Ad
هذه المقالة هي الجزء 8 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

أمبادوكليس وصياغة الكوزمولوجيا الوردية

يبدو أن الفلسفة تحتفظ دومًا بشيء من الميثة ذلك لأنها لا تكف عن التواصل مع اللا-فلسفة والقبفلسفة في نحتها للمفاهيم. نحت سرديات ومفاهيم جديدة يمر دائما من اللحظات التي سبقت مما يعرف بالتفكير الفلسفي والمنطقي, يعد ذلك عادة في الفلسفة.  إذا ما اخذنا بتعريف دولوز للفسلفة كترسانة معرفية لإبداع المفاهيم نجد أن التفلسف الأصيل يشترط انطلاقة أصيلة. الانطلاقة تلك تحدث في الماضي لا بوصفه أول الخط إنما بوصفه الكاوس/السديم المتمثل بالاقتصاد الفكري والجمالي اللانهائي. يقدم أمبادوكليس صياغة وردية للكوزمولوجيا من خلال بعض القصائد الفلسفية.

إن فلسفة أمبادوكليس قائمة على أساس متوتر, فهي تقول الجديد من خلال القديم, تمنطق الميثوي عبر أسطرة العالمي/الطبيعي. ذلك التوتر ربما كان انعكاسًا للتوتر السياسي في بلاد الإغريق آنذاك. نعرف من سيرة أمبادوكلس بأنه شاهد على أزمات سياسية كبيرة وقد تم نفيه أيضًا من بلاده, وهذا النفي أدى إلى اغتراب فلسفي بدوره, حيث يعود الفيلسوف إلى هزيود في تصوره للانحدار من العصر الذهبي إلى العصور الأقل سعادة ومعنًى.

حول الفيلسوف الوردي أمبادوكليس

كما هي الحال مع فلسفته, سيرة أمبادوكليس فيها الكثير من اللبس؛ لوجود خرافات وأساطير حول حياته ومماته. هو من فلاسفة ما قبل سقراط, ولد في (آكراغاس-Acragas) حوالي عام 490 ق.م وتوفي في في عام 444 ق.م. في (بيلوبينيز- Peloponness). نُسبت إليه الكثير من الألقاب بما في ذلك لقب الإله, ولقبه أرسطوطاليس بمؤسس البلاغة, في حين اعتبره جالينوس مؤسس الطب. كان له مريدين, اعتبروه شخصية مقدسة, وروجوا حوله الكثير من الأساطير والحكايات الخرافية. حادثة موته تعد قصة شعرية مميزة, فحسب الشاعر الإنكليزي ماثيو أرنولد, ألقى أمبادوكليس نفسه في حفرة بركانية في جبل إتنا لإقناع تابعيه بألوهيته.

من المعروف أنه كان فيلسوفًا وشاعرًا صوفيًا تأثره بالتراث الشعري الإغريقي وفلسفة فيثاغورس. له الكثير من الكتابات, لكنها فقدت ولم تبقى منها سوى 400 بيتًا من قصيدته “حول الطبيعة” وأقل من 100 بيت من قصيدة “التطهير”. [1]

أمبادوكليس والمقترب العلمي

رغم الهالة الأسطورية حول حياته والغموض الميتافيزيقي في آراءه الفلسفية, إلا أنه كان يتمتع بحس علمي فريد. هو أول من كشف الهواء الجوي من خلال التجربة, وله نظرية حول تطور الكائنات رغم غرابتها تحتفظ بشيء من روح العلم الطبيعي المعاصر. حسب نظريته في التطور, في البداية كانت هناك صنوف لا حصر لها من المخلوقات الفانية, منتشرة في بقاع الأرض, مختلفة الأشكال إلا ما كان أبدعه من منظر للرائي, فكان هنالك برءوس بغير أعناق, وأذرعة بدون أكتاف, وأعين بغير جباه. نشأ عن ذلك كائنات زاحفة لها أيد لا يحصى عددها, كائنات لها وجوه وصدور تتجه اتجاهات مختلفة وكائنات لها أجساد الثيران ووجوه الإنسان وكائنات تجتمع فيها الذكورة والإنوثة معصا, لكنها كانت عقيمة لا تلد. ولم يستطيع البقاء من هذا كله إلا بعض الأشكال دون غيرها.[2].

الجذور الأربعة عند أمبادوكليس

يعتقد أمبادوكليس بوجود أربعة عناصر أصيلة وهي: الهواء, والتراب, والنار والماء. وهناك قوتان تتحكمان بهذه العناصر, وهما الحب والكراهية. تلك العناصر والقوى غير مخلوقة ولا فانية, فهي أزلية وأبدية, لا ينقص منها عنصر ولا يُضاف لها عنصر. هذه العناصر هي التي تخلق كل الأشياء الموجودة في الكون, فكل موجود/مخلوق هو في الأصل عبارة عن مقادر معين من امتزاج تلك العناصر. [3]

القوى الرئيسة وفق أمبادوكليس

عكس العناصر الأربعة الرئيسة، الموجودات فانية ولا يمكن لها أن تدوم للأبد, بمعنى فهي تُخلق وتُفنى. ما يجمع بين هذه العناصر هو قوة الحب (=الصداقة)، وما يفرق بينها وسبب بفناءها هو قوة الكراهية. هاتان القوتان سرمديتان، إذ لا مجال لنهاية الحب أو الكراهية, كما أنها لا تتصارع بل تتناوب. فعندما يكون كل شيء مؤتلفًا بفعل الصداقة (=الحب) وجدنا الكراهية تشق طريقها رويدًا رويدًا أو تطرد الصداقة بالتدريج إلى أن تؤول العناصر إلى دور الإنفصال التام، حيث تغيب الصداقة تمامًا. بعدئذ وبحركة معاكسة، تدلف الصداقة من جديد إلى الكون وتطرد منه الكراهية. [4]

حسب الشاعر الإغريقي هزيود فأن العالم ينحدر أخلاقيًا، بالمعنى الميتافيزيقي للأخلاق. فالعالم في البداية كان يسوده الخير, حيث كان العصر الذهبي, ومن ثم جاء العصر الفضي وتلاه البرونزي إلى أن جاء عصر الشقاء, أي العصر الحديدي. هذه السردية انتقدها أمبادوكليس، لكن ليس على نحو سفسطائي حيث أن العالم يتجه نحو الأفضل. يرى أمبادوكليس بأن العصر الأول كان العصر الذهبي، فكانت قوة الحب هي السائدة، لكن هذا العصر انتهى بسيطرة قوة الكراهية، ولكن العصر الذهبي جاء من جديد وانتهى بعد ذلك. هكذا دواليك، عصر يلي آخر بحركة دائرية.

نظرية المعرفة عند أمبادوكليس

لأمبادوكليس نظرية رائدة في الأبستمولوجيا، نظرية الشبيه يدرك الشبيه. فالأشياء الماثلة أمامنا في العالم، هي مكونة من نفس العناصر التي نتكون منها نحن. فلم يعطي أمبادوكليس أي مكانة إستثنائية للإنسان، فهو شيء موجود بجانب الأشياء الأخرى. قدم شرحًا تفصيليًا للآلية التي ندرك بها الأشياء. نظريته التي انتقدها أرسطو وثيوفراستوس، هي أن كل الأشياء تعطي دفقًا لتدخل المسامات في أعضاء الحس. تلك الدفقات المسامات ذات أشكال وأحجام مختلفة، وبالتالي فإن بعض الدفقات السائلة فقط تدخل أعضاء حسية معينة إذا اجتمعت مع مسام بالحجم والشكل الصحيحين لاستيعابها. علاوة على ذلك، يتحقق الإدراك من خلال جذب التشبيهات: ندرك الألوان الفاتحة بالنار في العين، والألوان الداكنة من خلال الماء، وتتحقق الرائحة من خلال وجود الهواء في الخياشيم. [5]

مكانة أمبادوكليس في الفلسفة

رغم مرور أكثر من ألفين وخمسمائة عام، إلا أن آراء أمبادوكليس لا زالت قادرة على خلق الدهشة. يقدم أمبادوكليس صياغة وردية للكوزمولوجيا بتدشينه الحب والكراهية في عملية الخلق. هذه النظرة الرومانسية للعالم جديرة بالاهتمام الفكري والأدبي. فالأشياء مكونة من نفس العناصر التي نتكون منها، وهذا يفسح لنا مجالًا لأن ندركها. فنحن نعي الماء لوجود الماء في تكويننا وندرك الهواء وما هو من التراب والنار الآلية ذاتها. كما أن الطرح الأخلاقي حول تعاقب العصور، الذهبية والحديدية، يعطينا أملًا بنهاية المعاناة, كما هو محبط لأن هذه المعاناة لن تنتهي على نحو أبدي، فهي ستعود بفضل سيطرة الكراهية بشكل دوري.

اقرأ أيضًا هيراكليتس واستحالة الهوية

المصادر:

  1. https://www.britannica.com/biography/Empedocles
  2. برتراند راسل, تاريخ الفلسفة الغربية الكتاب الأول, ترجمة زكي نجيب, الهيئة المصرية, ص109.
  3. https://plato.stanford.edu/entries/empedocles/#RootForc
  4. اميل برهييه, تاريخ الفلسفة, م1, ترجمة جورج طرابيشي, دار الطليعة, ص89-90.
  5. https://iep.utm.edu/empedocl/#H5
Jaffer Juqi - جعفر جوقي
Author: Jaffer Juqi - جعفر جوقي

تجرف الصيرورة كل كينونة وهي على قيد التكوين؛ الهوية غير ممكنة, ولتفادي ملل جريان الحياة البائس أجد في القراءة والترجمة, الشعر على وجه التحديد, بعض الطمأنينة

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فكر فلسفة

User Avatar

Jaffer Joqy

تجرف الصيرورة كل كينونة وهي على قيد التكوين؛ الهوية غير ممكنة, ولتفادي ملل جريان الحياة البائس أجد في القراءة والترجمة, الشعر على وجه التحديد, بعض الطمأنينة


عدد مقالات الكاتب : 32
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *