Ad

هل تعتقد أن ذاكرتك قوية بما يكفي لاسترجاع ما يحدث أمامك الآن دون أخطاء؟ حاول أن تتذكر أي يوم مميز في حياتك. ثم اسأل من شاركوك نفس اليوم عن تفاصيله. لا تندهش عندما يسردون وقائع لم ولن تتذكرها رغم تأكديهم أنها حدثت. فلن تعرف أبدًا مدى صحة رواياتهم أو روايتك لأن الذاكرة البشرية-على عكس ما تعتقد- تتغير وتتجدد باستمرار لتخلق لكل منا نسخته الفريدة عن الواقعة ذاتها.

قصة القتيل في الغاب

اليابان في القرن الثاني عشر حيث تستمع المحكمة لشهادات الشهود حول الجثَّة التي وجدها حطَّاب في الغابة. لكنها لم تكن محاكمة عادية، إذ اختلفت الشهادات بشكل لا يُصَدَّق. كان هناك سيف، لا لم يكن هناك سيف. زوجة القتيل خانته، لا لم تخُنْه. وهكذا التَبَس عليهم أمرهم مع كلِّ شهادة جديدة، لدرجة أن ثلاثة من الشهود اعترف كل منهم أنه القاتل ولا قاتل سواه!

“من الصعب القول من هو المُخطِئ الأعظم أنتم أم أنا”

-قاطع الطرق “تاجو مارو” المتهم بقتل الرجل واغتصاب زوجته أمام المحكمة.

هذه لمحة من قصة (رينوسكي أكوتاكاوا) الممتعة التي حولها المبدع الياباني (أكيرا كوراساوا) إلى فيلم «راشومون-Rashomon»الحائز على الجائزة الأولى من مهرجان فينيسيا، وجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي. جاءت تسمية “تأثير راشومون” لوصف التضارب الحادث بين شهود العَيان على نفس الحادثة. يتكرر تأثير راشومون كثيرًا في حياتنا اليومية بدءًا من الأشياء التي تضعها في مكان وتظن أنك وضعتها في مكانٍ آخر، وصولًا إلى التفسيرات المختلفة للوقائع والأحداث من مراسلي التلفاز، وغيرها من المواقف التي يصبح فيها الوصول إلى الحقيقة مستحيلًا.

الملصق الدعائي لفيلم راشومون

ماذا يربط بين الذاكرة والمثلَّجات والهاتف الصيني؟

قام علماء بتجربة يشاهد فيها المتطوعون حلقة من مسلسل تلفزيوني ثم يُسأَلون عن أحداث الحلقة بعد وقت من مشاهدتها. في خلال هذا الوقت يختار المتطوعون بين التَمرُّن على حلِّ أسئلة عن الحلقة أو لعب لُعبة Tetris. قبل الاختبار النهائي شاهد المتطوعون فيديو ملخّص لأحداث الحلقة تم تغيير بعض التفاصيل فيه عن تلك التي شاهدوها في الحلقة الأصلية بهدف تشتيتهم. في الاختبار النهائي، وجد أن إجابات الفريق الذي اختار حل الأسئلة أقل دقة بشكل ملحوظ من إجابات الفريق الذي لعب Tetris! فكيف حدث هذا؟(1)

عندما تمر بموقفٍ ما تتكون ذكرى لهذا الموقف في الدماغ على شكل روابط عصبية في الذاكرة طويلة المدى فيما يعرف بعملية «تقوية أو ضم الذاكرة-Memory Consolidation». هذا جميل فالذكرى تتحول إلى حالة غير نشطة يتم تخزينها، إلا أنك كلما استرجعت هذه الذكرَى تصبح نشطة مرة أخرى ويتم إعادة عملية ضمِّها مرة أخرى “reconsolidation”. هذا يعني أنه عند استرجاع الذكرى تصبح هشَّة وقابلة للتشوه والتغيير لبعض الوقت، تمامًا كقطعة مثلجات أخرجتها من المُجَمِّد حتى انصهرت وتشوَّهت ثم جمَّدتها مرة أخرى(2).

عملية تغير الذكرى عند استرجاعها

كلما استرجعت الذكرى كلما تغيرت واختلطت بغيرها ثم تحفظ بحالتها الجديدة إلى أن تسترجعها فتتغير من جديد وهكذا. الأمر أشبه بلعبة “الهاتف الصيني” حيث يهمس اللاعب الأول في أذن من يليه بحكاية ما، ويهمس بها الثاني للثالث وهكذا. تجد في النهاية أن القصة التي يرويها اللاعب الأخير تختلف كثيرًا عن القصة الأصلية.

رحلة الذاكرة من اليقين إلى الشك!

بدأ الاهتمام بتغيُّر الذاكرة على يد عالم النفس البريطاني «فريديريك بارتليت-Frederick Bartlett»في الثلاثينيات. ومن الغريب أن لعبة الهاتف الصيني نفسها هي التي ألهمته بالبحث في تغيّر الذاكرة. حيث قام بإجراء تجارب أوضح من خلالها تغيير ذاكرة الأشخاص لقصةٍ معينة يقرؤونَها حسب اختلاف خلفياتهم الثقافية والتاريخية(3).

كما قامت «اليزابيث لوفتس-Elizabeth Loftus»عالمة النفس والقانون بجامعة كاليفورنيا بدراسة تأثير الأسئلة الموجهة “Leading Questions” على استرجاع الذكريات لدى الشهود. يشاهد المتطوعون اصطدامًا بين سيارتين، ثم يُسأَلون عن سرعة السيارتين. وجد أنه عند سؤالِهم: كم كانت السرعة حين “تصادَمَتا” يعطون تقديرات للسرعة أعلى من تلك التي يُعطونَها حين يُسأَلون عن السرعة حين “تلامَسَتا”(3).

قام العلماء أيضًا بعدَّة تجارب على الفئران والبشر والحيوانات لِمَحوِ ذِكرَى معينة باستخدام أدوية تمنع تصنيع الروابط العصبية.

كما درسوا تأثير التَحَيُّز على الذاكرة. يشاهد المتطوعون شجارًا بين اثنين، ثم يتم تقسيمهم إلى مجموعتين. إحداهُما تروي الواقعة لشخصٍ لا يُحب أحد طرفي النزاع، والأخرى تروي لشخصٍ لا يحب الطرف الآخر. وجد أن الشهادات جاءت متباينة بين المجموعتين. ولكن المُدهِش أنه حين طُلِب من كلتا المجموعتين الإدلاء بشهادةٍ أمام شخصٍ محايد، كانت روايات شهود كل مجموعة تنتقص من الأحداث حسب تحيُّزِهم لأحد الطرفين في المرة السابقة!(4)

وتوالت الكثير من التجارب حتى وقتنا هذا مؤكدة على نفس الحقيقة: أن ذاكرتنا تُخطِئ وترتجل وتَتَبدَل تحت تأثير الكثير من العوامل. يمكنها اختلاق التفسيرات وإعادة ترتيب الأحداث، وتبديل الشخصيات بما يؤكد على تأثير “راشومون” الذي كُتِبَ عنه قبل أن تؤكده الدراسات العلمية.

نصف كوب الذاكرة المَملوء

الأمر الجيّد في تغيّر الذاكرة هو أنَّنا يمكننا تغييرها! فَكِّر في مرضَى الخوف غير المبرر أو الفوبيا، أو متلازمة توَتُّر ما بعد الصدمة. ماذا لو تَمكَّن العلاج النفسي من استغلال هشاشة الذاكرة وقت استرجاعها في تغيير الذكرى السيئة التي سببت الحالة المرضية؟ يمكن من خلال هذا التأثير إعادة كتابة الذكريات كَيْلا ترتبط بمشاعر الخوف أو التوتر مرة أخرى(5). أيضًا بدراسة الظروف والعوامل التي تؤثِّر في تغير الذاكرة يمكننا أن نضع شهادات شهود العيان في محلِّها الصحيح من حيث القوَّة أو الضعف.

يفتح تأثير راشومون أمامنا الباب كي نراجع ما نعرفه عن ذاكرتنا طوال هذه السنوات. هل كان الماضي أجمل وأكثر بركةً كما يخبرنا من عاصروه من الكبار؟ هل كنت سعيدًا حقًا في تلك الرحلة؟ أم أنك تتذكر هذا لأنك ترى ابتسامتك في الصور؟ هل كان التاريخ منصفًا في وصف الوقائع والأحداث حتى لو تحرَّى المؤرِّخون الصدق؟ حسنًا إذا وصلت إلى هنا عزيزي القارئ فأنصحك بمراقبة ذاكرتك وعدم النظر للأمور بنظرة أحادية. فذاكرتك قد اعتادت ملئ الفراغات وتبديل الأحداث واختلاق المبررات كلما استرجعتها. ليس عيبًا منها، فالعقل دائمًا يسعى لراحتك، لذا قد تجده حريصًا على أن يروي لك قصة منطقية مقبولة لديك على أن يروي ما حدث بالضبط. إذا رأيت مصابًا بداء ألزهايمر تجده يقسم على صدق ما يقول، رغم أن عقله ببساطة قد حاك له قصةً لم تحدث قط. يبقى لي أن أرشح لك فيلم Rashomon، ولا تثق فيما نقلته لك من أحداث القصَّة فلعل ذاكرتي قد خدعتني مجدَّدًا!

المصادر:
1.National Geographic
2. Wikipedia
3.The Conversation
4. Neurophilosophy
5.Scientific American

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


حياة طب صحة علم الإنسان فلسفة علم

User Avatar

Mahmoud Ebied

طالب بكلية الطب جامعة الأسكندرية، ومهتم بنشر العلوم والمعرفة باللغة العربية.أنت صديقي من الآن فصاعدًا♥.


عدد مقالات الكاتب : 5
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق