لا يمكننا أن ننكر بعد الآن أن البيئة الأولى التي يعيش فيها الطفل بكل ما فيها من مقدمي الرعاية تساهم بتشكيل النسبة الأكبر من شخصيته مستقبلاً. فعلاقات البالغ المقربة تعكس طريقة تواصله مع أهله في سنوات حياته الأولى، وهذا ما استنتجه الباحثون وفسرت نظرية التعلق جزءاً منه.
محتويات المقال :
تولد مع الإنسان حاجة لتشكيل رابطة عاطفية قوية مع مقدم الرعاية، تتطور هذه الرابطة وتتشكل خلال الستة أشهر الأولى في حياة الطفل في حال كانت استجابة مقدم الرعاية مناسبة. ويخدم نمط التعلق هذا حاجتين أوليتين أساسيتين: 1. حماية الأشخاص الضعفاء من الأذى والتهديدات المحتملة 2. تنظيم المشاعر السلبية التي تلي تلك الحوادث. كما تحدد الطريقة التي يتلقى بها الفرد الرعاية والدعم أهدافه، نمط عمله وطريقة تعامله مع المواقف التي تثير أي نوع من المشاعر في علاقاته. [1]
وضعت نظرية التطور لأول مرة من قبل المحلل النفسي «جون بولبي- John Bowlby». وقد درس فيها تأثير الفصل بين الأطفال الرضع وآبائهم.
افترض بولبي أن السلوكيات المبالغ فيها والتي يلجأ إليها الرضيع عند فصله عن أحد والديه أو إعادته إليهم كالصراخ والبكاء والتشبث بهم ما هي إلا آليات تطورية. أي أن هذه السلوكيات قد تطورت من خلال الانتقاء الطبيعي وعززت فرص الأطفال بالبقاء على قيد الحياة، وتعد هذه السلوكيات استجابات غريزية اتجاه أي تهديد محتمل مصاحب لابتعاد مقدم/ي الرعاية واهتمامهم، وبالتالي تقليل فرص بقاء الطفل. وبما أن فرص البقاء ترتفع لدى الأطفال الذين يلجؤون إلى هذه السلوكيات فقد تم انتقاء هذه الغرائز وتعزيزها على مر الأجيال. [2]
هذا ما أطلق عليه بولبي «نظام التعلق السلوكي- attachment behavioural system» وهو ما يحدد لنا أنماط تشكيل علاقاتنا وبنائها وإصلاحها. فتجربة الطفل الأولى مع والديه واستجابتهم له ونمط الرعاية الذي يتلقاه في سنوات حياته الأولى تحدد نمط علاقاته المستقبلية كشخص بالغ، ولا يقتصر هذا الأثر على الوالدين فيمكن أن يشمل علاقة الطفل مع باقي أفراد العائلة أو مربية الطفل وغيرهم من الأشخاص الذين يكونون على تماس مباشر مع احتياجات الطفل. [2]
بدأ اهتمام بولبي بالسلوك التطوري للأطفال من تجربته التطوعية في مدرسة للأطفال غير المتكيفين. وقد أثار فضوله سلوك ولدين، الأول مراهق منعزل لم يكن لوالدته شخصية مستقرة خلال حياته وقد تم طرده مؤخراً لاتهامه بالسرقة. أما الثاني فهو طفل بعمر7 أو 8 سنوات يتسم بطبعه القلق، حيث كان يلاحق بولبي أينما ذهب، وبذلك اكتسب لقب ظل بولبي.
من خلال تجربته مع الأطفال أصبح لبولبي معتقد راسخ بتأثير البيئة التي نشأ منها الطفل على سلوكه وعواطفه. كما اقترح على المحللين النفسيين الذين يعملون مع الأطفال دراسة جميع الجوانب المتعلقة بحياة الطفل كالبيئة التي يعيش فيها وعائلته وتجاربه بالإضافة إلى التصرفات التي يبديها الطفل نفسه. وهذا ما أدى لخلق استراتيجية لمساعدة الأطفال تتضمن مساعدة ذويهم أيضاً.
وفي ذات الوقت كانت «ماري آنسورث- Mary Ainsworth» تنهي مرحلة تخرجها وتدرس النظرية المتعلقة بالأمان، والتي تنص على أن الأطفال بحاجة لتطوير علاقة اعتمادية آمنة مع أهلهم قبل الخوض في بيئات خارجية غير مألوفة.
في عام 1950 اجتمع طريق العالمين باشتراك آنسورث في وحدة بولبي البحثية في عيادة تافيستوك في لندن. وبعد تنسيق وجمع وحذف العديد من الأبحاث والدراسات توصلا لتطوير وإثباتات تخص نظرية التعلق. [2]
تتطور العلاقة بين الطفل ومقدمي الرعاية الأساسيين خلال الثماني عشرة أشهر الأولى حسب بولبي وآنسورث. بدءاً من التصرفات الغرائزية كالبكاء والصراخ والتي سرعان ما تتوجه نحو واحد أو أكثر من مقدمي الرعاية بشكل خاص. وفي عمر 7 أو 8 أشهر يبدأ الطفل بالاحتجاج وإظهار حزنه عند ابتعاد مقدم الرعاية عنه. بمجرد وصوله لمرحلة المشي يبدأ الطفل بتشكيل نموذج ارتباط داخلي لعلاقاتهم، ويحدد هذا النموذج الإطار الذي يستمد منه الطفل معتقداته حول قيمته الذاتية ومقدار اعتمادهم على الآخرين لتلبية احتياجاتهم. [2]
يتطور لدى الأطفال أربعة أنماط تعلق بشكل أساسي. إذا كان الطفل أثناء نموه يستطيع الاعتماد على أهله بشكل كامل لتلبية احتياجاته، فسيتطور لديه نمط تعلق آمن. وسيرى العلاقات مع الآخرين كمكان آمن للتعبير عن مشاعرهم.
وفي المقابل إذا كانت علاقة الطفل بوالديه متوترة تتشكل لديه أنماط تعلق غير آمنة. وعندها يعتاد الطفل على فكرة عدم قدرته على الاعتماد على الآخرين لتحقيق راحته وحاجاته الأساسية. [3]
إن أنماط التعلق التي تشكلت في مرحلة الطفولة نتيجة طريقة التواصل بين الطفل ومقدم الرعاية تظهر فيما بعد في علاقاته مع الآخرين، وخاصة العلاقات الحميمية والمقربة:
يتمتع أكثر من نصف البالغين بنمط تعلق آمن. يمتاز أصحاب هذا النمط بالقدرة على تشكيل علاقات آمنة ومريحة، حيث تتصف علاقاته بوجود ثقة وحب متبادلين حيث يستطيع الاعتماد على الآخرين دون أن يكون اتكالياً بشكل كامل. كما يستطيع أن يكون قريباً من الآخرين بسهولة نسبياٌ، ولا يشعر بالخوف والتهديد عندما يحتاج شريكه مساحته الخاصة. يعتبر هذا النمط صحياً وكل ما عداه غير صحي أو غير آمن. [4]
بعض صفات نمط التعلق الآمن: [3]
– القدرة على تنظيم المشاعر.
– القدرة على طلب الدعم العاطفي.
– الثقة بالآخرين بسهولة.
– عدم الانزعاج من البقاء وحيداً أو من التواجد في علاقات مقربة مع الآخرين.
– تقييم عالي للذات.
– القدرة على أن يكون متاحاً عاطفياً.
– لديه مهارات تواصل جيدة.
وهو نوع من أنماط التعلق غير الآمنة. يميزه خوف شديد من الهجران أو التخلي. يبقى فيها الفرد في حالة خوف دائم من تخلي الآخرين أو شريكه عنه وبحاجة دائمة للتقدير. غالباً ما يرتبط هذا النمط بالحاجة للآخر والتصرفات التي تدل على تعلق شديد كالشعور بالقلق والانزعاج إذا لم يتم الرد على رسائله بسرعة والشعور الدائم بأن شريكه لا يهتم به بشكل كافٍ. [4]
يتطور هذا النمط نتيجة علاقة متقلبة مع الأهل لا تنسجم مع حاجات الطفل. حيث لا يستطيع الطفل توقع استجابة أهله، فمرة يكونون داعمين وملبيين لحاجاته ومرة أخرى يقومون بعكس ذلك. [3] إليك بعض صفات نمط التعلق القلق: [3]
– ميل شديد للتشبث بالآخرين.
– حساسية عالية من الانتقاد.
– الغيرة.
– الخوف من الرفض.
– صعوبة البقاء وحيداً.
– ضعف تقدير للذات.
– الشعور بعدم استحقاق الحب.
– صعوبة الوثوق بالآخرين.
نمط آخر من أنماط التعلق غير الآمنة يشكل نسبة أكبر من نمط التعلق القلق. يميزه الخوف من الحميمية والتقرب من الآخرين. حيث يواجه الفرد صعوبة في التقرب من الآخرين والوثوق بهم، لأنه يعتقد أن هذه العلاقات لن تتمكن من تلبية احتياجاته. فيبقي مسافة بينه وبين شريكه أو يكون غير متاح عاطفياً بشكل كبير.
ويمكن أن يجد العلاقات العاطفية خانقة ومزعجة فيتجنبها كلياً، ويفضل أن يكون مستقلاً ويعتمد على نفسه. [4] يتطور هذا النمط نتيجة لوجود مقدمي رعاية صارمين أو بعيدين عاطفياً لا يلبون احتياجات الطفل ويدفعونه للاعتماد على نفسه كثيراً، ويصدونه في حال تعبيره عن مشاعره. [3] بعض صفات نمط التعلق المتجنب: [3]
– تجنب الحميمية الجسدية والعاطفية.
– عدم الراحة عند التعبير عن العواطف.
– صعوبة الوثوق بالآخرين.
– الشعور بالتهديد من أي شخص يحاول التقرب منه.
– قضاء الوقت وحيداً أكثر من التفاعل مع الآخرين.
– الإيمان بأنه لا يحتاج إلى الآخرين في حياته.
– «مشاكل في الالتزام – commitment issues»
أو النمط الخائف المتجنب- Fearful-avoidant attachment style، ويعد نمطاً نادراً نسبياً، يتشكل من مزيج من كلا النمطين السابقين القلق والمتجنب. حيث يتوق الفرد للحصول على العاطفة والمودة ويسعى لتجنبهما بأي طريقة ممكنة. كما يكره صاحب هذا النمط العلاقات الرومنسية وفي نفس الوقت يريد أن يشعر بحب الآخرين له. [4]
بالإضافة لذلك يتصف بسلوك متضارب وصعوبة الوثوق بالآخرين، وغالباً ما يرتبط بمشاكل وأمراض الصحة النفسية لدى البالغ. يتطور هذا النمط نتيجة لصدمات الطفولة، الإهمال أو الإساءة بشكل أساسي والخوف من الأهل (غياب الشعور بالأمان معهم). [3] إليك بعض صفات نمط التعلق غير المنتظم: [3]
– الخوف من الرفض.
– عدم القدرة على تنظيم المشاعر.
– سلوك متضارب.
– مستويات عالية من القلق.
– صعوبة الوثوق بالآخرين.
– علامات كلا النمطين القلق والمتجنب.
لاحظ بولبي وزميلته كولين مري باركس- Colin Murray Parkesعند العمل على نظرية التعلق أربع مراحل للحداد، سبقت المراحل الخمس المعروفة: [2]
بالطبع فإن نمط التعلق الخاص بالفرد سيؤثر على تجربته مع الحداد. فالشخص ذو نمط التعلق الآمن سيتجاوز هذه المراحل بسرعة نسبياً، بينما قد يعلق الآخر ذو نمط التعلق المتجنب أو القلق في أحد هذه المراحل.
إن نظرية التعلق كغيرها من النظريات المتعلقة بسلوكيات الإنسان تثبت أهمية البيئة الأولى التي عاش فيها الإنسان في تكوين شخصيته وسلوكياته والطريقة التي يرى بها العالم ويتواصل بها مع الآخرين. لذلك علينا دائماً خلق بيئة صحية وسليمة للأطفال كي نتفادى قدر الإمكان الآثار السلبية في المستقبل.
المصادر:
1.Britannica| Attachment Theory
2. PositinePsychology| What is Attachment Theory? Bowlby 4 Stages Explaine
3. PsychCentar| Here Is How to Identify your Attachment Style
4. mbg| The 4 Attachment Styles in Relationships + How to Find Yours
في عالم الكم، لم تعد قواعد الفيزياء الكلاسيكية قابلة للتطبيق. واحدة من أكثر الحالات الرائعة…
أظهرت دراسة جديدة أن المرضى يجدون الذكاء الاصطناعي أكثر تعاطفاً وتفهماً من الأطباء النفسيين وخبراء…
باتت التجارب الرقمية أكثر عمقًا وانغماسًا مع دمج الحواس البشرية في البيئات الافتراضية. ويأتي نظام…
في اكتشاف رائد، كشف باحثون من جامعة أتينيو دي مانيلا عن أدلة على وجود شكل…
درس العلماء الأسماك الغضروفية الحديثة، مثل أسماك القرش وأسماك الزلاجات. وقارنوها بنظيراتها عديمة الفك، مثل…
تحول دماغ شاب إلى زجاج منذ ما يقرب من 2000 عام، وهي ظاهرة يعتقد العلماء…