Ad
هذه المقالة هي الجزء 7 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

يُترجم مصطلح «Restoration» أحيانًا إلى التعافي، وهو مصطلح واسع في نطاق علم النفس البيئي. يشمل عملية التعافي النفسية أو الفسيولوجية التي تنتج عن بيئات معينة، والتي تسمى بالبيئات التصالحية -أو البيئات العلاجية-.

أشار عدد كبير من الدراسات النفسية والسلوكية إلى أن البيئات الطبيعية أكثر تجديدًا وتحفيزًا للتعافي من البيئات الحضرية، كما أن التعرّض لتلك البيئات التصالحية يساعد في الهدوء والاسترخاء ويحول دون الإصابة بعدة أمراض -مثل تلك التي عرضناها في المقال السابق حول الإجهاد البيئي-. ولذلك فإن البيئات التصالحية ومكوناتها موضوع رئيس في دراسة المنافع الصحية للطبيعة.

نظريات التعافي بالبيئة

سيق البحث حول البيئات التصالحية بشكلٍ أساسي اعتمادًا على تفسيرين نظريين: الأول هو نظرية التعافي من الإجهاد «Stress Recovery Theory»، والمعنيّة بالتعافي من الإجهاد الناتج عند تعرض الفرد لموقفٍ أو ظرفٍ متطلبٍ ذهنيًا أو مهددٍ لسلامته؛ والثاني هو نظرية استعادة الانتباه «Attention Restoration Theory» والمعنيّة بعلاج الإرهاق الناتج عن التركيز المطوّل. بشكلٍ عام يمكننا اعتبار النظريتين متكاملتين حيث تركز كلٌ منهما على جوانبٍ محددة من عملية التعافي.

أول من وضع أسس نظرية التعافي من الإجهاد كان روجر أولريك، والذي كان رائد أبحاث البايوفيليا كما سبق لنا الحديث. حسب أولريك، فحين التعرض للطبيعة فإن انطباع الناس الأوليّ نحو بيئةٍ ما يتكون بشكلٍ لا واعٍ ودون التدقيق في مكونات البيئة المحيطة في غالب الأحيان.

تصدر الانطباعات الأولية الإيجابية عند توافر صفات بيئية معينة في البيئة المحيطة، تشمل هذه الصفات تواجد المكونات الطبيعية (مثل النباتات)، وتناظر الهيكل أو المخطط الفيزيائي للمكان، واستواء الأرضية، وغياب المخاطر على سبيل المثال. تساهم هذه الانطباعات الإيجابية عن البيئة في التعافي إذ توفر ملاذًا آمنًا من التوتر والإجهاد وتوفر مستويات أقل من الانتباه والقلق والخوف.

استعادة الانتباه: بيئات تدعو للاسترخاء

تهتم نظرية استعادة الانتباه لراشيل كابلان وستيفن كابلان بالمقابل بالعمليات الذهنية الأبطأ في التعافي. تفترض النظرية ابتداءً أن البشر لديهم قدرة محدودة لتركيز انتباههم نحو شيء ليس مثيرًا في حد ذاته، وهو ما يجهد آلية الفلترة الذهنية المسؤولة عن التركيز ويتسبب بإرهاق تركيز الانتباه «Directed attentional fatigue».

تتوقع نظرية استعادة الانتباه أن البيئة يمكنها مقاومة الإرهاق الناتج عن تركيز الانتباه حين تتصف العلاقة البشرية-البيئية بأربع صفات:

  1. الإبهار، أي قدرة البيئة على جذب الانتباه دون جهدٍ ذهني من الفرد
  2. الشعور بالتواصل او الارتباط
  3. الابتعاد عن المشاغل والمشاكل اليومية
  4. التوافق بين تفضيلات المرء وخصائص البيئة.

ولما كان من المعتاد توافر هذه الخصائص الأربع في تفاعل البشر مع الطبيعة، كانت البيئات الطبيعية أكثر فاعلية ونجاعة في العلاج عن معظم البيئات الحضرية. ولكن منشآت مثل دور العبادة أو المتاحف يمكنها توفير بعض الخصائص العلاجية أيضًا، وبالأخص بالنسبة للزوار الذين يشعرون بالراحة في تلك الأماكن.

التصميم العلاجي للمدن

تُناسب معايير التصميم العلاجي المذكورة البيئاتِ المتوفرة على مستويات عالية وحادّة من الإجهاد وصعوبة التركيز.  ولهذا فإن المعايير والمكونات العلاجية أصبحت جزءًا مهمًا من عملية التصميم المبني على الأدلة «Evidence-Based Design»، وبالأخص للمنشآت الصحية. ولكن مع كون عوامل حضرية عديدة مصدرًا رئيسيًا للإجهاد والتوتر فإن التصميم الحيوي المحب للبيئة ينال انتشارًا وتطبيقًا واسعًا على مستوى البيئات الحضرية الكاملة. فالدراسات عن البيئات العلاجية والتأثيرات الصحية للطبيعة وجدت أن التعرض للبيئة والخضرة توفر متنفسًا حتى للأشخاص غير المصابين بمستويات عالية من التوتر كما أنها تحسن من تفضيل السكان لبيئتهم.

https://omrania.com/project/king-salman-park/
حديقة الملك سلمان بالسعودية، مشروع قيد الإنشاء لـ”عمرانية” يدمج الطبيعة بالنسيج العمراني لمدينة الرياض.

تحديات تواجه البيئات التصالحية

يواجه التصميم المحب للبيئة والعلاجي عدة تحديات. إحدى  هذه التحديات هو القدر الأمثل من التعرض للطبيعة والبيئات الصحية الذي يجب أن يتعرض له الفرد. فحسب استبيان موسع في المملكة المتحدة نصح الباحثون بـ30 دقيقة أسبوعيًا كزيارة للأماكن الطبيعية والخضراء لخفض مستويات الضغط والاكتئاب لدى الأفراد. كما أن دراسة تأثيرات الطبيعة العلاجية وجدت أن مساحة المسطحات الخضراء في الحي غير مرتبطة بالعائد الصحي للتعرض له، ما يعني أن تخطيط المسطحات الطبيعية يجب أن يركز على توفير المساحات الخضراء لقطاعات أكبر من الناس وجعلها أسهل للاستخدام عوضًا عن زيادة مساحاتها فقط.

في هذا السياق يكون من الضروري الحديث عن الجانب الإداري والاجتماعي للبيئات الصحية. فكما أشرنا مرارًا في هذه السلسلة فالعلاقة بين البشر والبيئة متداخلة على عدة مستويات. أحد هذه المستويات والذي نال اهتمامًا بالغًا حول العالم بعد جائحة كورونا هو عدالة توفير الأماكن العامة والخضراء للسكان. كما زاد الاهتمام بقدرة كل فئات المجتمع ومكوناته من الوصول والتمتع بالأماكن العامة بشكلٍ آمن. فمع موجة احتجاجات حركة «Black Lives Matter» العام الماضي، توسّع الحديث حول حقوق السكان السود في أمريكا وأوروبا في الاستمتاع بالحدائق والأماكن العامة. ففي ظل شعور العديد منهم بالتهديد بسبب العنصرية، تفقد الحدائق والمساحات الطبيعية فاعليتها وأهميتها كبيئةٍ تصالحية. وتتحول المساحات هناك لمصدر للقلق عوضًا عن ذلك. [1]

التفرقة العنصرية في الأماكن العامة أيضًا تأخذ حيزًا من الاهتمام علميًا كما اجتماعيًا. مع ارتفاع درجات الحرارة عالميًا بسبب الاحتباس الحراري، ما يعني أن بعض الفئات تتمكن من الاستراحة في الحدائق والأشجار. بينما لا تجد بعض الفئات الأخرى سوى الأبنية الأسمنتية والشوارع الجرداء حولها. [2] أيضًا، يجري الحديث حول حرمان الفئات الأثر فقرًا حول العالم من الحصول على متنفسٍ صحي في ظل إجراءات الحظر المفروضة. ويزداد الأمر تعقيدًا عند الأخذ في الحسبان نفور العديد من أفراد الطبقات المتوسطة والأغنى من الفئات الأفقر. ما يجعلهم غير مرغوب فيهم في الأماكن الخضراء.

بيئات تصالحية داخل المدن؟

توفير المساحات الخضراء ليس سهلًا في الكثير من المناطق، إما لظروف المناخ أو لعدم توافر الموارد الكافية. وفي هذه الحال فيمكن الاستعاضة عن المساحات الخضراء (وهي الخيار الأمثل كما سبق لنا الحديث) فمكونات أخرى عوضًا عنها. فمثلًا وجدت بعض الأبحاث أن التعرض لمحاكات بصرية للطبيعة كالفيديوهات واللوحات الفنية) والتعرض للروائح والأصوات الطبيعية يمكن أن يوفرا عوائد صحية وعلاجية أيضًا.

كما أن الخصائص الهندسية للبيئة المحيطة، مثل التناظر والأنماط المتكررة في المكان وسلاسة التصميم نفسه ناهيك بتوفير الملاذ الآمن بعيدًا عن الضوضاء والتلوث، تساهم أيضًا في توفير بيئات علاجية ولكنها غير معتمدة على الطبيعة حصرًا. وقد وعي الكثير من سكان المدن ومحافظيها حول العالم بأهمية توفير البنية التحتية الصديقة للمشاة والسكان بعد أزمة كورونا. ويُتوقع ويُرجى أن تستمر هذه الإجراءات في المدن عالميًا لزيادة المساحات العامة المتاحة للسكان. [3]

At Steven Holl's Maggie's Barts Support Center in London, Cancer Patients  Find Uplift | Interior Design Magazine
https://www.interiordesign.net/projects/14524-at-steven-holl-s-maggie-s-barts-support-center-in-london-cancer-patients-find-uplift/
مركز ماغيز بمستشفى سانت بارتس بلندن « Maggie’s St Bart’s » ، نموذج للتصميم العلاجي والصحي ويوفر ملاذًا لمرضى السرطان بالمستشفى.
http://landezine.com/index.php/2020/04/azatlyk-square-by-drom/
ميدان أزاتليك « Azatlyk Square » في روسيا، والذي تم تطويره وسط المدينة ولا يعتمد حصرًا على المكون الأخضر.
المصادر: 
[1] The Toxic Intersection of Racism and Public Space
[2] Racism is magnifying the deadly impact of rising city heat
[3] City dwellers gained more access to public spaces during the pandemic – can they keep it?
[4] Restorative Environments, in Environmental Psychology: An Introduction, Linda Steg.

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


هندسة عمارة

User Avatar

زياد حسنين

كاتب ومعماري، مهتم بالدين والفكر والتاريخ وأشياء كثيرة أخرى.


عدد مقالات الكاتب : 14
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق