هل يولد الطفل بشخصية محددة؟ أم أنه يكتسب صفاته من محيطه؟ إلى أي مدى توثر التنشئة الاجتماعية على نمو شخصياتنا؟ لماذا يختلف أخوان توأم في الشخصية إلى هذا الحد، رغم جيناتهم وظروفهم الاجتماعية المشتركة؟ تدور كل هذه الأسئلة في بالنا عند محاولة فك لغز شخصيتنا أو شخصيات الأشخاص المحيطين بنا، وتظهر التنشئة الاجتماعية كعامل فاعل ومؤثر في تحديد هوياتنا؟ فما هي التنشئة الاجتماعية؟ وما هي مكوناتها؟ وما الذي يغلب، الطبع أم التطبع؟
محتويات المقال :
ما هي التنشئة الاجتماعية؟ وما هي أهميتها؟
في صيف عام 2005، اشتكى عدد من سكان فلوريدا في الولايات المتحدة الأميركية لقسم الشرطة من وجود فتاة غريبة تظهر من النوافذ المكسورة لبيتٍ في حالة رثّة. بالفعل، اقتحمت الشرطة المنزل المذكور وكانت الصدمة! فقد وجدوه مليئًا بالأوساخ والحشرات، أبوابه ونوافذه مخلوعة، ومفروشاته قديمة ومهترئة. ثم وجدوا فتاة صغيرة، تبدو في السابعة من عمرها، ملقاةً على فراش ممزق وجسدها مليء بلسعات الحشرات والقروح. بحسب والدتها، التي كانت موجودة في المنزل أيضًا، تُدعى الفتاة “دانييل”. أُجليت سريعًا من المنزل وأُخذت إلى المستشفى لفحصها. وُجدت دانييل، حتى بعد استعادة عافيتها (والتأكد من عدم إصابتها بمرض مزمن أو جيني)، عاجزة عن أي نوع من التواصل بالكلام أو بالتعابير أوالبكاء وعاجزة عن علك الطعام وبلعه ولا تجيد استخدام أدوات الطعام والمرحاض، وحتى لا تستطيع الوقوف أو المشي ولا تفهم ماهية الكرسي وطريقة استخدامها.
قد تبدو بعض تصرفاتنا اليومية طبيعية وسهلة، فيُخيّل إلينا أنها قد وُلدت معنا. لكن الحقيقة أننا اكتسبناها على مر الوقت من محيطنا من خلال التنشئة الاجتماعية. فالفتاة “دانييل” تعطينا مثالًا حيًا عن أهمية التفاعل العاطفي والاجتماعي لتنمية كل القدرات الفكرية والجسدية والنفسية، حتى أكثرها بساطة.
التنشئة الاجتماعية هي عملية اكتساب الفرد للأفكار المجردة (القيم والمبادئ وتمييزالصح من الخطأ …) والأفعال العمليّة (طريقة التعبير والحديث والسلام والأكل والتعامل مع الآخرين …) من مجتمعه، ليصبح فعالًا في هذا المجتمع. ويتم الاكتساب إجمالًأ من خلال مراقبة الأشخاص الآخرين وتقليدهم، أو من خلال تعليم أو تشريط مقصود من قِبل المحيطين به أفرادًا أو مؤسسات. وتلعب التنشئة الاجتماعية دورًا جمًا في نمو وتحديد شخصية كلٍّ منا، ورسم دوره الاجتماعي فيما بعد. وتُصنف التنشئة الاجتماعية نوعين:
– «التنشئة الاجتماعية الأولية-Primary Socialization» وهي تعلم الفرد من عمر باكر للقيم والمبادئ والأفكار والأفعال الاجتماعية وهي إجمالًا تبدأ في المنزل مع أفراد العائلة.
– «التنشئة الاجتماعية الثانوية-Secondary Socialization» وهي مسار اكتساب التصرفات المحبذة لمجتمع معين أو المناسبة له. وهي تبدأ خارج المنزل في المناسبات الاجتماعية.
هل يغلب الطبع التطبع فعلًا؟
من يحدّد شخصية الإنسان؟ هل يُولد الطفل بشخصية تحدّدها الجينات أم يلعب المجتمع الدور الأكبر في رسم ملامحها؟ لطالما شكّلت هذه الأسئلة صلب نقاش طويل دار بين علماء النفس والطب النفسي والجيني وعلماء الاجتماع والجريمة.
في السنوات الأخيرة، اعتُبر هذا النقاش عقيم وغير مُجدٍ من قِبل العديد من العلماء، فاعتبره طبيب الأعصاب «نيك كرادوك- Nick Craddock» نقاشًا قديمًا وسادجًا وغير مفيد (سنة 2011)، وسمّى طبيب الأعصاب «برايان ترينور-Brian Traynor» ثنائية الطبع والتطبّع بالثنائية المغلوطة (سنة 2010). ويقول علماء الجينات أن الجينات تتفاعل مع المحيط، بطريقة معقدة جدًا ولا يمكن تفسيرها أو توقعها بالوسائل العلمية الموجودة حتى الآن. بالإضافة إلى ذلك، يعتبر علم ما فوق الجينات (Epigenetics) أن الظروف الحياتية تؤثرعلى التعبير الجيني.
يتداخل سؤال الطبع والتطبع مع سؤال الإرادة الحرة، وبالتالي يطرح صحة كل الأنظمة الأخلاقية والقوانين وأنظمة المحاسبة. وعلى الرغم من أن الاتفاق أن التفاعل بين “الطبع” و”التطبع” هو الجواب الأكثر دقة، إلا أنه جواب غير كافٍ، بحيث يبحث العلماء عن مزيد من الدلائل حول السمات الفطرية والمشتركة بين كل الشعوب والمجتمعات، والسمات المُكتسبة من التربية والتنشئة الاجتماعية.
من الأمثلة على ذلك، سأل العلماء طويلًا: هل تعبيرات الوجه هي فطرية أم مكتسبة؟ وأثبتت آخر دراسات علم النفس الاجتماعي أنها فطرية، كونها مشتركة عند كل الثقافات. كما يعتمدها الأطفال المكفوفون أيضًا، رغم أنهم لا يتعلمون تعابير الوجه بالتقليد، فهم يمارسونها فطريًا فيبتسمون عند فرحهم ويبكون عند غضبهم.
من الأسئلة الشائعة أيضًا: هل يولد الأطفال عنيفين؟ يختلف العلماء حول الإجابة، فتعتبر بعض الدراسات أن سمات العنف تولد مع الإنسان، ويتعلم الطفل كيفية السيطرة عليها (فيقول البروفيسور في طب الأطفال والطب النفسي للأطفال ريتشارد تريمبلاي أن العنف مشكلة تطال كل أطفال العالم خصوصًا تحت عمر الثالثة)، حتى أن بعضها تعطي للعنف تاريخ تطوري، بحيث احتاج الإنسان البدائي إلى العنف ليعيش، فاكتسبنا جميعًا جينات عنفية. في المقابل بيّنت دراسات أخرى بحثت في تصرفات الأهل والأطفال بين عمر الصفر وعمر ال7 سنوات أن العنف مكتسب ويتأثر خصوصًا بتربية الأهل.
وكلاء التنشئة الاجتماعية:
يُعتبر مسار التنشئة الاجتماعية مسارًا طويلًأ ومعقدًا، تتداخل فيه أدوار العديد من المجموعات والمؤسسات التي تتفاعل مع الشخص وتؤثر على نموه الاجتماعي، وتسمّى ب”وكلاء التنشئة الاجتماعية”. فمن هم هؤلاء الوكلاء؟
العائلة:
تشكل العائلة التجربة الاجتماعية الأولى للطفل، فهو يؤمن كل حاجاته ويكتسب كل قدراته من خلالها. ولا تقتصر على العائلة والأخوة فقط، بل تطال الأقرباء أيضًا. ولكن من المهم الإشارة أن تربية العائلة للطفل لا تحصل بطريقة معزولة عن المجتمع الأوسع، فتتأثر العائلة بالقيم والعادات العامة وثقافة البلد ووضعه التاريخي والسياسي والاقتصادي. كما تتأثر التنشئة بالطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها العائلة، والأدوار الاجتماعية لأفرادها. فمثلًا في معظم المجتمعات الشرقية التقليدية تكون الأم ربة منزل، وتهتم بالقسم الأكبر من التنشئة. بينما في السويد مثلًا، تُعد ظاهرة الأب الملازم للبيت شائعة، لا بل محبذة من الدولة (بحيث تعطي عطلة أبوّة عند ولادة طفل جديد)، فيكون الوالدان متشاركان في التنشئة الاجتماعية.
فحتى أبسط علاقات التنشئة بين الطفل وعائلته هي علاقة معقدة ومتداخلة مع عوامل أخرى.
مجموعة الأقران:
وهي تتألف من الأشخاص المشابهين بالعمر والطبقة الاجتماعية والاهتمامات. ويختبر الطفل التفاعل مع أقرانه حتى قبل دخوله إلى المدرسة أحيانًا (أولاد الجيران مثلًا). ويكون هذا الاحتكاك بغاية الأهمية للطفل، بحيث يتعلم المشاركة والالتزام بقواعد بسيطة (قواعد لعبة) ويشكل الخطوة الأولى في طريق إنماء شخصيته الاجتماعية.
المدرسة:
هي المؤسسة الأولى التي ترسم ملامح الحياة الاجتماعية للطفل. فهو للمرة الأولى يتفاعل مع عدد كبير من الأفراد والأقران، بالإضافة إلى أنه يلتزم بقواعد ومبادئ عامة صارمة.
ولا يقتصر تعليم المدرسة على المنهج الأكاديمي التي تعطيه، بل تحمل أيضًا ما يسميه علماء الاجتماع ب”المنهج الخفي”، بحيث يتعلم الولد احترام الآخرين والالتزام بقواعد الصف وتبادل الأدوار ومشاركة الأغراض، ثم كيفية التعبير عن الرأي والقيم المدنية والوطنية والدينية أحيانًا.
وتثبت الدراسات يومًا بعد يوم، خاصة تلك المتعلقة بعلم نفس التعلم، أن أسلوب التعليم يؤثر بشكل هام على الحالة النفسية للأطفال، فأثبتت دراسة للتلاميذ الثانويين، أجرتها جامعة ميامي، الفروقات النفسية بين التلاميذ الذين يتعلمون بأساليب تنافسية مقابل آخرين يتعلمون بأساليب تعاونية.
مكان العمل:
يقضي البالغون معظم أوقاتهم في مكان عملهم. ورغم أنهم قد اكتسبوا الكثير من التنشئة الاجتماعية منذ طفولتهم، إلا أن مسار التنشئة لا يتوقف. فيختبر الشخص البالغ أنواعًا جديدة من الأدوار الاجتماعية والعلاقات الرسمية.
الدين والمؤسسات الدينية:
يختلف تأثير الدين على التنشئة الاجتماعية مع اختلاف الحقبات والبلدان والمناطق في العالم. ولكن في كثير من الأحيان ترتبط العادات والقيم والممارسات التي يتعلمها الفرد من طفولته، بالتعاليم والممارسات الدينية.
وتؤثر المؤسسات الدينية أحيانًا على شكل الحكم السياسي، أو التعليم (من خلال مدارس دينية)، وبالتالي يتعاظم دورها في التأثير على طبيعة التنشئة الاجتماعية.
الدولة:
قد يكون دور الدولة غير ظاهر في التنشئة، لكنها فعليًا من أكثر الوكلاء تأثيرًا على طبيعة التنشئة الاجتماعية. فالدولة هي التي تفرض نظام الحكم، وهي تصوغ القوانين التي ترعى كل المؤسسات الأخرى. فتمنع الدول الأوروبية بحسب القوانين أي نوع من العنف اللفظي أو الجسدي في العائلة. بينما لا تتدخل دول أخرى بالعنف المنزلي وتعتبره شأنًا خاصًا بالعائلة نفسها. وهنا يظهر تأثير الدولة على التنشئة العائلية.
الإعلام:
يلعب الإعلام اليوم دورًا كبيرًا في نشر الأفكار، ويتعاظم دوره تدريجيًا في التأثير على الرأي العام وعلى التنشئة الاجتماعية. ونقصد بالإعلام وسائل الإعلام التقليدية (التلفاز والراديو) من جهة، والإعلام الإجتماعي (Social media) الذي يُعد تأثيره أكبر وأضخم في التأثير على شكل الحياة الاجتماعية من جهة أخرى.
ختامًا، رحلة اكتشاف ذواتنا شيقة وصعبة وما زالت في بداياتها، فنحن بحاجة للكثير من البحث والتفتيش لمعرفة تأثير كل من جيناتنا ومحيطنا الاجتماعي وكيفية التفاعل بينهما. والأكيد أنه علينا مراجعة أهمية التنشئة الاجتماعية، وبالتالي إصلاح المجتمع من أعلاه إلى أسفله، لخلق شخصيات أكثر صحة وتوازن.
المصادر:
edX courses: Introduction to Sociology
NCBI
Science Daily
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :