل تنظيمًا مقارنة بنظيراتها التي حصلت على قسط جيد من الراحة.

علاوة على ذلك، كشفت الدراسة أنه حتى بعد يومين من التعافي، فشلت الفئران المحرومة من النوم في الوصول إلى نفس مستويات إعادة تكوين النمط العصبي مثل الفئران التي حصلت على نوم طبيعي. ويلقي هذا الاكتشاف الضوء على أهمية النوم في تكوين الذاكرة، ويسلط الضوء على “المدة الحرجة لمعالجة الذاكرة”.

العلاجات المستهدفة والإمكانيات الجديدة

إن اكتشاف الدور الحاسم للنوم في تكوين الذاكرة طويلة المدى يفتح إمكانيات مثيرة للعلاجات المستهدفة لتحسين الذاكرة. تخيل أنك قادر على تعزيز ذاكرتك بمجرد الحصول على نوم جيد ليلاً. أو الأهم من ذلك، القدرة على منع تآكل الذكريات لدى الأفراد الذين يعانون من اضطرابات النوم أو أولئك الذين تعرضوا لأحداث مؤلمة.

وبفضل هذا الفهم الجديد، يستطيع الباحثون الآن استكشاف طرق لمعالجة الموجات الدماغية الحادة لتحسين عملية تعزيز الذاكرة. على سبيل المثال، تطوير استراتيجيات لزيادة جودة وتنظيم هذه الموجات أثناء النوم يمكن أن يؤدي إلى الاحتفاظ بالذكريات بشكل أفضل. علاوة على ذلك، فإن تحديد الآليات العصبية المحددة التي تتأثر بالحرمان من النوم يمكن أن يؤدي إلى تطوير أساليب علاجية جديدة للتخفيف من الآثار السلبية لقلة النوم على الذاكرة.

التطبيقات المحتملة لهذا الاكتشاف واسعة ومتنوعة. على سبيل المثال، يمكن للأفراد الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) الاستفادة من التدخلات القائمة على النوم لمنع الذكريات المؤلمة من الدخول إلى التخزين طويل المدى. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للأفراد الذين يعانون من اضطرابات النوم، مثل الأرق أو انقطاع التنفس أثناء النوم، الاستفادة من العلاجات التي تستهدف تعزيز الموجات الدماغية الحادة أثناء النوم.

المصادر:

Sleep deprivation disrupts memory: here’s why / nature

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


طب صحة

User Avatar


عدد مقالات الكاتب : 550
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *