- لماذا تسمى نظرية التطور وليس قانون التطور؟
- الأدلة التشريحية على التطور
- أدلة التطور: الأعضاء الضامرة
- الأدلة السلوكية على التطور
- الأدلة على التطور من علم الأجنة
- أدلة التطور: مشاهدة التطور في المعامل
- أدلة التطور من السجل الأحفوري
- أدلة التطور: التطور السريع
- أدلة تطور الحيتانيات
- أدلة التطور من الجينوم
- التصميم الذكي في ميزان العلم
- ردود على نقد التطور
- اختبار مقدمة في نظرية التطور
في مقال اليوم نتعرف على أقوى خط من خطوط أدلة التطور، إذ سنتحدث عن أدلة التطور من الجينوم. الأدلة الجينومية هي نوع حديث نسبيًا من أنواع الأدلة على التطور، حيث أن كل ما سنذكره في مقال اليوم من أدلة لم يكن معروفًا قبل القرن الماضي. لقد تطورت علوم الجينوم بقوة وأصبحت ركيزة أساسية في علوم الطب والصحة والبيولوجيا. توقع الكثيرون أنها ستوجه ضربة قاضية لنظرية التطور، ولكنها على العكس، وجهت ضربة قاضية لكل ما يخالف التطور. لقد ظهرت جينات الأعضاء الضامرة بوضوح، بل وكيف ضمرت جينيًا. أصبح بالإمكان رسم شجرة التطور بواسطة الحواسيب من خلال تحليل تتابعات متعدد لجين معين ومعرفة رحلته التطورية عبر الكائنات الحية. والآن لنستعرض الأدلة، ولكن علينا أولًا أن نفهم بعض أساسيات علم «الأحياء الجزيئية-Molecular Biology».
محتويات المقال :
ما هو ال DNA؟

تتكون كل الكائنات الحية التي تعيش على كوكبنا من خلايا، فالخلية هي الوحدة الأساسية لبناء الكائن الحي. وفي نواة الخلية، نجد جزيئات معقدة تُدعى «الحمض النووي الريبي منقوص الأوكسجين-Deoxyribonucleic acid» وهي ما نرمز له ب “DNA”.
ويتكون ال DNA من تسلسل حروف هي A,C,T,G وكل حرف منهم يرمز إلى مركب كيميائي، حيث أن:
• حرف A يرمز إلى «أدينين-Adenine»
• حرف C يرمز إلى «سيتوزين-Cytosine»
• حرف T يرمز إلى «ثيامين-Thymine»
• حرف G يرمز إلى «جوانين-Guanine»
وتُدعى هذه المركبات الأربعة ب «القواعد النيتروجينية-Nitrogenous bases». عند اتحاد القواعد النتيروجينية مع جزيء «سكر خماسي الكربون-Pentose sugar»، و«مجموعة فوسفات-Phosphate group» تكون «النيوكليوتيدات-Nucleotides»، وهي وحدة البناء الأساسية لل DNA.
ما هي الجينات؟ وكيف تعمل؟
الجين هو قطعة لها بداية ونهاية من شريط الDNA، بمعنى أدق، هو تسلسل محدد من الحروف A,C,T,G. يحمل هذا التسلسل الأوامر اللازمة لإنتاج بروتين محدد، كأنها حروف في كتيب تعليمات لتركيب أجزاء المروحة. وفقًا لترتيب تلك الحروف، تترتب الأجزاء معًا وينتج في النهاية مروحة تعمل بكفاءة. ولكن كيف تعمل الجينات؟
يتم نسخ تسلسل حروف الجين الموجودة على شريط الDNA إلى تسلسل حروف آخر يُسمى «RNA رسول-Messenger RNA» ويُرمز له ب”mRNA”. ينتقل جزيء الmRNA هذا من نواة الخلية إلى «الريبوسوم-Ribosome» (أحد العُضيّات الموجودة داخل الخلية)، ويعمل الريبوسوم كآلة لإنتاج البروتين، حيث يقوم بقراءة تسلسل حروف الmRNA. تعطي كل 3 حروف الأمر لاختيار أي نوع من أنواع «الأحماض الأمينية-Amino Acids» بالتحديد ليضعه الريبوسوم في السلسلة. على سبيل المثال، الحروف “CAA” تخبر الريبوسوم أن يختار «الجلوتامين-Glutamine» (أحد الأحماض الأمينية). وعند الانتهاء من قراءة الmRNA تكون عملية تكوين البروتين قد تمت، ويمكنك مشاهدة مقطع يوضح هذه العملية الرائعة من هنا. [1]
وبعد هذه المقدمة التمهيدية البسيطة، ننتقل إلى استعراض أدلة التطور من الجينوم.
وحدة الشيفرة الجينية
كما ذكرنا، تستخدم كل الكائنات الحية على الأرض الDNA لتشفير معلوماتها الوراثية. كما تستخدم نفس طريقة صنع البروتين، حيث تعطي نفس الثلاث حروف الأمر للريبوسوم لوضع نفس الحمض الأميني في سلسلة الأحماض الأمينية لصنع البروتين في كل الكائنات الحية، ولكن ما هو تفسير هذا؟
وقد يتساءل القارئ عما إن كان هذا يتطلب تفسيرًا أصلًا، ولكن صدق أو لا تصدق عزيزي القارئ، شيفرة الDNA ليست الشيفرة الوحيدة الممكنة.
أظهرت الأبحاث باستخدام برامج الحاسوب إمكانية تشفير المعلومات الوراثية بما يزيد عن مليون شيفرة جينية ممكنة غير الDNA. بل أن بعضها قد يؤدي وظيفته بشكل أفضل بكثير من الDNA، فلماذا تستخدم كل الكائنات نفس الشيفرة؟ [2] , [3]
لا يمكننا فهم هذا إلا في ضوء نظرية التطور من أصل مشترك. فنظرية التطور تخبرنا أن جميع هذه الكائنات ورثت شيفرتها الوراثية من نفس الكائن الأولي.
ولا يمكننا أن نفهم سر وحدة الشيفرة في ضوء فكرة الخلق الخاص. لو كانت كل الكائنات قد خُلقت بشكل منفصل لما كان هناك حاجة لتكون هناك شيفرة موحدة. بل على العكس، فوجود شيفرات مختلفة في الكائنات المختلفة كان ليمنع انتقال الفيروسات بين الحيوانات المختلفة، مثل إنفلونزا الخنازير، وإنفلونزا الطيور والكورونا التي تصيب البشر، وغيرها من الفيروسات.
نسبة التشابه الجيني بين الرئيسيات
لا تتشارك الكائنات نفس الشيفرة فحسب، بل تتشارك في كمية كبيرة من الجينات. وتختلف نسبة التشابه الجيني بين الكائنات وفقًا لقربها أو بعدها عن بعضها البعض تطوريًا.
تبلغ نسبة الاختلاف الجيني بين البشر نسبة ضئيلة تُقدر ب 0.1%، وتستخدم نسبة التشابه في معرفة الأنساب وتحديدها قضائيًا اليوم. أما بيننا وبين أولاد عمومتنا من الشيمبانزي وقرود البونوبو تبلغ نسبة التشابه حوالي 1.2%، بينما تصل إلى 1.6% بيننا وبين الغوريلا. والأهم من ذلك، هو أن كل من البشر والشيمبانزي والبونوبو يتشاركون نفس نسبة الاختلاف الجيني عن الغوريلا. أي أن الشيمبانزي والبونوبو أقرب إلى الإنسان منهم إلى الغوريلا.
وتختلف طرق حساب نسبة التشابه والاختلاف الجيني، وباختلاف الطريقة تختلف النسبة. حيث أنه بأخذ الجينوم الكامل بالحسبان، تُظهر النتائج أن هناك مناطق من الDNA قد حُذفت، أو تمت مضاعفتها مرات ومرات. أضيف بعضها في أماكن أخرى من الجينوم أيضًا. وعند الأخذ بكل هذه الاختلافات، قد تصل نسبة الاختلاف الجيني بين الإنسان والشيمبانزي إلى ما بين 4% و5%. ومهما اختلفت طرق الحساب فالنتيجة واحدة، وهي أن الإنسان والشيمبانزي والبونوبو أقرب إلى بعضهم منهم إلى الغوريلا أو أي من الرئيسيات الأخرى. وهذا يخبرنا بحقيقة مدهشة وبديهية في الأوساط العلمية اليوم، وهي أننا لسنا فقط أقارب القردة العليا، بل نحن منهم!
وتتيح لنا دراسة نسب التشابه الجيني بين الكائنات بناء شجرة عائلة تربط هذه الكائنات ببعضها البعض. والمفاجأة أن هذه الشجرة تطابق ما يخبرنا به كل من التشريح المقارن ودراسة الحفريات في ضوء نظرية التطور. [4]

يعترض بعض المشككين قائلين أن التشابه الجيني لا يعني وحدة الأصل. لكن الواقع يقول أن الجينات لا تنتقل بين الكائنات الحية إلا بالتكاثر، فكون الكائنات تمتلك نفس الجينات يعني انحدارها من نفس الأصول. وكما تثق في تحليل الDNA الذي يخبرك إذا ما كان الطفل ابنك البيولوجي أم لا، عليك أن تثق بنتائج تلك الأبحاث التي تخبرك عن علاقتك التطورية بينك وبين أبناء عمومتك من الشيمبانزي والبونوبو وباقي الرئيسيات. علمًا بأن تحليل الDNA يتم بنفس الطرق التي قيست بها هذه النسب.
الكروموسوم 2
لدى الإنسان 23 زوجًا من الكروموسومات (46 كروموسوم)، بينما تمتلك القردة العليا الأخرى (الشيمبانزي، والأورانجوتان، والبونوبو، والغوريلا) 24 زوجًا (48 كروموسوم). غالبًا ما يلجأ المشككون لهذه المعلومة لدحض التطور، فيقولون إذا كان الإنسان من القردة العليا، فلماذا يختلف عنهم في عدد الكروموسومات؟
وتكمن الإجابة في أن تسلسل الDNA على الكروموسوم 2 لدى الإنسان متطابق تقريبًا مع كروموسومين منفصلين لدى الشيمبانزي. اقترح العلماء أن سبب اختلاف عدد الكروموسومات وفقًا لنظرية التطور هو أن الكروموسوم 2 عبارة عن كروموسومين مندمجين من كروموسومات القردة العليا، ولكن كيف نختبر هذه الفرضية؟
تُدعى أطراف الكروموسومات «تيلوميرات-Telomeres»، كما أن هناك منطقة تقع في منتصف الكروموسومات تُدعى «سنترومير-Centromere». يحتوي الكروموسوم الطبيعي على 2 تيلومير (نهايتين) وسنترومير واحد. فإذا كان الكروموسوم 2 في الإنسان عبارة عن اندماج في كروموسومين في القردة العليا، فعلينا أن نعثر على آثار لهذا الالتحام.
وجد العلماء آثار هذا الالتحام بالفعل، فقد أظهرت الأبحاث وجود بقايا تيلومير في منتصف الكروموسوم 2 (ناتج عن التحام تيلوميري الكروموسومين)، وبقايا سنترومير كذلك. هذا ما يثبت أن الكروموسوم 2 هو بالفعل عبارة عن اندماج كروموسومين من كروموسومات القردة العليا بشكل قاطع ولا يمكن تفسيره إلا باندماج كروموسومين. يدل هذا بما لا يدع مجال للشك على أصولنا المشتركة مع القردة العليا الأخرى. [5] , [6]

تكرار CMT1A الأقرب
على الكروموسوم 17 في الإنسان يقع جين PMP-22 الذي يشفر لإنتاج بروتين (Peripheral nerve protein-22)، محاطًا بنسختين من جين CMT1A، وهما «تكرار CMT1A الأقرب-Proximal CMT1A-REP»، و«تكرار CMT1A الأبعد-Destal CMT1A-REP».
ويؤدي «تعابُر الكروموسومات-Chromosome crossover» غير المتساوي، الناتج عن سوء اصطفاف التكرارين الأبعد والأقرب للجين CMT1A إلى مرضين عصبيين شائعين هما:
• Charcot-Marie-Tooth disease type (1A) (CMT1A)
• Hereditary Neuropathy with liability to Pressure Palsies (HNPP).
وبهذا نعتبر وجود نسختين من جين CMT1A خطأً وراثيًا، إذ يتسبب هذا التكرار غير الضروري بالإصابة بالأمراض العصبية، ولكن كيف يدل هذا على التطور؟
أظهرت تحاليل الDNA للرئيسيات امتلاكها جميعها لتكرار CMT1A الأبعد، ولكن فقط الإنسان والشيمبانزي وحدهما يمتلكان تكرار CMT1A الأقرب جنبًا إلى جنب مع التكرار الأبعد. أي أن هذا الخطأ الوراثي موجود فقط في الإنسان والشيمبانزي، ويمكننا تفسير هذا بحدوث عملية تضاعف للجين CMT1A في آخر سلف مشترك للإنسان والشيمبانزي.
لا يمكننا تفسير وجود هذا الخطأ لكل من الشيمبانزي والإنسان إلا وفق نظرية التطور. إذ ستتضاءل احتمالية حدوث نفس الخطأ لدى كل من النوعين بشكل منفصل دونًا عن بقية الرئيسيات التي أجريت عليها التحاليل. يصبح الأمر منطقيًا وفقًا لشجرة العائلة التطورية للقردة العليا. [7]
«الجينات الزائفة-Pseudogenes»
أثناء عملية التطور، تحدث طفرات لبعض الجينات متسببة في تعطيلها وتحويلها إلى جينات غير مشفرة للبروتين. تسمى هذه الجينات بالجينات الزائفة، لأنها لا تؤدي وظيفتها. تعتبر تلك الجينات الزائفة من أوضح الأمثلة على نظرية التطور، إذ لا يوجد ما يفسرها سوى النظرية. فهل من أمثلة؟
تنتج أجسام جميع الثدييات فيتامين C. إلا أن أجسام «الرئيسيات جافة الأنف-Haplorhini» (مجموعة تشمل قرود العالم القديم، وقرود العالم الجديد، والقرود العليا ومنها الإنسان) لا تستطيع صنع فيتامين C. تحصل الرئيسيات جافة الأنف علي فيتامين سي من غذائها، وفي حال عدم حصولها على الكميات الكافية، تُصاب بداء «الأسقربوط-Scurvy». يرجع هذا إلى عدم قدرتها على تصنيع إنزيم “l-gulono-gamma-lactone oxidase”، نظرًا لتعطل جين GULO المسئول عن إنتاج هذا الإنزيم.
المثير في الأمر هو أن جين GULO معطّل في جميع الرئيسيات جافة الأنف لنفس السبب، وهو فقدان «الإكسونات-Exons» (نطاقات مشفرة في الجينات) أرقام 1,2,3,5,6,8,11. وهو ما لا يمكننا فهمه إلا في ضوء انحدار الرئيسيات جافة الأنف من سلف مشترك.
ولا تصمد فكرة الخلق الخاص أو التصميم الذكي في محاولة تفسير الجينات الزائفة. فلا داعي لوجود جين GULO في تلك الأنواع إن كان معطلًا أصلًا. كما أنه لا داعي لأن يتم تعطيل الجين بفقدان نفس الإكسونات بين مختلف أنواع الرئيسيات جافة الأنف. إذ