أحياء

أصل الملاريا وطريقة انتشارها قديمًا

لقد تركت الملاريا، المرض الذي عصف بالبشرية لعدة قرون، بصمة لا تمحى في تاريخنا التطوري. في الواقع، يُعتقد أن المتغيرات الجينية المسؤولة عن اضطرابات الدم مثل مرض فقر الدم المنجلي تستمر بين البشر لأنها تمنح مقاومة جزئية لعدوى الملاريا. ومع ذلك، وعلى الرغم من تأثيرها العميق، فإن أصول وانتشار النوعين الأكثر فتكاً من طفيليات الملاريا، المتصورة المنجلية (Plasmodium falciparum) والمتصورة النشيطة (Plasmodium vivax)، لا تزال محاطة بالغموض. فما هو أصل الملاريا وانتشارها قديمًا؟

لاستكشاف تاريخ الملاريا الغامض، قام فريق دولي من الباحثين من 80 مؤسسة و21 دولة بإعادة بناء بيانات جينوم البلازموديوم القديمة على نطاق واسع من 36 فردًا مصابًا بالملاريا على مدى 5500 عام من تاريخ البشرية في خمس قارات. توفر هذه الدراسة الرائدة فرصة غير مسبوقة لإعادة تصور أصل الملاريا وطريقة انتشارها قديمًا في جميع أنحاء العالم وتأثيرها التاريخي على المستويات العالمية والإقليمية وحتى الفردية.

كيف شكّل الطفيلي تاريخ البشرية؟

لقد تركت الملاريا علامة لا تمحى في تاريخ البشرية، فشكلت مسارنا التطوري بطرق عميقة. ويمكن رؤية تأثير الطفيلي في جينوماتنا ذاتها، حيث تستمر المتغيرات الجينية المسؤولة عن اضطرابات الدم مثل مرض فقر الدم المنجلي في البشر. وتمنح هذه المتغيرات مقاومة جزئية لعدوى الملاريا، وهو دليل على وجود الطفيلي المستمر عبر تاريخ البشرية.

قبل قرن من الزمان فقط، كان نطاق انتشار الملاريا يغطي نصف مساحة اليابسة في العالم، بما في ذلك أجزاء من شمال الولايات المتحدة، وجنوب كندا، والدول الاسكندنافية، وسيبيريا. إن التأثير الهائل للمرض على التطور البشري هو شهادة على وجوده الدائم في ماضينا. وكما لاحظت المؤلفة الرئيسية ميغان ميشيل، فإن إرث الملاريا مكتوب في مادتنا الوراثية ذاتها.

على الرغم من تأثيرها الكبير، فإن أصول وانتشار النوعين الأكثر فتكًا من طفيليات الملاريا، لا يزال يكتنفه الغموض. تقدم النصوص التاريخية مراجع ضئيلة، كما أن عدوى الملاريا لا تترك أي آثار واضحة في بقايا الهياكل العظمية البشرية. ومع ذلك، كشفت التطورات الحديثة في تحليل الحمض النووي القديم أن الأسنان يمكن أن تحافظ على آثار مسببات الأمراض الموجودة في دم الشخص وقت الوفاة، مما يوفر فرصة لدراسة الأمراض التي عادة ما تكون غير مرئية في السجل الأثري.

الكشف عن رحلة الطفيلي عبر القارات

لكشف التاريخ الغامض للملاريا، كان على العلماء الاعتماد على الأدلة الأثرية النادرة وفك رموز المراجع المبهمة في النصوص التاريخية. ومع ذلك، فإن الإنجازات الحديثة في تحليل الحمض النووي القديم مكنت الباحثين من إعادة بناء البيانات القديمة على نطاق جينوم البلازموديوم من 36 فردًا مصابًا بالملاريا على مدى 5500 عام من تاريخ البشرية في خمس قارات. قام فريق دولي من الباحثين بإعادة بناء انتشار الملاريا في جميع أنحاء العالم.

في الأمريكتين، كشف الفريق عن المسار الجينومي للمتصورة النشيطة، متتبعًا رحلتها من المستعمرين الأوروبيين إلى السكان الأصليين. وكشف موقع لاجونا دي لوس كوندورس في البيرو، وهو موقع مرتفع في جبال الأنديز، عن تشابه مذهل بين سلالة المتصورة النشيطة القديمة وسكان بيرو المعاصرين، مما يدل على الانتشار السريع للملاريا في المنطقة.

وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، حدد الفريق الأنشطة العسكرية التي شكلت الانتشار الإقليمي للملاريا في أوروبا. إذ كشفت المقبرة الموجودة في كاتدرائية سانت رومبوت القوطية في ميكلين، بلجيكا عن حالات المتصورة النشيطة بين عامة السكان، بينما أدى بناء مستشفى عسكري إلى ظهور المتصورة المنجلية، والتي من المحتمل أن يكون جلبها جنود تم تجنيدهم من مناطق البحر الأبيض المتوسط.

في جبال الهيمالايا، توصل الفريق إلى اكتشاف مفاجئ، أول حالة معروفة لملاريا المتصورة المنجلية في موقع تشوخوباني المرتفع في نيبال، يعود تاريخها إلى حوالي 800 قبل الميلاد. أثار هذا الاكتشاف تساؤلات حول كيفية إصابة الفرد بالعدوى، والتي ربما تم التقاطها أثناء الرحلات التجارية إلى المناطق منخفضة الارتفاع حيث تتوطن الملاريا.
تقدم هذه الحالات القديمة من الملاريا لمحة عن الديناميكيات المعقدة لتنقل البشر والتجارة وانتشار الأمراض، مما يلقي ضوءًا جديدًا على التاريخ المعقد لمسيرة الملاريا عبر القارات.

Related Post

كيف يؤثر أصل الملاريا وانتشارها في كفاحنا ضد المرض اليوم؟

لقد تم أخيراً كشف التاريخ الخفي للملاريا، ولكن ماذا يعني هذا بالنسبة لكفاحنا ضد هذا المرض الفتاك اليوم؟ وبينما نفكر في الجذور القديمة للملاريا، نتذكر أن التنقل البشري، ونزوح السكان، والدمار البيئي قد شكلوا انتشار هذا المرض عبر القارات. إن الماضي والحاضر مرتبطان بشكل وثيق، وفهم التاريخ القديم للملاريا أمر بالغ الأهمية لمواجهة تأثيرها الحديث.

وفي عالم اليوم الذي تحكمه العولمة، يستطيع المسافرون المصابون أن يحملوا طفيليات البلازموديوم إلى المناطق تم القضاء فيها على الملاريا. في حين يجعل تغير المناخ والدمار البيئي مناطق جديدة عرضة للأنواع الناقلة للملاريا. إن ظهور الطفيليات المقاومة للأدوية المضادة للملاريا والنواقل المقاومة للمبيدات الحشرية يهدد بتراجع عقود من التقدم.

ومن خلال دراسة الأمراض القديمة مثل الملاريا، يمكننا الحصول على رؤى قيمة حول هذه الكائنات الحية التي لا تزال تشكل عالمنا. يوفر اكتشاف البيانات القديمة على مستوى جينوم البلازموديوم فرصة غير مسبوقة لإعادة بناء الانتشار العالمي للملاريا وتأثيرها التاريخي. ومن الممكن أن تفيد هذه المعرفة استراتيجياتنا في السيطرة على الملاريا والقضاء عليها، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى إنقاذ أرواح لا حصر لها.

وبينما نتطلع إلى المستقبل، فمن الواضح أن الإرث الحديث للملاريا هو إرث من النضال المستمر والقدرة على الصمود. ولكن من خلال تبني دروس الماضي، يمكننا صياغة مسار جديد إلى الأمام، حيث يتم تسخير قوة الحمض النووي القديم لمكافحة هذا التهديد للصحة العامة وحماية الأرواح البشرية في جميع أنحاء العالم.

المصادر:

Origin and spread of malaria / science daily

أخبار علمية

Share
Published by
أخبار علمية

Recent Posts

كيف توقعت كلاريفت الفائزين بجوائز نوبل 2024؟

ما هي قائمة استشهادات كلاريفت السنوية؟ قائمة استشهادات كلاريفت (Clarivate Citation Laureates) هي قائمة من…

6 ساعات ago

هل يفوز الذكاء الاصطناعي بجائزة نوبل يوما ما؟

يعمل الذكاء الاصطناعي على إحداث تحول في العديد من الصناعات، ويستكشف العلماء إمكاناته لإحداث ثورة…

23 ساعة ago

ما هي المشاكل الوجودية التي يعاني منها جميع البشر؟

لقد تصارع الفلاسفة لفترة طويلة مع مفهوم المعاناة، ولكن في الفلسفة الوجودية (Existentialism) تتلقى المعاناة…

3 أيام ago

دراسة تقترح دفن الخشب لمكافحة تغير المناخ!

قامت دراسة حديثة نشرت في مجلة (Science) في 27 سبتمبر 2024، باقتراح دفن الخشب لمكافحة…

3 أيام ago

الفائزات الأخيرات بنوبل في الفيزياء يشاركن نصائحهن

لقد شهدت الفيزياء تحولا كبيرا في السنوات الأخيرة مع الاعتراف بالمساهمات البارزة للمرأة. ومن بين…

3 أيام ago

تطوير ملابس مستوحاة من الحبار تتكيف مع درجة حرارة الجسد!

هل تريد أن تتكيف ملابسك مع درجة حرارة جسمك في الوقت الفعلي، وأن ترتدي نفس…

3 أيام ago