Ad

الملاريا من السحر والخرافات إلى نوبل في الطب

عند سماعك لكلمة ملاريا ستقول: إن مرض الملاريا هو مرض يسببه طفيل يُسمى «بلازميديوم-Plasmodium» ينتقل عن طريق أنثى بعوضة الأنوفليس. تُعتبر تلك المعلومات بديهية بالنسبة للطفل في سنين دراسته الأولى لكنها أخذت آلاف السنين حتى تكون معروفة، وقد سبب ذلك التأخر في المعرفة إلى فقدان الملايين من الأرواح في كل حضارة ومكان تقريباً كما سنرى سوياً.

ولكن قبل البدأ في معرفة تفاصيل مرض الملاريا وجب معرفة بعض الأساسيات عن الأمراض التي تسببها الطفيليات؛ حيث يمر الطفيل بدورة حياة داخل ضيفه/عائله تهدف إلى التكاثر وزيادة أعداده، وفي كل مرحلة من تلك الدورة يكون للطفيل شكل مميز يتناسب مع وظيفته في تلك المرحلة، وأيضاً بالظروف المحيطة به. وترتبط كل مرحلة من دورة حياة الطفيل بأعراض مميزة لها تظهر على العائل. تنطبق كل تلك الأساسيات على مرض الملاريا الذي سنتعرف عليه تاريخياً وطبياً في السطور القادمة.

تأثير الملاريا على ملامح التاريخ:

يُعتبر مرض الملاريا مرض بالغ القِدم فقد تواجد في أغلب الحضرات القديمة وألفوا عنه عدة خرافات وأساطير. في الحضارة الفرعونية تم الكشف عن بعض «المركبات المميزة-Antigens» للطفيل المسبب للمرض في بعض المومياوات. وأطلق عليه الهنود قديماً لقب ملك الأمراض، وأما في الصين فقد كان يُعتقد بوجود علاقة بين أعراض الملاريا مثل تضخم الكبد والطحال بالإضافة لارتفاع درجة الحرارة والصداع والعرق الغزير مع ثلاثة شياطين أحدهم يمسك بدلو ممتلئ بالماء، والثاني يحمل مطرقة، والأخير يحمل عصى. وقد سبب تعداد السكان المرتفع في الهند والصين لتوفر ظروف مناسبة لتواجد المرض بشكلً كبير. وقد تحدث الكثير من فلاسفة اليونان عنه مثل أرسطو، وأفلاطون، وأبقراط وغيرهم. ويُعد انتقال المرض من إفريقيا إلى روما أهمية تاريخية بالغة الخطورة؛ حيث طبقاً لعدد كبير من المؤرخين ذلك المرض ساهم بقوة في سقوط روما حيث انتشرت الملاريا إلى أعالي النيل وانتقلت إلى اليونان ثم روما عن طريق الجنود والتجار وانتشرت في جميع أنحاء أوروربا القديمة لفترة طويلة وتسبب زيادة السكان في روما في ازدهار وانتشار المرض بينهم وساهم في تدمير المزارع حول مدينة روما.

ولم تسلم الحضارات الحديثة من خطر ذلك الوباء القاتل فقد انتشر مع العبيد الأفارقة إلى أوروبا، والجدير بالذكر أن الملاريا لم تكن مؤذية في نسبة ليست بقليلة من هؤلاء الأفارقة؛ حيث أن بعض الأمراض الوراثية التي تصيب كُرات الدم الحمراء مثل «فقر الدم المنجلي- sickle cell anemia» (مرض يحدث نتيجةً لعيب في تصنيع الهيموجلوبين يتسبب في جعل كرات الدم الحراء منجلية الشكل)، أو نقص إنزيم G6PD/الفوال (إنزيم يسبب تخلص كرات الدم الحمراء من المواد المؤكسدة) منتشرة بينهم وتعد واقية من مرض الملاريا. إلا أن تلك الأمراض أقل انتشاراً بين القوقازيين في أمريكا وأوروبا فلذلك كان يمثل الملاريا خطراً أكبر عليهم، وانتشر المرض في المناطق المدارية من أمريكا اللاتينية، ووادي المسيسيبي في أمريكا الشمالية، وكذلك في بريطينيا وكان ذلك بحلول عام 1750. وزاد خطر الملاريا في الولايات المتحدة الأمريكية مع زيادة المهاجرين إليها خاصةً من أوروبا، وأدى إلى زيادة الضعف بين صفوص الجنود في أثناء الحرب الأهلية. وفي الحرب العالمية الثانية كان يمثل خطر كبير على جنود الولايات المتحدة الأمريكية في حملة المحيط الهادئ؛ حيث أصاب الملاريا عدد من الجنود أكبر مما أصابه الأعداء نفسهم.

في حقيقة الأمر مرض الملاريا لم يترك حضارة أو قارة تقريباً دون أن يؤثر عليها بشدة، ولكن كانت أفريقيا أكثر القارات المفضلة بالنسبة له وكما ذكرنا سابقاً أن بعض أمراض الدم الوراثية الموجودة بين الأفارقة تُشكل حمايةً لهم من الملاريا، ولكن ذلك لم يتوفر في جنود الحملات الأوروبية التي فشلت أعداد كبيرة منها في الاستيلاء على أجزاء من وسط وغرب أفريقيا حتى سُميت تلك المناطق بمقبرة الرجل الأبيض.

الملاريا وجائزة نوبل في الطب:

كانت المعلومات المتاحة عن أسباب مرض الملايا بسيطة جداً والمعتقد السائد حينها أنها مرتبطة بالمستنقعات وتنتقل بالهواء!! لكن ذلك كان على وشك التغير على يد التطورات الضخمة التي كانت تحدث وقتها في طب المناطق الحارة الملازم لاتساع رقعة الاحتلال البريطاني والفرنسي. كان الطبيب الفرنسي «تشارلز لافيران-Charles Laveran» من المشاريكن في ذلك التغير؛ فقد افترض أن مرض الملاريا يحدث بسبب ميكروب يدخل جسم الإنسان ويتكاثر فيه ويسبب له الضرر، فبدأ بفحص عينات دم المصابين في الجزائر. فوجد كائن شبه شفاف على شكل هلال مع نقطة ملونة. أكدت فحوصات مشابهة من باحثين آخرين نفس النتائج، وقام هو أيضاً بنفس التجربة أكثر من مرة وكانت نفس النتائج. كان ذلك الاكتشاف في آواخر القرن التاسع عشر واكتشف بعدها العديد من الطفيليات في أمراض المناطق الحارة ونتيجة لتلك الاكتشافات وخاصةً اكتشافاته في الملاريا حاز على جائزة نوبل في الطب وذلك عام 1907.

الملاريا من السحر والخرافات إلى نوبل في الطب
«تشارلز لافيران-Charles Laveran»

في أثناء تلك الفترة من آواخر القرن التاسع عشر وبعد نتائج لافيران بدأ «رونالد روس-Ronald Ross» يقوم بدراساته على الملاريا بناءاً على تلك النتائج وبناءاً على فرضية باتريك منسون -الأب الروحي لطب المناطق الحارة- حيث كان منسون يفترض وجود طفيل الملاريا في نوع من البعوض ينقله من مكان لآخر، وقد وضح رونالد روس أسباب تبنيه لتلك الفرضية في ورقة بحثية له حيث:

  1. من وجهة نظر المعلومات المتوفرة عن الطفيليات وقتها، وبناءاً على النتائج التي قدمها الدكتور لافيريان؛ فالملاريا يحدث نتيجة طفيل يغزو كرات الدم الحمراء ويتكاثر بها، ومن الملاحظ سابقاً اربتاط مرض الملاريا بالهواء. فهل يُعقل أن ينتقل الطفيل في الهواء بلا حامل؟ فمن منطلق أن الطفيل لا يتواجد إلا في جسمٍ يتغذى عليه إذاً فهو لا ينتقل هكذا في الفراغ دون عائل يوفر له الغذاء.
  2. عند فحص عينة دم سنجد بعض الأشكال الهلالية في بعض أنواع طفيل البلازميديوم غير معلوم دورها بوضوح، ولكن يتضح تلك الأشكال الهلالية تُعطي أشكال أخرى بعد أخذ العينة بفترة، تتميز الأخيرة بقدرتها القوية على الحركة بفعل «الأسواط-flagella» الجدير بالذكر أن تلك الأشكال ذات الأسواط لا تتواجد في دم الإنسان، إذا لماذا ظهرت بعد سحب عينة الدم بفترة؟! إذا لابد أنها تستكمل مهمتها في التكاثر في عائل آخر خارج الإنسان.

رأى رونالد روس أن اتباع نظرية منسون سيقوده في النهاية لنتجية مُرضية وهذا ما حدث. فبعد فترة طويلة جداً من البحث والتجارب استطاع أخيراً رؤية الطفيل في معدة بعوضة الأنوفليس بعد أن عرضها للمصابين بالمرض في الهند، ولاحظ أن كمية الطفيل تزيد في البعوضة كلما تأخر في التشريح مما يعني حدوث تغير في العدد بجانب التغير في شكل الطفيل. وقد استكمل دراساته في مدينة «كالكوتا-Kolkata» على العصافير والغربان حيث لاحظ وجود الطفيل في الغدد اللعابية للبعوض الذي تغذت من دم من العصافير المصابة فعرض عصافير أخرى سليمة لذلك البعوض وبالفعل أُصيب بالملاريا. وبذلك استنتج رونالد روس أن أنثى بعوض الأنوفلس تمتص أطوار من الطفيل أثناء تغذيها على دم المصابين فيتكاثر الطفيل بها، وينتقل عن طريق لُعاب البعوضة للإنسان فيصاب بالملاريا. ونتيجة لتلك الدراسات المضنية حصل على جائزة نوبل في الطب عام 1902.

دورة حياة الملاريا:

ينتقل الطفيل من لُعاب البعوضة في أثناء تغذيها على دم الشخص، فيتوجه إلى الكبد عن طريق الدم وهناك يتكاثر في خلايا الكبد بكثرة لفترة معينة ثم ينتشر في الدم، حيث يغزو كرات الدم الحمراء ويزداد في العدد بشدة حتى تنفجر كرة الدم الحمراء ويتحرر منها كمية كبيرة جدا من الطفيل وكذلك بعض السموم، فتقوم المجوعة المتحررة بإعادة الكرة مرة تلو أخرى وغزو المزيد من كرات الدم الحمراء، إلا أن البعض منهم يتحول إلى «خلايا مشيجية-gametocytes» التي قد تكون هلايلة الشكل في بعض أنواع البلازميديوم. تأتي أنثي بعوضة الأنوفليس للغذاء فتمتص مع الدم تلك الخلايا المشيجية التي بدورها تُعطي «الأمشاج-gametes» المؤنثة والمذكرة في تجويف معدة البعوضة (توازي الحيوانات المنوية والبيوضات في الحيونات مع اختلاف الشكل) ثم تحدث عملية الإخصاب بين تلك الأمشاج فيتكون طفيل فرد جديد، ينتقل من تجويف الجهاز الهضمي للبعوضة لجداره ثم إلى الغدد الللعابية استعداداً للانتقال لإنسان جديد.

الملاريا من السحر والخرافات إلى نوبل في الطب
دورة حياة الملاريا

أعراض مرض الملاريا:

يمر الشخص في بداية المرض بالصداع وارتفاع درج الحرار وآلام في الجسم، ثم تبدأ الأعراض المميزة للمرض بالظهور تدريجياً حيث نتجية انفجار كرات الدم الحمراء التي تحتوي على الطفيل يتحرر منها أعداد ضخمة من الطفيل والسموم، يسبب ذلك مرور الشخص المصاب بثلاثة مراحل من الأعراض: تبدأ بالشعور بالبرد والرعشة الشديدة، ثم ارتفاع شديد في درجة الحرارة والشعور بالغثيان والقيئ، ثم المرحلة الأخيرة حيث العرق الشديد والشعور بالإعياء. تتكرر تلك الأعراض بشكل مستمر كل ثلاثة إلى أربعة أيام. يعاني الشخص المصاب من الأنيميا نتيجة لتكسير كرات الدم الحمراء، ويحدث تضخم شديد في الكبد والطحال. وقد يعاني الإنسان من بعض المضاعفات في الكثير من الأعضاء الحيوية مثل المخ والقلب والرئتين وغيرهم.

العلاج:

تحكى الأسطورة أن كونتيسة من «Chinchon- تشينتشون» -مدينة أسبانية- متزوجة من حاكم في دولة بيرو أصابها مرض الملاريا تم عالجها أحد الكهنة باستخدام لحاء أحد انواع الأشجار، فأخذه الناس كعلاج وسُميت الشجرة باسم «Cinchona-سيكونا أو كينا»، تيمماً باسم مدينة الكونتيسة ولكن مع تخفيف الاسم. تلك الشجر يُستخرج منها نوع من الأدوية يسمى «Quinine-كينين» الذي ظل العلاج الأساسي للملاريا حتى الحرب العالمية الأولى. يتعبر ذلك الدواء سام لطفيل البلازميديوم حيث يمنعه من التغذي على الهيموجلوبين مما يسبب موته. وهو مسؤول عن أعراض جانبية شديدة مثل اضطراب في الرؤية والسمع، والإسهال، وبعض المشاكل العصبية مثل التشنجات وفقدان الوعي وغيره من الأعراض؛ لذلك يُعد دواء كثير الأعراض الجانبية وقل استخدامه فيما بعد. حيث في الحرب العالمية الأولى استولى الحلفاء على الجزير الاندونيسية «Java-جافا» التي كانت تنتج ما يزيد عن 80% من الكينين مما أدى إلى نقص شديد في العلاج عند ألمانيا. فقام العلماء بعدة أبحاث واختبارات للوصول للعلاج المناسب الذي ظهر بعد عدة سنوات وكان هو «Chloroquine-الكلوروكين» الذي يعمل بطريقة مشابهة تقريباً للكينين حيث يسبب تعطيل هضم الطفيل للهيموجلوبين، ولكنه أقل في الأعراض الجانبية، وأكثر فاعلية. ويستخدم بحذر نتيجة لتأثيراته السلبية على الجهاز الدوري. وأدى انتشار مقاومة الملاريا لمثل تلك الأدوية فيما بعد إلى انتشار أدوية أخرى قوية مثل «Sulfadoxine-Pyrimethamine» الذي يمنع تصنيع «folic acid-حمض الفوليك» الضروري للكثير من التفاعلات الخاصة بالحمض النووي DNA وغيرها. بالإضافة لأدوية أخرى فما زالت التطورات مستمرة.

مصادر (الملاريا من السحر والخرافات إلى نوبل في الطب):

ncbi

Nobel prize

Nobel prize

Ncbi

CDC

Health line

Drugs.com

Drugs.com

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


طب أحياء حياة

User Avatar

Ahmed Khatab


عدد مقالات الكاتب : 31
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق