لعل أوّل ما يتبادر إلى ذهنك أثناء التحدّث عن عمارة الحضارات القديمة لبلاد ما بين النهرين (بلاد الرافدين) هي العمارة السومرية، أو ربّما الآشورية، أو البابلية. ولكن هل سمعت من قبل عن العمارة الآرامية؟ اعتقد الخبراء سابقًا أنَّ منطقة سوريا كانت ملتقىً للصراعات والنزاعات بين الحضارات، أو أنّها خضعت لسيطرة حضارات قوية كالآشورية مثلًا. ولكن مع ازدياد التنقيبات الأثرية والحفريات، اكتُشفت معلومات جديدة سلّطت الضوء على أهمية حضارات وشعوب سكنت المنطقة. وأسّست كذلك مراكز إدارية مستقلّة، وعلى سبيل المثال العموريين والكنعانيين والآراميين. فمن هم الآراميون وكيف بنوا حضارتهم؟
محتويات المقال :
الصعوبات التي تواجه علماء الآثار
يواجه علماء الآثار في الواقع صعوبات أثناء دراسة العمارة الآرامية. وذلك نتيجة عدّة أسباب ومنها : تعايش الآراميين مع شعوب «الحيثية الجديدة-Neo Hittite/luwianor ». ففي بعض الأحيان يصعب تحديد ما إذا كان أصل النخب آراميًا أو حيثيًا جديدًا. أما سياسيًا فقد كان العالم الآرامي مجزّأً إلى عدد من الممالك الصغيرة نسبيًا، بعضها حضري وبعضها الآخر لا يزال بدويًا. فلم يكن هناك قط مركز سياسي أو ثقافي على وجه التحديد. إضافةً إلى صعود النفوذ الآشوري، فقد غزت الإمبراطورية الآشورية العديد من الممالك الآرامية. ومن ناحية أخرى تمّ الكشف عن القليل من آثار العمارة الآرامية حتى الآن. والتي تثير العديد من التساؤلات حول هويّتها وكيف ومتى تطوّرت. [1]
آرام والممالك الآرامية
ظهرت أوّل إشارة حقيقة إلى آرام في القرن 14 ق.م، من نص فرعون الدولة المصرية الحديثة وهو أمنحتب الثالث. ويشهد على منطقة تقع في شمال ووسط سوريا. أما بالنسبة للنصوص الآشورية ففي القرن 11 ق.م ظهر مصطلح آرام في ارتباط مع مجموعات الأخلامو أي البدو الرحّل. وتشير النصوص إلى منطقة تقع بين الخابور والفرات وحتى أبعد من ذلك. وفي القرن 8 ق.م تم ذكر آرام العليا والسفلى، وتشير هذه المصطلحات على الأرجح إلى منطقة جغرافية يبدو أنها تغطي تقريبًا حدود سوريا الحديثة. وفيما يتعلق باسم آرام فمن بين الاقتراحات الأكثر قبولًا هو أصل مشتق من الجذر السامي رومو ومعناه أن يكون عاليًا. ويفسّر اقتراح آخر للاسم بأنه جمع تكسير ويعني الظباء البيضاء، أو الثيران البرية.
تعد الآرامية واحدة من تحالفات القبائل التي تتحدث لغة سامية شمالية (الآرامية). وازدهرت في العصر الحديدي وشكّلت عدّة ممالك اشتركت في نفس اللغة والدين والتنظيم الاجتماعي. ومن هذه الممالك مملكة بيت عديني جنوب كركميش، ومملكة بيت بخياني وعاصمتها غوزانا (تل حلف)، وسمآل في تركيا، وبيت أجوشي في حلب، ومملكة آرام دمشق، وآرام حماة، وغيرها من الممالك.
وشهدت سنة 720 ق.م نهاية استقلال الممالك الآرامية في الغرب على يد الآشوريين. بينما حافظ الآراميون على طول نهر دجلة السفلي على استقلالهم لفترة زمنية أطول. وفي عام 626 ق.م انضمّت الممالك الآرامية إلى سيطرة الدولة البابلية الجديدة. [2][3]
كيف صمّم الآراميون مدنهم؟
لا تفي جميع المواقع الآرامية بالمعايير الحديثة للمدينة. وبالرغم من ذلك يمكن تعريف عواصم الممالك الآرامية بأنها مدن حقيقية بالمعنى الحضري. ويمكننا تمييز نوعين من المدن الآرامية، أوّلًا تلك التي لها تاريخ استيطاني طويل حتى قبل قدوم الآراميين مثل دمشق، وحماة، وهازرك أي تل آفس اليوم. وثانيًا تلك المواقع التي أسّسها الآراميون حديثًا أو على الأقل أعادوا تأسيسها، وأبرزها سمآل وغوزانا وأرباد وغيرها من المدن أيضًا.
تقع مدينة غوزانا بالقرب من الحدود التركية السورية، وصمّمت بشكل مستطيل. يحدّها شمالًا أحد فروع نهر الخابور وخندق، بينما قد حصّنها الآراميون بجدار من الطوب الطيني في جوانبها الأخرى. وعمومًا تُقسم المدينة إلى جزئين، الجزء الشمالي المحصّن المتمثِّل بالقلعة ومدينة سفلى ممتدّة إلى الجنوب. ولا يكاد يعرف أي شيء عن اصطفاف الشوارع في غوزانا وعن مواقع بوابات المدينة. [1][4]
ولم يتم تحديد أي مدينة آرامية أخرى ذات تصميم مستطيل حتى الآن، وقد يكون ذلك نتيجة الأدلّة الأثرية الضئيلة. من ناحية أخرى، أظهرت على الأقل 3 مدن آرامية مهمّة، والتي تقع غرب التأثير الآشوري تصميما دائريا أو نصف دائري، مثل سمآل وأرباد وتل برسيب. فمدينة سمآل مثلًا لها شكل دائري شبه كامل ب 3 بوابات تبعد كل منها عن الأخرى بمسافة منتظمة. وتمركزت المباني العامّة وهي القصور داخل القلعة الحصينة، حيث تقع في وسط المدينة. وبناءً على ما أظهر التنقيب الأخير فقد خطّط الآراميون الشوارع بشبكة منتظمة من الشوارع الشعاعية متّحدة المركز.
وبشكل نهائي يمكن ملاحظة مجموعة متنوعة من المدن الآرامية تتشابه معظمها بوجود قلعة محصّنة بقوّة. وتقع القلعة في معظم الأحيان على أطراف المدينة على مقربة من ضفّة النهر، وبالتالي اتصلت مباشرةً بإمدادات المياه، واستثنيت من ذلك سمآل، وربما يرجع سبب ذلك إلى عدم وجود مجرى مائي متاح. [1]
التحصينات في العمارة الآرامية
أجبرت الصراعات العسكرية الدائمة بين الممالك الآرامية، والتهديد المتزايد من توسّع الإمبراطورية الآشورية ؛ المدن الآرامية أن تكون محصّنة بشدّة. فحصّن الآراميون مدينة سمآل على سبيل المثال بجدار مزدوج مع أساسات من الحجارة البازلتية، إضافةً إلى خندق مائي. إذ يبدو أن الخنادق كانت جزءاً لا يتجزّأ من أنظمة التحصين في العمارة الآرامية. في المقابل كان لغوزانا جدار واحد فقط، والذي بني من الطوب الطيني بالكامل.
وبما أنّ المدن الآرامية والحيثية الجديدة كانت محاصرة أكثر من المدن البابلية والآشورية، فإنّ بواباتها حُصّنت بقوّة أكبر. ففي حين أن بوّابات آشور وبابل كانت واسعة للغاية مع ممرّات محورية مستقيمة، والتي أعطت بدورها رؤية مباشرة من الخارج إلى وسط المدينة. كانت البوابات الآرامية أقل اتساعًا بكثير. ومن أجل تعزيز الأمن، فقد فُضّل الوصول إلى الداخل عبر محور منحنٍ. كما أجبرت الحوائط الموجودة أمام البوّابات أي متسلّل على الاقتراب من الأمام بزاوية حادّة، وبالتالي اختلف المحور البصري أيضًا.[1]
ما هي القلاع في العمارة الآرامية؟
تعرَّف القلعة لدى الآراميين بأنّها منطقة مرتفعة داخل المدينة، تُفصل عن القطّاع السكني من خلال ارتفاعها وتحصيناتها القوية. كما يقيَّد الوصول إلى القلعة من قبل سكان المدينة السفلى. يدل هذا على وجود تفرقة، سواءً كانت ذات طبيعة عرقية، أو دينية، أو اجتماعية. وعلاوةً على ذلك، فقد أوحت القلاع بسبب خصائصها بوجود نخبة تسيطر على المدينة وأراضيها. وبُني للقلعة في أغلب الأحيان بوّابة واحدة من جهة المدينة السفلى، وبوّابة أخرى على ضفّة النهر. يرجّح العلماء أنّها وضعت بمثابة ممر سرّي للهروب أثناء الغزوات الخارجية، أو الثورات الداخلية. فقد حدثت ثورات عدّة خاصّةً أثناء السيطرة الآشورية.[1]
قُسّمت القلاع عمومًا إلى منطقتين، يفصل بينهما جدار داخلي. فإذا عبر زائر قادم من المدينة السفلى بوابة القلعة فسيصل أولًا إلى المنطقة الخارجية من القلعة. وعليه أن يعبر بوابة ثانية ليصل إلى المنطقة الداخلية. ونلاحظ هذا النمط في غوزانا، إذ فصلت بوابة العقرب بين القسمين. كذلك الأمر في سمآل وحماة وغيرها. [1][4]
قصور العمارة الآرامية
تميّزت القصور لدى الآراميين بالبساطة، ورغم ذلك فقد أثّرت بعض عناصرها بشدّة على الآشوريين. وصمّمت عادةً بهيكل داخلي ثلاثي. إذ يقع المدخل الضخم بشكل عام من جهة واحدة، ويميّزه عمود بارز. ويتيح الوصول إلى قاعة المدخل التي يحيط بها عادةً برجين كالغرف المربّعة. وبالقرب منها تقع القاعة الرئيسية في الوسط، والتي يفترض أنها قاعة العرش. وتتموضّع خلفها صف من الغرف الصغيرة، والتي تمثّل الجزء الأخير من المجموعة الثلاثية. [1]
لا يوجد دليل حتى الآن على الزخارف واللوحات الداخلية. أما بالنسبة للواجهات الخارجية فغالبًا ما زيّنوها بنقوش على البازلت أو الحجر الجيري. وقد عُثر في غوزانا على قصرين في القلعة، القصر الغربي والقصر الشمالي الشرقي. وبينما كان الأوّل مزخرفًا على نطاق واسع بتماثيل مميّزة وضخمة تقدّمت المدخل، ولوحات منحوتة وضعت على طول الواجهات الجنوبية والشمالية على شكل نقش للحاكم الآرامي كابارا. إلا أن القصر الشمالي الشرقي افتقر هذه الزخارف. ويرجّح بعض الخبراء أنّه كان بمثابة مسكن للحاكم كابارا. [4][1]
المعابد والدين في الممالك الآرامية
من المثير للدهشة أنّه لم يظهر حتى الآن أي معبد كالزيقورات في المدن الآرامية الرئيسية. ولا ندري أهذه مصادفة أثرية أو انعكاس لسياسة دينية آرامية محدّدة، وما يزال هذا الموضوع قيد النقاش. بغض النظر عن اختلافات تصميم المعابد فقد اشتركت بعناصر معيّنة، إذ ضمّت عددا محدّدا من الغرف فقط.، فخَلَت من أي تعقيد داخلي. أظهرت المعابد الآرامية صرامةً ومحورًا بصريًّا مباشرًا، من الخارج إلى الحرم ومنه إلى الضريح. إضافةً إلى السمة الرئيسية التي تمثّلت برواق مفتوح، مما يشير إلى شفافية مماثلة لتلك الموجودة في القصور الآرامية. أما بالنسبة إلى مواقع المعابد، فقد تنوّعت بشدّة، فمنها ما وقع خارج المنطقة الداخلية ضمن القلعة، ومنها ما شُيّد في أراضٍ معزولة. ويعتقد بعض الخبراء أن هذه الاختلافات تعكس وظيفة المعابد. [1]
حفر المنقّبون المعبد الغربي في قلعة تل آفس. وقد امتدّ بطول 32 م من الشمال إلى الجنوب، ووضع مدخل المعبد في الجهة الجنوبية ضمن عتبة تبلغ 8.5 م. وأحيط المدخل ببرجين جانبيين، وقد تضرّر الجزء الداخلي من المعبد بشدّة. عُثر في المعبد على حجر بازلت، إضافةً إلى أقماع وفخاريات منقوشة، لم تتضح هويتها بعد. لكن يرجّح أنّها زخرفة جدارية للواجهات الخارجية، ربّما وضعت أيضًا كوظيفة إنشائية بحيث تستعمل لجمع مياه الأمطار، ومنعها من السقوط مباشرةً على قاعدة الجدران. [5]
تم تخصيص معابد مميزة لعبادة الأسلاف في العمارة الآرامية. نجد منها غرفة العبادة في مدينة غوزانا السفلى، وهي غرفة طويلة بها دهليز و 3 غرف صغيرة مجاورة. وعلى الرغم من عدم حفر أبنية مماثلة حتى الآن ،إلا أن هناك أدلّة واضحة على وجود عبادة مماثلة في مدن آرامية أخرى. [1][4]
كيف دفن الآراميّون موتاهم؟
اكتشفت في غوزانا عدد من المباني الشبيهة بالمصلى، يتكوّن كل منها من غرفة أو اثنتين. احتوى اثنان منها على تماثيل ضخمة تصوّر نساء يجلسن ويمسكن الكؤوس في أيديهن اليمنى، وارتبط هذا النوع من التماثيل بالأسلاف، فقد كان له بالفعل تقليد طويل في سوريا في ذلك الوقت. واكتشف أسفل أحد هذه التماثيل جرّة تحتوي على العظام المحروقة للموتى، وبعض السلع الفاخرة أيضًا. ومن المثير للاهتمام التغيير الجذري لعادات الدفن مع تأسيس المدن الآرامية، حيث استبدل الآراميون الدفن بحرق الجثث. وما يزال السبب وراء ذلك مجهولا. [4]
أسئلة كثيرة
مع الاكتشافات المستمرّة للآثار المبنية والوثائق المكتوبة، نجد نفسنا نقف أمام حضارة عريقة بلا شك. رغم أننا لا نعلم عن عمارتها الكثير، إذ هناك تساؤلات عدة ننتظر أن تقدّم لنا الحفريات عنها مزيدا من المعلومات والأجوبة في أقرب وقت ممكن.
المصادر
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :