Ad

لقد كان مفهوم الانفصال العاطفي جزءًا مهمًا في الفلسفة الرواقية والبوذية. لكن يبقى السؤال، متى يصبح هذا الانفصال غير صحي؟ صاغ جون ويلوود، وهو مدرس بوذي، مصطلح “التجاوز الروحي” لوصف ظاهرة استخدام الأفكار والممارسات الروحية لتجاوز القضايا الشخصية والعاطفية والنفسية. وهذا يثير سؤالًا مهمًا، كيف يمكننا التمييز بين الانفصال الصحي وغير الصحي؟

الانفصال العاطفي في الرواقية والبوذية

في الرواقية، يتمحور الانفصال العاطفي حول الاعتراف بالأشياء التي هي خارجة عن سيطرتنا وقبولها برباطة جأش. لقد شجع إبكتيتوس، وهو فيلسوف رواقي بارز، الناس على التركيز على الأشياء التي تقع في نطاق سلطتهم وقبول الباقي بلا مبالاة. فعندما نعلق أنفسنا بشيء ما، فإننا نخلق اعتمادًا عاطفيًا عليه، مما قد يؤدي إلى مشاعر القلق والخوف والمعاناة في النهاية. إن فكرة الانفصال العاطفي لا تتعلق بتجنب المشاعر أو العلاقات، بل تتعلق بالقوة الداخلية والمرونة في مواجهة شكوك الحياة.

في البوذية، يتخذ الانفصال العاطفي شكلاً أكثر تطرفًا. حيث يُنظر إلى مفهوم التعلق على أنه أصل المعاناة، والطريق إلى التحرر يكمن في تجاوز التعلق بالطبيعة الزائلة لكل الأشياء. عَلِم بوذا أن الارتباط بالرغبات والأنا يخلق إحساسًا بالانفصال ويغذي دورة الولادة والموت. ومن خلال التخلص من هذه الارتباطات، يمكن للمرء أن يحقق التحرر من دائرة المعاناة.

تنظر كل من الرواقية والبوذية إلى الانفصال كوسيلة لتحقيق السلام الداخلي، والتحرر من المعاناة، وفهم أعمق للحالة الإنسانية. ومع ذلك، كما سنستكشف لاحقًا، فإن الخط الفاصل بين الانفصال الصحي والانفصال غير الصحي يمكن أن يكون رفيعًا، ومن الضروري فهم الفروق الدقيقة في هذا المفهوم لتجنب إساءة استخدامه كآلية للتكيف.

الانفصال العاطفي في الرواقية والبوذية

هارييت وفيليب

دعونا نذكر مثالين لكي نستطيع فهم الموضوع بشكل أفضل. أصيبت هارييت بالاكتئاب، ولذلك لجأت إلى صديقتها طلباً للمساعدة. واقترحت جين أن الصلاة ستساعد هارييت. وهذا ما فعلته هارييت، فكانت كل ليلة تصلي أن يزيل الله كراهيتها لذاتها وخمولها وأن تشعر بتحسن.

الآن تخيل فيليب. لقد توفي والده، وكان فيليب يحب والده بعمق ويشعر بألم وفاته يمزقه من الداخل. لذلك لجأ إلى الممارسات البوذية، حيث يتأمل لعدة أيام ويقرأ الأدب البوذي في الليل. لقد توصل إلى الاعتقاد بأن الشوق إلى والده المتوفى خطأ. إنه نابع من الرغبة.

جون ويلوود والتجاوز الروحي

يعد مفهوم جون ويلوود “للتجاوز الروحي” (spiritual bypassing) بمثابة تحذير حاسم لأولئك الذين قد يسيئون استخدام المبادئ الروحية أو الفلسفية لتجنب التعامل مع آلامهم العاطفية. يمكن أن تحدث هذه الظاهرة عندما يستخدم الأفراد الأفكار أو الممارسات الروحية والدينية كوسيلة للتهرب من مشكلاتهم الشخصية، بدلاً من مواجهتها وحلها. وفي سياق الانفصال، يمكن أن يؤدي التجاوز الروحي إلى شكل غير صحي من الانفصال، حيث يتجنب الأفراد التعامل مع عواطفهم وبدلاً من ذلك يستخدمون الانفصال كآلية للتكيف لتجنب مشاعرهم.

حجة ويلوود ليست ضد الروحانية أو الدين في حد ذاته، بل ضد استخدام هذه الممارسات كبديل لمواجهة العواطف واللجوء للعلاج. ويؤكد أن التجاوز الروحي يمكن أن يكون ضارًا، لأنه يمنع الأفراد من تلبية احتياجاتهم النفسية الأساسية. ويمكن أن يؤدي هذا إلى شعور سطحي بالانفصال، مما قد يوفر راحة مؤقتة ولكنه في النهاية يعيق النمو الشخصي والشفاء.

توضح أمثلة هارييت وفيليب هذا المفهوم. حيث تستخدم هارييت الصلاة لتجنب التعامل مع اكتئابها، بينما يستخدم فيليب ممارسات عدم التعلق البوذية لتجنب آلامه العاطفية بعد وفاة والده. وفي كلتا الحالتين، يمنعهم التجاوز الروحي من معالجة قضاياهم الأساسية بشكل حقيقي، مما يؤدي إلى شكل غير صحي من الانفصال.

حكمة شانتيديڤا

يقدم شانتيديفا، وهو فيلسوف بوذي من القرن الثامن، فهمًا عميقًا للانفصال العاطفي الذي يميزه عن التجنب غير الصحي أو التجاوز الروحي. وفقًا لشانتيديفا، إن الانفصال العاطفي لا يتعلق بتجنب المشاعر أو العلاقات، بل يتعلق بالاعتراف بطبيعتها العابرة مع الاستمرار في التصرف بعاطفة. ويُعلِّم شانتيديفا أن المشاعر، مثل كل شيء آخر، غير دائمة، وأن فهم هذا يساعدنا على تحرير أنفسنا من قبضة التعلق. لكن هذا لا يعني الابتعاد عن التجربة العاطفية نفسها.

في سياق عملية حزن فيليب، تشير حكمة شانتيديفا إلى أنه بدلاً من استخدام الانفصال لقمع حزنه، يجب على فيليب أن يسمح لنفسه بالشعور الكامل بألم وفاة والده. وهذا يعني الاعتراف بالخسارة والعواطف التي تأتي معها، دون أن تطغى عليك الرغبة في أن تكون الأمور مختلفة. ويجب أن تتضمن عملية الحزن لدى فيليب فهم أنه على الرغم من رحيل والده، فإن الحب والرابطة التي تقاسماها كانت حقيقية وذات معنى. وهذا يسمح لفيليب بدمج الخسارة في حياته بشكل صحي، بدلاً من استخدام الانفصال كآلية دفاعية ضد العواطف.

طلب الإرشاد

دعونا نبتعد عن الانفصال العاطفي في الرواقية والبوذية ونتجه إلى اليونان القديمة. حيث صاغ أرسطو مصطلح الفرونيموس (phronimos) لوصف الأفراد الذين يمتلكون الحكمة العملية المكتسبة من الخبرة والفهم العميق للطبيعة البشرية. يمكن لهؤلاء الأفراد الحكماء أن يزودونا برؤى وإرشادات قيمة حول التغلب على تعقيدات الانفصال. وفي حياتنا الحديثة، يمكننا أن نجد مثل هذا التوجيه من المعالجين ذوي الخبرة، أو كبار السن أو الفلاسفة.

هؤلاء الأشخاص يمكنهم مساعدتك في تحديد أنماط الانفصال غير الصحي وتزويدك بالأدوات اللازمة لتطوير نهج أكثر توازناً. ومن خلال خبرتهم، يمكنك تطوير فهم أعمق لمشاعرك وتعلم التمييز بين الانفصال الصحي وغير الصحي.

المصدر

Everyday Philosophy: Are Stoicism and Buddhism unhealthy philosophies? | big think

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فلسفة

User Avatar


عدد مقالات الكاتب : 566
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *