أُعلن اليوم فوز العالمتين «ايمانويل شاربنتيير-Emmanuelle Charpentier» و«جينيفير دودنا-Jennifer Doudna» بجائزة نوبل للكيمياء لعام ٢٠٢٠، وذلك لمساهمتهما في اكتشاف تقنية «كريسبر-CRISPR» للتعديل الجيني الدقيق، وهي التقنية التي غيّرت علم الجينات والوراثة، وقد تغيّر عالمنا للأبد. إذن، كيف ستغيّر تقنية كريسبر-كاس 9 للتعديل الجيني حياتنا؟
سنتعرف في هذا المقال التفصيلي على كيفية عمل تقنية «كريسبر-CRISPR» وأهمية التعديل الجيني في حياتنا.
محتويات المقال :
ما هو التعديل الجيني؟
التعديل الجيني يُعرف أيضًا بالهندسة الجينية، وهو مجموعة من التقنيات المتقدمة التي تسمح للإنسان بتعديل المعلومات الجينية بطريقة دقيقة جدًا، سواء من خلال إضافة أو إزالة أو تغيير المادة الوراثية في مواقع محدّدة من التتابعات الچينية.
وتُطبق تقنيات التعديل الجيني على عدد كبير من الكائنات، من البكتيريا إلى النبات وصولًا إلى الحيوان والإنسان. لذلك فإن استخدام هذه التقنيات أثر في العديد من المجالات العلمية.
سمحت التقنية بتغيير سمات النباتات والمزروعات لتصبح أكثر إنتاجية، ومن جهة أخرى أعطت الأمل في العلاج الجيني لكل أنواع الأمراض الوراثية.
كما قد تتخطى الحدود، لتسمح باختيار السمات الخارجية الوراثية للمولود (مثل لون العيون أو جنس المولود مثلًا)، وهنا طبعًا يبدأ الحديث عن الجانب الأخلاقي الذي يلازم كل تكنولوجيا جديدة أو تقنية متقدمة ذات تأثير ضخم على البشرية.
كيف اكتُشفت تقنية كريسبر؟
عام 1953، اكتشف العالمان «جايمس واتسون- James Watson» و«فرانسيس كريك-Francis Crick » تركيبة الحمض النووي على شكل «الحلز المزوج-Double Helix»، وقد نالا جائزة نوبل في الطب للعام 1962.
منذ ذلك الحين، انكبّ العلماء على تطوير تقنيات تخوّلهم التحكم بالمادة الوراثية الموجودة في الحمض النووي وتعديلها.
جاءت تقنية كريسبر لتجعل هذا الحلم حقيقيًا، بل سهلًا وقليل الكلفة أيضًا، ولكن كيف وصلنا إلى تقنية كريسبر؟
من واطسون وكريك إلى كريسبر، كيف وصلنا إلى التعديل الچيني؟
لوحظ عام 1987 وجود تركيبة مكرّرة في جينوم البكتيريا «اشيرشيا كولي- Escherichia Coli»، كذلك وُجدت تركيبة متكررة في واحدة من ال«العتائق-Archaea » التي تسمى «هالوفيراكس ميديتيراني-Haloferax mediterranei»، وتتكرر هذه التركيبة على مسافات متساوية.
تبيّن فيما بعد أن هذه التراكيب المتكرّرة موجودة في جميع أنواع الكائنات الأحادية الخلية (Prokaryotes)، وتحمل هذه التراكيب صفات مشتركة، فهي تراكيب قصيرة متكررة على مسافات متساوية. لذلك سُمِّيت:
Clustered Regularly Interspaced Short Palindromic Repeats واختصرًا سميت ب CRISPR.
إذن، متى تحول اسمه من كريسبر إلى كريسبر كاس ٩؟
عام 2002، نُشر للمرة الأولى اسم CRISPR-cas9، بعد اكتشاف مجموعة من الجينات (cas) المُلازمة للكائنات الأحادية الخلية، ويكون موقعها دائمًا مجاور لتركيبة CRISPR. كما تبيّن أن دور هذه المجموعة من الجينات يتعلّق بالتعبير الجيني لتراكيب CRISPR.
في العام 2005، بدأ الباحثون بفهم أهمية تركيب كريسبر، فاكتشفوا أن الكائنات أحادية الخلية التي تملك تركيبة كريسبر تصبح أكثر مقاومةً للفيروسات، ممّا يرجح دور تركيب كريسبر في الحماية من الحمض النووي الغريب عنها (أي الحمض النووي الذي يأتي من العدوى الفيروسية).
كيف عرفنا دور كريسبر كاس ٩ المناعي في البكتيريا؟
أُثبتت هذه النظرية للمرة الأولى في عام 2007 من خلال مجموعة من الاختبارات، قام فيها الباحثون بالتسبب بإصابة البكتيريا العقدية أو «ستربتوكوكوس تيرموفيلوس- Streptococcus thermophilus» بالعاثيات (Bacteriophage).
أبدت البكتيريا المجهزة بتركيبة كريسبر مقاومة واضحة للعدوى، أما البكتيريا المُزال منها تركيبة كريسبر، فقدت قدرتها على المقاومة ونجح الفيروس في إصابتها.
في عام 2008، أثبتت مجموعة من الاختبارات أن تركيبة كريسبر غالبًا ما تستهدف الحمض النووي DNA بدلًا من الحمض النووي RNA.
تستهدف تركيبة كريسبر تحديدًا الحمض النووي المشابه لها، والذي يكون محمولًا من قبل الفيروسات أو الكائنات الغزوية الأخرى، ممّا يفترض أن هذه التراكيب يأتي أصلها من فيروسات غزت البكتيريا سابقًا، فتمكنت البكتيريا من مقاومتها واحتفظت ببقاياها من الحمض النووي كالذاكرة المناعية، بل واستخدمت تلك الذاكرة سلاحًا بوجه الهجمات القادمة.
ولكن هذه المعلومة تستوجب طرح سؤال مهم وهو: إذا كانت تراكيب كريسبر تهاجم التراكيب التي تحمل حمضًا نوويًا يشبهها، وهي تراكيب متكررة، فما الذي يمنعها من تدمير بعضها البعض؟
ما الذي يمنع تراكيب كريسبر من مهاجمة بعضها البعض؟
هذا ما أُجيب عنه من خلال اكتشاف تراكيب صغيرة مجاورة لتركيب كريسبر، تسمى ب”Protospacer Adjacent Motifs” PAM . وتبين فيما بعد أن دور هذه التراكيب الصغيرة لا يقتصر على حماية تراكيب كريسبر من بعضها البعض، بل أيضًا تلعب دورًا في استهداف الحمض النووي المهاجم.
في عام 2011، أصبح واضحًا دور تركيبة كرسيبر-كاس9 في حماية الكائنات الأحادية الخلية من الكائنات المهاجمة.
بدأ تقصي نظام عمل هذه التركيبة. وهنا بدا فهم دور بروتينات كاس (Cas) مهمًا، فتبين أنها تعمل على مستويات ثلاثة: دمج الحمض النووي للكائن المهاجم في تركيبة كريسبر، ونشأة الcrRNA، وتعطيل الحمض النووي للكائن المهاجم.
ما دور إيمانويل شاربينتير في اكتشاف تقنية كريسبر كاس ٩؟
في العام نفسه، عملت الباحثة «إيمانويل شاربنتيير-Emmanuelle Charpentier» مع عدد من زملائها على تفسير نظام عمل الcrRNA، وهو ما يقوم بالبحث عن الحمض النووي المشابه للذي يحمله تركيب كريسبر.
لكن عمل الcrRNA لا يكتمل دون عمل (tracrRNA (Trans-activating CRISPR RNA. فالtracrRNA يقترن مع تراكيب pre-crRNA التي تتحول فيما بعد لcrRNA . وتشكّل الRNA المُرشد (Guide RNA) سويًا.
متى وكيف سهمت جينيفر دودنا في التقنية إذن؟
قررت الباحثتان شاربنتيير ودودنا التعاون لدرس إمكانية استخدام الcrRNA لإرشاد مقصات كريسبر للتسلسلات المرغوبة وبالتالي القدرة على التعديل الجيني.
بالفعل أعلنت الباحثتان في عام 2012 عن إمكانية برمجة بروتينات كاس9 مع الRNA المُرشد لتعديل أي تسلسل من الحمض النووي DNA.
شكّل اكتشافهما ثورة في عالم الكيمياء الحيوية وفي التكنولوجيا الطبية، وأعطيا الإنسان، ولأول مرة في التاريخ، القدرة على التحكم الدقيق بصفات كل الكائنات الحية، ممّا قد يوفر الملايين من سنين التطور، ويجعل التطور قابلًا للتطبيق من خلال تقنية سهلة وعالية الدقة وقليلة الكلفة.
عبّرت لجنة نوبل عن أهمية الاكتشاف بقولها أن الباحثتان قد أعادا كتابة شفرة الحياة!
الوجه الآخر للتعديل الجيني، مخاوف وتحديات
على الرغم أن التعديل الجيني يُعد ثورة علمية قادرة على تخليص البشرية من آلاف الأمراض الوراثية، وقادرة على جعل الكائنات الحية أقوى أو أذكى أو أكثر فعالية وفي خدمة الإنسان، إلا أنه يمكن أن تتحول إلى سلاح فتّاك، قد يقضي على التنوع البشري أو يعزز الفروقات العنصرية والطبقية في العالم.
لذلك يعتبر علم الوراثة والجينات من أكثر العلوم تعقيدًا على الصعيد الإنساني والأخلاقي، ويطرح إشكاليات عديدة.
السلامة كتهديد مباشر تطرحه تقنيات التعديل الچيني
الإشكالية الأولى تتعلّق بالسلامة، فعملية التعديل الجيني يمكن أن تصبح خطيرة، إذا عُدلت جينات غير مرغوبة، أو إذا لم تتم عملية التعديل بشكل سليم، وقد يكون لهذه الأخطاء التقنية نتائج مرعبة على صحة وسلامة المريض أو المولود.
العدالة والإنصاف والمساواة قد تهتز بشدة مع تطور تقنيات التعديل الچيني
الإشكالية الثانية تتعلق بالعدالة والمساواة بين البشر، فلنتخيل مثلًا أن هذه التقنية أصبحت متاحة فقط بيد طبقة غنية من البشر، ستظهر الفروقات أكبر في الرعاية الصحية، خصوصًا أن التقنية تمكّن من تجنب الأمراض الوراثية، بل من الممكن أن تستخدم في اختيار سمات جسدية وعقلية (مثلًا اختيار جنس المولود مما قد يعزز التمييز الچندري، أو لون البشرة مما يزيد التمييز العنصري).
من الإشكاليات التي يخلقها موضوع الهندسة الجينية عند البشر، هي التجربة العلمية الممكن إجراؤها على الأجنّة البشرية، مما يتعارض مع القواعد الأخلاقية (وأحيانًا الدينية) ويطرح مخاوف عديدة.
لا شك أن التعديل الجيني من خلال تقنية كريسبر-كاس 9 هو واحد من أهم الاكتشافات العلمية الحديثة، والتي بدأت بالفعل بتغيير عالمنا. ولهذا تُعد جائزة نوبل للكيمياء للعالمتين شاربنتيير ودودنا مُستحقة. على أمل أن يستخدم هذا النوع من التطور العلمي العظيم لمصلحة البشر، كل البشر، دونما تمييز.
مصدر:
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :