Ad

في أوائل القرن العشرين، عثر الكيميائي الفرنسي إدوارد بنديكتوس على اكتشاف رائد من شأنه أن يغير مجرى التاريخ. حيث أسقط قارورة تحتوي على محلول الكولوديون (collodion) بالصدفة، ووجد أنها لم تتحطم. وبدلاً من ذلك، ظلت قطع الزجاج ملتصقة ببعضها البعض، مثل الفسيفساء. أدى هذا الاكتشاف العرضي إلى اختراع الزجاج الغير قابل للكسر (shatterproof glass)، وهو ابتكار من شأنه أن يحدث ثورة في صناعة السيارات. ولكن قصة بنديكتوس تثير سؤالاً جوهرياً، هل الاكتشافات العلمية حتمية أم محض صدفة؟

الوقوف على أكتاف العمالقة

عندما نفكر في الاكتشافات العلمية، فإننا غالبًا ما نتخيل العقول اللامعة التي تعمل لوحدها، وتتمتع بلحظات اكتشاف تغير مسار الفهم البشري. ومع ذلك، فإن الحقيقة هي أن معظم الإنجازات العلمية مبنية على الأسس التي وضعها الآخرون. وكما قال إسحاق نيوتن ذات مرة: “إذا كنت أرى ما هو بعيد، فذلك من خلال الوقوف على أكتاف العمالقة”.

ويشير مفهوم “الوقوف على أكتاف العمالقة” إلى أن التقدم العلمي تراكمي، حيث يبني كل جيل من العلماء على اكتشافات وأفكار أسلافهم. وتتجلى هذه الظاهرة في الطريقة التي تم بها العديد من الاكتشافات الرائدة على يد علماء تأثروا بعمل الآخرين. على سبيل المثال، تأثرت نظرية تشارلز داروين للتطور عن طريق الانتقاء الطبيعي بشكل كبير بعمل توماس مالتوس، الذي كتب عن النمو السكاني واستنزاف الموارد. وبالمثل، أصبح اكتشاف جيمس واتسون وفرانسيس كريك للبنية الحلزونية المزدوجة للحمض النووي ممكنًا بفضل عمل روزاليند فرانكلين وموريس ويلكنز، اللذين قدما البيانات المهمة التي أدت إلى هذا الاكتشاف..

غير أن الطبيعة التراكمية للتقدم العلمي لا تقتصر على التأثير المباشر. في كثير من الأحيان، يمكن للعلماء الذين يعملون على حل مشاكل مختلفة وفي مجالات مختلفة أن يساهموا في تحقيق اكتشاف دون أن يدركوا ذلك. على سبيل المثال، أصبح تطوير التخدير ممكنًا بفضل عمل العديد من العلماء الذين اكتشفوا خصائص الغازات وتأثيراتها على جسم الإنسان. ومع مرور الوقت، وضعت الجهود الجماعية لهؤلاء العلماء الأساس لاكتشاف التخدير في نهاية المطاف.

وبهذا المعنى، يمكن النظر إلى الاكتشاف العلمي باعتباره جهدًا تعاونيًا، حيث يضيف كل جيل من العلماء مساهماتهم الفريدة إلى مجموعة المعرفة الإنسانية. في حين أن العلماء قد يحققون اكتشافات رائدة، إلا أنهم يقفون دائمًا على أكتاف من سبقوهم، ويبنون على أفكارهم واكتشافاتهم لدفع حدود الفهم البشري إلى أبعد من ذلك.

التقارب

في الاكتشاف العلمي، التقارب (convergence) هو الظاهرة التي يقوم فيها باحثون مختلفون، يعملون بشكل مستقل، بالتوصل إلى حلول مماثلة لمشاكل مماثلة. يبدو الأمر كما لو أن عقولهم متصلة بشكل ما. هذه ليست مجرد صدفة. إنها عملية طبيعية تعكس البنية الأساسية للمشهد العلمي.

خذ على سبيل المثال نظرية التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي. توصل تشارلز داروين وألفريد راسل والاس، وهما عالمان يعملان في أجزاء مختلفة من العالم، إلى نفس النتيجة، على الرغم من عدم التواصل مع بعضهما البعض. كلاهما قرأ توماس مالتوس، ولاحظ توزيع الأنواع على الجزر، وربط النقاط ببعضها. لقد طرحت البيئة مشاكل بقاء مماثلة، واستجابت بحلول مماثلة.

ولا يقتصر التقارب على علم الأحياء أو التطور. في القرن التاسع عشر، تسابق العديد من الباحثين لفك رموز التركيب الجزيئي للحمض النووي. حيث عملوا بشكل منفصل، لكن الهدف كان هو نفسه، وكان الحل قاب قوسين أو أدنى. الانطباع الصافي أن الهدف كان قريباً، والحل ينتظر أن يلتقطه أحد.

الاكتشافات العلمية حتمية أم صدفة

الصدفة والحتمية متشابكان في الاكتشافات العلمية

عندما نتعمق أكثر في قصص الإنجازات العلمية، غالبًا ما نجد أن الصدفة والحتمية متشابكان. من ناحية، قد يعمل العلماء عمدًا على حل مشكلة معينة، ولكن من ناحية أخرى، يمكن أن تحدث أحداث مصادفة تؤدي إلى اكتشافات غير متوقعة. ويتجلى هذا في حالة إدوارد بنديكتوس، الذي اكتشف بالصدفة الزجاج الغير قابل للكسر.

في كثير من الحالات، يمكن للسعي المتعمد للتوصل إلى حل أن يخلق بيئة مواتية للصدفة. على سبيل المثال، بينما كان كريك وواتسون يعملان بشكل متعمد لفهم بنية الحمض النووي، لعبت خبرة عالم البلورات دونوهيو ومعرفته بالروابط الهيدروجينية دورًا بالصدفة في تصحيح نموذجهما للأزواج القاعدية النوكليوتيدية واكتشاف بنية الحلزون المزدوج. في جوهر الأمر، تتشابك مسارات النية والصدفة، وغالبًا ما يكون من الصعب فصل أحدهما عن الآخر.

كيف يتحرر القادمون الجدد من المعرفة الراسخة؟

إن الاكتشافات العلمية لا تتعلق فقط بالحتمية أو الصدفة. بل يتعلق الأمر أيضًا بقوة وجهات النظر الجديدة والتأثير التحرري للعقول المجهولة. عندما يدخل العلماء الجدد إلى مجال ما، فإنهم غالبًا ما يجلبون معهم مجموعة فريدة من الخبرات والمهارات وطرق التفكير التي يمكن أن تساعدهم على التحرر من المعرفة الراسخة وتخيل إمكانيات جديدة.

فكر في الأمر على هذا النحو، إن عمالقة العلم، على الرغم من تألقهم، غالبًا ما يكونون مقيدين بمعرفتهم السابقة وأسئلتهم البحثية. لقد استثمروا سنوات من حياتهم في مشكلة أو منهجية معينة، وقد يكون من الصعب عليهم رؤية ما هو أبعد من أطرهم الخاصة. لكن العالِم الجديد، بعقله المستعد، لا يقتصر على نفس القيود. إنهم أحرار في التفكير خارج الصندوق، وتحدي الافتراضات، واستكشاف مسارات جديدة ربما أغفلها الآخرون.

هذا لا يعني أن القادمين الجدد هم بطبيعتهم أكثر ابتكارا أو إبداعا من العلماء المعروفين. ولكن، لديهم ميزة عندما يتعلق الأمر بالصدفة. إنهم أكثر عرضة لاكتشاف علاقات غير متوقعة أو رؤى مفاجئة، وذلك ببساطة لأنهم غير مثقلين بالمعرفة السابقة أو راسخين في طرق التفكير التقليدية.

المصدر

Is Discovery Inevitable or Serendipitous? | nautilus

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


علم

User Avatar


عدد مقالات الكاتب : 326
الملف الشخصي للكاتب :

التالي

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *