Ad
هذه المقالة هي الجزء 4 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

كل فرد منا مميز، له معتقداته وآراؤه، ويملك قراراته وخياراته. كلٌّ منا يدّعي أنه يلتزم مبادئه حتى لو تعارضت مع مبادئ وممارسات الأغلبية، لكننا هل نفعل ذلك حقًا؟ أم أن الضغط الاجتماعي يفرض علينا الانصياع؟ ما هو الامتثال الاجتماعي؟ هل الامتثال الاجتماعي والالتزام بمبادئ المجموعة أمر جيد وأخلاقي دائمًا؟ أم يكون الانحراف أكثر أخلاقية من المطابقة أحيانًا؟

«الامتثال الاجتماعي-Conformity» هو فعل التقيد بالتصرفات أو الأفكار أو المبادئ أو الأعراف المُحبذة ضمن مجموعة معينة، وقد يشمل حتى تغيير القناعات الشخصية أو مخالفتها للحفاظ على القبول الاجتماعي من أفراد المجموعة.

الانحراف

في المقابل، يُعرَّف «الانحراف-Deviance» بمخالفة التصرفات أو الأفكار أو الأعراف المُتّبعة في مجموعة معينة. ويشمل الانحراف شتى أنواع ودرجات المخالفات ابتداءً من لبس ثياب غير معتادة في مكان معين وصولًا إلى مخالفة القوانين وارتكاب الجريمة.

يخلق مصطلحا “الامتثال” و”الانحراف” عادةً ردات فعل سلبية، بسبب تعليبهما ضمن مفاهيم نمطية ومتطرفة. فيتم تصوّر الامتثال على أنه الانصياع الكامل وغياب أي خيارات شخصية مستقلة. ومن جهة أخرى، عند سماع مصطلح الانحراف، أول ما نفكر به هو القيام بأعمال مشينة أخلاقيًا أو القيام بالجرائم المؤذية. لكن في الحقيقة، تندرج جميع تصرفاتنا اليومية وأفكارنا في خانات تتراوح بين الامتثال مع المبادئ العامة والانحراف عنها.

لا يحمل الامتثال الاجتماعي دائمًا معنىً سلبيًا، فهو ضروري لتنفيذ عمل جماعي، وينم في كثير من الأحيان عن مشاعر حب الجماعة والانتماء لها والميل للصالح العام. كما أنه أساسي لأي تواصل وتعاون وقد كان ميزة مهمة لقيام المجتمعات والثقافات.

الحاجة إلى الامتثال الاجتماعي

تنمو الحاجة إلى الامتثال عند الإنسان منذ طفولته، فنجد الطفل يميل إلى تقليد حركات أهله وأفراد محيطه وتصرفاتهم، ثم يتبنى أفكارهم. ويكون التقليد مرحلة أساسية لتعلم كل مهاراته الحركية والاجتماعية اليومية. ويكافؤه مجتمعه في كل مرة يلتزم بالقواعد العامة. ويكون هذا الالتزام ضروريًا لنمو صحي ومتوازن.

تلازمنا حاجة الامتثال الاجتماعي مع التقدم بالعمر، فالالتزام بالأعراف المُعتمدة يعطينا شعورًا بالأمان والراحة، كما أنه يعزز صورتنا الاجتماعية الإيجابية وبالتالي ثقتنا بأنفسنا. وغالبًا ما يكافؤنا المجتمع المحيط بالقبول الاجتماعي.

في المقابل، نجد أنفسنا في كثير من الأحيان مضطرين إلى الانصياع لقواعد تخالف قناعاتنا ورغباتنا. وتولد في أنفسنا رغبة جامحة في مخالفتها. ونكون في هذه الحالة منحرفين عن القاعدة العامة. ولكن لمَ لا؟ ألم يكن الانحراف أساس التطور والتغيير في التاريخ البشري؟ ألم تغيّر “روزا باركس” التاريخ في لحظة انحرافها عن القوانين العنصرية التي تفرض عليها التخلي عن مقعدها في الباص لرجل أبيض؟ خلق بيكاسو تيارًا فنيا عصريًا ومميزًا نتيجة تمرده على الرسم التقليدي، أليس كذلك؟

الامتثال الاجتماعي: أسباب نفسية – اجتماعية وبيولوجية

يمكن تصنيف الامتثال الاجتماعي إلى نوعين: «المطاوعة-Compliance» و«القبول-Acceptance».

المطاوعة

المُطاوعة تعني الموافقة العلنية أو الالتزام بالتصرفات أو الأفكار المتوقعة، لكن دون الاقتناع بها. وقد تنتج المطاوعة عن الخوف من الرفض الاجتماعي، أو عن حب الانتماء إلى الجماعة.

القبول

أما القبول فهو تغيير القناعات الشخصية لتتلاءم مع قناعات الجماعة، وهو يحصل تحت الضغط الاجتماعي أو قوة الإقناع.

اختبارات آش

وقد ظهر نوعا الامتثال في اختبارات «آش-Asch» الشهيرة في الخمسينيات من القرن الماضي. وتجري تجربة آش بالشكل التالي: تشارك مجموعة من ثمانية أشخاص في تجربة إدراكية بسيطة، على المشاركين اختيار الشكل المطابق (بين ثلاث خيارات) للشكل الأساسي. في الحقيقة يكون كل المشاركين ممثلين باستثناء شخص واحد، وتدرس التجربة ردة فعل هذا الشخص تجاه سلوك الآخرين، فهل سيمتثل لأجوبتهم غير المنطقية لمجرد أنهم يكوّنون الأكثرية، أم سيجيب إجابة مختلفة عن الآخرين؟

وقد بيّنت هذه التجربة نسب عالية من الامتثال رغم سهولة المهمة، ورغم عدم الضغط بأي شكل من الأشكال على المشاركين لاختيار جواب معين. النسبة الأكبر من المُشاركين الذين أظهروا الامتثال في الأجوبة لم يقتنعوا بإجاباتهم بل أعطوها تماشيًا مع الأغلبية. ولكن نسبة صغيرة منهم أظهروا القبول والاقتناع بالأجوبة غير المنطقية.

وتختلف نسبة الامتثال الاجتماعي تبعًا لمتغيرات مختلفة منها:

– عدد الأشخاص الذين يشكّلون الأغلبية، ترتفع نسبة الامتثال مع ارتفاع العدد.

– عدد الأشخاص “الحقيقيين” في التجربة أي عدد المعارضين للإجابة التي تعطيها الأغلبية، وفي هذه الحالة تنخفض نسبة الامتثال بشكل ملحوظ.

– صعوبة المهمة، تزداد نسبة الامتثال مع صعوبة المهمة.

– المستوى الاجتماعي للأغلبية، إذا كانت الأغلبية من مستوى اجتماعي عالي، ترتفع نسبة الامتثال بها.

نظريات نفسية واجتماعية تفسر الامتثال الاجتماعي

قدّم عالم النفس الاجتماعي «ليون فستنجر-Leon Festinger»، في عام 1954، نظرية المقارنة الاجتماعية (Social Comparison theory)، وهي تطرح أن كل فرد منا يلجأ إلى مقارنة نفسه بالمحيط بهدف تقييم نفسه و”تصحيحها”. ويعتبر فستنجر أن تقييم الذات يشكل حاجة نفسية إنسانية، وبسبب غياب أدوات التقييم الموضوعية، يقيم الشخص نفسه نسبةً لمحيطه. من هنا تظهر الحاجة إلى الامتثال والمطاوعة.

لعبت نظرية المقارنة الاجتماعية دورًا مؤثرًا في الدراسات الاجتماعية، لكنها لم تجب بشكل كافٍ على سبب الامتثال والعلاقة بين تقييم الذات والانصياع للقواعد العامة. لذلك قدم فستنجر نظرية أخرى عام 1957 تسمّى ب”نظرية التنافر المعرفي-Cognitive dissonance theory”. ويعتبر فستنجر أن الفرد يشعر بعدم الارتياح عند تناقض الأفكار التي نملكها مسبقًا مع الأفكار الحديثة، أو عند تناقض معتقداتنا مع أفعالنا. تحت الضغط الاجتماعي والحفاظ على القبول الاجتماعي، نقوم أحيانًأ بتبديل آرائنا ومعتقداتنا لتتماشى مع تصرفاتنا ضمن هذا المجتمع.

حديثًا، أظهرت دراسات التصوير العصبي للدماغ أن القبول الاجتماعي يحفز المناطق الدماغية المسؤولة عن المكافأة. ولذلك نشعر بالراحة والفرح عند قبول رأينا أو تصرفنا من قبل محيطنا. في المقابل، عند مخالفة العادات أو الأعراف أو رأي الأغلبية، يظهر الدماغ نشاطًا في المناطق المسؤولة عن معالجة التهديد والخطر. تفسر إذًا هذه الدراسات تفضيل الإنسان للتماشي مع المحيط وعدم مخالفته.

ختامًا، يشكل الامتثال موضوعًا جدليًا كبيرًا. فعلى قدر أهميته لبناء المجموعات والمجتمعات، فهو أيضًا سلاح بيد الأنظمة (السياسية او الاقتصادية) لتطويع شعوب كاملة دون السماح لها بالاعتراض. وتطرح إشكالية الامتثال إشكالية أكبر: هل نحن، البشر، نملك حرية القرارات والخيارات حقًا؟ هل اعتقداتنا وقيمنا تمثلنا فعلًا، أم أنها مرآة محيطنا الذي نطاوعه وننصاع له؟

المصادر

NCBI
Researchgate
Psychological science
University of Kentucky Uky.edu

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


علم اجتماع

User Avatar

Riham Hamadeh


عدد مقالات الكاتب : 49
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق