صدر كتاب اللاهوت العربي وأصول العنف الديني عام 2009 وتصدر قوائم المبيعات لفترة طويلة. الكتاب من تأليف الدكتور والمفكر يوسف زيدان المتخصّص في التراث العربي وتاريخ الطب العربي. حصل يوسف زيدان على جائزة البوكر العربيّة عن رواية عزازيل. يناقش كتاب اللاهوت العربي العلاقة البنيويّة بين الأديان الإبراهيميّة وتأثيرها المتبادل. ويحاول تحديد العلاقة بين السياسة والدين والأسباب المؤدية للعنف الديني. من خلال قراءة جديدةٍ ومتعمقةٍ في التراث واللاهوت العربي عبر مراحل نشأته وتطوره. الأمر الذي أدى لمحاكمة الدكتور يوسف زيدان بتهمة ازدراء الأديان. من الطبيعي أن تُثيرَ هذه الأفكار والقراءات الثوريّة في التراث الدينيّ لمنطقتنا جدلاً كبيراً. خاصةً في ظل الحساسيات الدينيّة والطائفيّة، والهوس في تعظيم الذات وإنكار الآخر. فماذا قال زيدان في اللاهوت العربي وأصول العنف الديني؟
محتويات المقال :
وحدة الأديان الإبراهيميّة
اعتبر الكاتب الأديان الثلاثة الأكثر انتشاراً (اليهودية والمسيحية والإسلام) دينًا واحدً بتجليّاتٍ مختلفة. إذ أدّى اختلاف الزمان والمكان واللغة إلى اختلافات تشريعيةٍ وعقائديةٍ، لكن الجوهر الاعتقادي ظلّ واحداً؛ فهي جميعاً تعبد معبوداً واحداً اختصّ قوماً بخطابٍ عبر رسلٍ اصطفاهم ورفعهم فوق بقيّة الناس. يؤكد الدين اللاحق الدين السابق بينما ينكر السابق اللاحق لأنّ فيه زواله. وبالمثل فكلّ مذهب في الدين الواحد ينكر بقيّة المذاهب.
لا توصف هذه التجليّات بالسماويّة، لأنّ كل الأديان بالضرورة سماويّةٌ، حتّى لو قدّست تلك الديانات الأصنام أو النار أو الكواكب، فهم يتسامون بها إلى مرتبةٍ ألوهيّةٍ متعاليّةٍ على الوجود الفيزيقي. كما لا يمكن وصفها بالتوحيديّة، فصفة التوحيد موجودةٌ في أديان أخرى وهي ليست حكراً على هذه الأديان. إنما يمكن وصفها بأنها دياناتٌ رسوليةٌ أو رسالية، لكونها أتت إلى الناس برسالةٍ من السماء عبر رسلٍ وأنبياءٍ يدعون الناس إلى إلهٍ متعالٍ.
لذلك فإنّ أيّة محاولةٍ لمقارنة الأديان يجب أن تتم مثلاً بين الديانات الإبراهيميّة بصفتها ديناً واحداً ، مع الديانة المصرية القديمة أو إحدى ديانات الهند لأنه في هذه الحالة سيكون الاختلاف في الجوهر الديني قائماً. وهي مهمةٌ صعبةٌ، فالدارس يتّبع عادةً ديناً معيناً، ومن العسير أن يتجرد منه تماماً ويلتزم النظرة الحياديّة الموضوعيّة اللازمة للمعرفة الحقّة.
لا يمكن فهم التراث الإسلاميّ واللاهوت العربي بشكلٍ مجرّد دون التعمّق في الأصول الإنسانيّة لهذا التراث، وما سبقه زمناً وكان بمثابة مقدمات له. ليس ضرورياً أن يكون هذا التأثير تأثيراً للسّابق على اللاحق فقط فأحياناً يحدث العكس، مثل تأثير الأفلوطينيّة المحدثة على اليهوديّة من خلال شرح فيلون السكندري للتّوارة وتأويلاته لنصوص العهد القديم التي صارت مع الزمن تراثاً يهودياً. أو دخول أفكار البعث والقيامة المسيحيّة الإسلاميّة المنشأ في اليهودية التي خلت نصوصها المبكرة من هذه المفاهيم.
جذور الإشكال: الله والأنبياء في التوراة
تظهر في التّوراة -المقبولة مسيحيّاً والتي ينظر إليها الإسلام بإقرارٍ في صحّة الأصل وتحريف في النّص دون رفضها التام- صورةٌ إشكاليةٌ للإله من حيث الطبيعة والصفات. فنرى الإله اليهوديّ تارةً داعياً إلى الخير وفضائل الأعمال، وتارةً أخرى عنيفاً منتقماً. كما ظهر في قصّة العبور(الفصح) غير كلّي القدرة محتاجاً إلى علاماتٍ على بيوت اليهود حتّى يميّزها عن بيوت المصرييّن حين أراد ضرب أرض مصر. وظهر ثائراً على البشر جميعاً في قصّة الطوفان. كما وردت صّفات وأفعال كثيرة لا تليق بإلهٍ متعالٍ قادرٍ.
اجتّهد علماء الشّريعة اليهوديّة ومن بعدهم علماء التّفسير المسيحي في محاولة تأويل وتفسير النّصوص عن طريق علم اللاهوت المستلهم أساساً من الفلسفة اليونانية بين اعتبارها رموزاً تاريخيّةً أو اعتبارها حالاتٍ للذّات الإنسانيّة في تطوّرها. ولكنّ تأخّر ترجمة هذه التفسيرات عن ترجمة التّوراة من العبريّة الأم إلى الآراميّة واليونانيّة ومنها إلى لغاتٍ أخرى، سمح باستشعار خطورة هذه النّصوص وما ترسمه من صفاتٍ لا يُستحب إطلاقها على البشر ناهيك عن الله.
تتعدّى خطورة النصوص التوراتيّة ما تمّ إلصاقه بالذّات الإلهيّة من صفاتٍ إلى إباحة القتل باسم الرّب والاستهانة بالقّيم والحقوق الإنسانيّة لغير اليهود مظهرةً إيّاهم بصورةٍ أقلّ إنسانيّة من أبناء الرّب. وخُصّص الله التّوراتي لبني إسرائيل دوناً عن البشر جميعاً. وبما أنّه لا يمكن لغير من وُلِد من أمّ يهوديّة أن يعتنق اليهوديّة، فقد صار الله مملوكاً لليهود فقط. بالإضافة إلى أن الصورة التوراتيّة للأنبياء مفزعةٌ، فهم لا يتوارون عن القيام بأفعالٍ شنيعةٍ لا تليق بأناسٍ اصطفاهم الله على البشر برسالته، فهم يقتلون ويزنون ويسرقون.
الحلّ المسيحي: من الثيولوجيا إلى الكريستولوجيا
تعتبر المسيحيّة امتداداً لليهوديّة وإصلاحًا لها قبل أن تتطوّر فيما بعد. فمنذ القرن الثاني قبل الميلاد انتظر اليهود قدوم الماشيح ، والتي تعني حرفيّاً، الممسوح بالزيت المبارك، ليصبح ملك اليهود ويحقق وعد الرّب الذي طال انتظاره ويخلّصهم من الظّلم والاضطهاد. اختبر اليهود صدق كلّ من ادّعى أنّه الماشيح. وقاموا بتسليم المدّعين إلى الرّومان الذين صلبوا المدّعين ليكونوا عبرةً للحالمين بالخلاص. وهو ما فعلوه أيضاً بيسوع المسيح. وازدادت البشارات في الأسفار الأخيرة من العهد القديم بقدوم الماشيح المخلّص لليهود ومدمّر شعوب الأرض جميعاً.
تحوّلت دعوة المسيح الذي بدأ ملتزماً بالديانة اليهوديّة إلى العالميّة بعدما ظهر له أنّ اليهود ليسوا تربةً صالحةَ للبشارة. فأمر تلاميذه أن يبشروا الأمم كلّها بخلاص الإنسان. ولم يُفصَل بين المسيحية وبين اليهوديّة إلّا في القرن الثالث للميلاد. ترافق ذلك مع بدء الخلاف حول طبيعة المسيح هل هو بشرٌ مرسلٌ، أم هو الله ذاته نزل إلى الأرض حيناً. وبعد اعتراف الإمبراطور الروّماني قسطنطين بالمسيحيّة كإحدى الديانات الرسميّة في مرسوم ميلانو سنة 313 ميلاديّة، وبعد مجمع نيقية المسكونيّ سنة 325 ميلادي، تمّ اعتماد الأناجيل الأربعة وأعمال الرسل ورُفِضَ كلّ ما عداها.
أسباب ظهور الهرطقات
أدّت كثرة الأناجيل والتفسيرات والإشارات المختلطة فيها واختلاف اللّغات والثّقافات في الحضارات التي انتشرت فيها المسيحيّة إلى صراعٍ حول طبيعة المسيح. وظهرت الكثير من الهرطقات المدعومة سياسياً وثقافياً. قابلتها الكنيسة بمجامع مسكونيّةٍ حُدِدَ فيها قانون الإيمان الأرثوذكسي لمحاربة تلك الهرطقات. وألغت العمل بالأناجيل غير المتوافقة مع العقيدة السليمة. واعتمدت الأناجيل الأربعة المشهورة: متى، لوقا، مرقس، يوحنّا. وهي مجتمعةً مع الرسائل المُسَماة، أعمال الرسل، شكّلت ما يُعَرف باسم العهد الجديد، وتشكّل مع الأسفار الخمسة للعهد القديم وأسفار أنبياء اليهود ما يعرف باسم الكتاب المقدّس.
يرتكز الإيمان المسيحيّ على المسيح بذاته. ففي الأناجيل الأربعة نرى استعراضاً لحياة المسيح وأعماله دون الإشارة إلى الإلهيّات. وصارت المسألة برمتها هي المسيح لا الله. وصار الإقرار بألوهيّته هو القانون الأول للإيمان. وتحوّل كلّ ما هو ثيولوجي إلى كريستولوجي، أي متعلقاً بالمسيح ذاته، ولم تعد المشكلة اليهوديّة المتعلّقة بصفات الله مطروحةً للنظر. إنّما صار الإيمان الأرثوذكسي هو الإيمان بأنّ المسيح هو الله، وكل ما عداه من أفكارٍ لاهوتيةٍ عربيةٍ هرطقة.
الفارق في مفهوم الإله بين الشرق والغرب
مفهوم الإله في مصر واليونان
كانت الديانات المصريّة واليونانيّة تسمح بالتعدديّة وتجيز أحياناً التمازج بين الإله والإنسان ولا ترى بأساً من تأليه الإنسان وأنسنة الإله. لذلك عندما انتقلت المسيحيّة من فلسطين إلى مصر –والتي كان أساس انتشارها- فهم المصريّون بناءًا على تصوّرهم ذي الأبعاد الثلاثية للألهة (ثالوث: إيزيس، حورس، أوزيريس) وإمكانية تمازج الإنساني بالإلهي، الديانة المسيحيّة. فقد كانت فكرة التجسيد والتّثليث ماثلةً في وعيهم الثقافيّ، ممّا ساهم بسهولة في انتشار الأفكار المسيحيّة وترسيخها في الأرض المصريّة على أساس امتزاج المسيح بالإله كامتزاج حورس مع أوزوريس وعلاقتهما بإيزيس الأم.
وقريبٌ منه ما حدث في اليونان. حيث قصّت الإليّاذة والأوديسة قصص التحام الإلهيّ بالبشري وحكايات غرام آلهة الأوليمب بنساء البشر، وما ينتج عنها من أنصاف آلهةٍ. انتقلت هذه التّصورات إلى العصر الهلينستي، الذي تقبّل الأفكار المسيحية القائلة بالطبيعة الواحدة بسبب طبيعة وعي اليونانيّن. لذلك نجد أنّ الإيمان بأنّ المسيح هو الله أصبح العقيدة الأرثوذكسية في مصر واليونان.
مفهوم الإله في الشام والعراق – اللاهوت العربي
أمّا التّصورات الدينيّة في منطقة الهلال الخصيب (الشام والعراق) ذات التواجد العربي الكثيف، فكانت تقوم على أنّ الألهة مفارقةٌ تماماً لعالم البشر وأنّ الاتصال الوحيد بينهم يتم بواسطة أنبياء ورسل يتمّ تكليفهم بإيصال كلمة الله للبشر. لذلك ميّز العرب بين اللّاهوت والنّاسوت، لأن فكرة النّبوة، عبرانيّة المنشأ، كانت أساس الأفكار الدّينيّة في منطقة الهلال الخصيب التي تأثرت بالحضارة الفارسية وأنبيائها. وتوسّع اليهود في هذا المفهوم حتّى صار مفهوم النبوّة سلسلةً متوارثةً على قاعدة القرابة والدم. ومن الفارسية والعبرانيّة تسلّل مفهوم النبوّة إلى العقليّة العربيّة فكان للعرب أنبياءٌ اعتزوا بهم بعدما أنكر عليهم اليهود فضل النبوّة. فاسّتقبل العرب في الجّزيرة العربيّة والهلال الخصيب الديانة المسيحيّة وقرأوا في أناجيلها الأربعة إشاراتٍ للمسيح تصفه بابن الإنسان وابن الله. لذلك فهموا أنّ المسيح هو النّبي المخلّص.
ومن الطبيعي أن يقوم الخلاف بين هاتين العقليّتين -عقليّة اللاهوت العربي وعقليّة اللاهوت الغربي- وأن تتبادلا الاتهامات واللّعنات والحرمانات الكنسيّة. فسالت أنهار الدم وانتشر العنف الديني بسبب ارتباط هذه العقائد بمصالح سياسيةٍ أجّجت الخلافات العقائديّة. دارت الخلافات جميعها حول المسيح، فاللّاهوت الديني المسيحيّ لا يتعلّق بالله بذاته، بل يتعلق بطبيعة المسيح الذي صار الله عندما صارت الكلمة جسدًا بحسب الفهم الأرثوذكسي. في مقابل لاهوتٍ عربيٍ يرى المسيح ابن الإنسان. فظهرت هرطقاتٌ كثيرةُ، وقام جدلٌ فلسفيٌ بينهما رسّخ العقيدة الأرثوذكسيّة بحسب المفهوم القبطيّ اليونانيّ قبل حدوث الانشقاق الكبير للكنيسة القبطيّة بعد مجمع خلقيدونيّة المسكونيّ سنة 451 ميلاديّة. ليبدأ بعدها انحدار أثر الكنيسة السكندرانيّة ليصبح محلياً بعد أن كان لها الأثر الأكبر في كل المجامع المسكونيّة السابقة وفي تحديد مفهوم الايمان القويم. لذا فإنّ معظم الهرطقات الكريستولوجيّة ظهرت في منطقة الهلال الخصيب مثل الإبيونيّة وبولس السميساطي ولوقيانوس والآريوسيّة والنسطوريّة اللّتان كان لهما أثرٌ كبيرٌ في الرؤية الإسلاميّة للجدل الكريستولوجي دون أن نهمل الأثر الواضح للمصالح السياسيّة في تأجيج وانتشار هذه الهرطقات.
الحل القرآني: إعادة بناء التصورات ونشأة علم الكلام
حاول الإسلام إعادة رسم شخصيات وسيَرَ الأنبياء بما يناسب مكانتهم دون تأليههم كما الحال في التوراة. فقدّمهم بلغةٍ راقيةٍ لا يشوشها لفظٌ رديء ولا معنىً غير لائقٍ بالله وأنبيائه. وفصل بوضوحٍ بين اللّاهوت والناسوت، حتى ما كان متعلقاً بنبي الإسلام بالتأكيد على أنّه يتلقى وحيًا منزلاً من السماء. وهكذا تجاوز القرآن أزمتي صورة النّبي وصفات الله. ومن هنا أتى تأكيد القرآن على بشريّة المسيح مبيناً أنّه نبيٌ من الله مطلقاً عليه اسم المسيح ابن مريم دون إنكار معجزاته.
ولأن القرآن نزل بلغةٍ عربيةٍ على عقولٍ عربيّةٍ براغماتيّةٍ، فقد مدّهم بنظامٍ حياتيٍ كاملٍ. ولم يكتف بالإلهيّات. وأمر المسلميّن بقتال المشركين ونشر الدين حتّى تّم فتح الشام ومصر والعراق. واختلط الفكر الإسلاميّ الجديد بالهرطقات المنتشرة هناك. وحصل الاحتكاك الثّقافي. وحدثت تحوّلاتً كبرى أدت إلى حاجة المسلميّن لتطوير علم كلامٍ يبرهنون به صحّة عقائدهم أمام علم اللّاهوت المسيحيّ ويجيبون به على الأسئلة التي طرأت على المجتمع الإسلاميّ.
بدأ ظهور علم اللاهوت العربي والذي سُميَ علم الكلام في النّصف الثاني من القرن الأوّل الهجري بعد انتشار الإسلام في البلاد المحيطة بالجّزيرة العربيّة. وليس من المصادفة أن مؤسسي المذاهب الكلاميّة تتلمذوا على يد رجال لاهوتٍ مسيحيٍين. فاستكملوا طريق أسلافهم. وبهذا لا يكون علم الكلام اختراعاً إسلاميّاً وإنّما هو امتدادٌ لعلم اللّاهوت. وليس غريباً أيضاً أنّ هؤلاء المؤسسين قُتِلوا جميعاً، لأنهم ناقشوا أفكاراً غريبةً عن العقيدة الإسلاميّة التي هي امتداد لعقائد المشركيّن، فاتُهِموا بالزّندقة واعتناق الأفكار الفلسفيّة للشعوب المفتوحة. أمّا اللّاحقون من المتكلّمين فقد فصلوا بين المباحث الكلاميّة والنضال السياسي الذي تبناه المتكلّمون الأوائل. فأزالوا من مناقشاتهم فكرة الخروج على الحاكم الظّالم، فعاشوا بسلامٍ خلال فترة الحكم الأمويّ والعبّاسي. بل إنهم استعانوا بالخلفاء على أعدائهم وخاصةً في زمن المأمون. وتؤكد الصّلة الخفيّة بين إصرار الهراطقة على نفي المماثلة بين الله والكلمة، وإصرار المتكلّمين على نفي صفة الكلام عن الذّات الإلهيّة اتصال علم الكلام باللّاهوت المسيحي.
إشكاليّة العنف الديني في اللاهوت العربي
أطر التّديّن ودوائره
إنّ الإسلام واليهوديّة شديدتا القرب لأنّ اليهوديّة ديانةٌ غير تبشيريّةٍ انتشرت في منطقةٍ ذات أغلبيةٍ عربيةٍ، عكس المسيحيّة التي تطوّرت في مصر واليونان، وبالتّالي تأثّرت بثقافات وديانات هذه المناطق. ولأنّها من حيث الجوهر دينٌ واحدٌ بتجلياتٍ متعددة، يمكن تمييز هذه الديانات الإبراهيميّة بأطرٍ عامةٍ تؤكد وحدتها. مثل فكرة الإنابة: وتعني وجود وسيطٍ بين الله والإنسان. وهذا واضحٌ في التجليات الثلاثة للدين الإبراهيمي من أنبياءٍ ورسلٍ وأئمة، وهي دائماً حكرٌ على الرجال دون النّساء. ومن الأطر، الإبادة: من خلال الوعد الإلهّي لليهود بإسرائيل الكبرى. وهو ما نراه في العهد القديم من إبادة أقوامٍ بأكملهم نُصرَةً لليهود. ونرى مثل هذه الوعود أيضاٌ في القرآن. من هذه الدوائر المشتركة، الخروج: وهو مخالفة اعتقاد المجتمع . تعزل المجموعة التي تعتقد أنّها على حقٍّ نفسها عن بقيّة المجتمع، وتحكم عليهم بالكفر والضلال.
صلة الدين بالسياسة
إنّ الفصل بين الدّين والسياسة وهمٌ تبدده الحقائق التاريخيّة للأديان الإبراهيميّة التي امتزج فيها الدينيّ بالسياسيّ امتزاجاّ شديداّ يصعب معه تمييز ما هو دينيٌ عن ما هو سياسي. يتضح هذا مراراً وتكراراً في تاريخ هذه الأديان، حيث كان الأمراء والملوك ينصرون مذهباً على حساب آخر، بناءًا على مصالحهم السياسية. وكذا رجال الدين الذين دعموا ملوكاً دون غيرهم وفق مصالحهم الخاصّة.
العلاقة بين العنف الديني والسياسة
تدور السياسة حول محور الحاكم بينما يدور الدين على محور الإله. وهما محوران منفصلان نظرياً. ولا تتم السياسة إلّا في جماعةٍ إنسانيّةٍ، بينما يرتبط الدين بالفرد. وهناك تداخل بين هذين المحورين، إذ لا يمكن للسياسة أن تضبط الجماعة إلّا بضبط الفرد. ولا يمكن للدين أن يحقق رؤيته إلّا في مجتمعٍ قائمٍ.
يبدأ الدين في حياة النّبي في جماعة مستقرةٍ سياسياً، ظهر فيها نظامٌ سياسيٌ واستقر قبل ظهور الدين. ونظراً لطبيعة الدين الانبثاقية، فهو يسعى لخلخلة النظام السياسي ليفسح لنفسه مجالاً بين الجماعة. وهنا يبدأ العنف من طرف النظام السياسي للحفاظ على استقراره. ويقابله المؤمنون بالصبر والتّمسك بالمبادئ الدينيّة. حتّى إذا ازاد العنف، حدثت الهجرة، فينتشر هذا الدين بين المهمّشين والمظلومين وأعداء النّظام السياسي. ونتيجة هذا الخروج تقتنع السّلطة بأنّ الدين هرب من المواجهة ولم يعد يشكل تهديداً لها، فيهدأ العنف. بينما يزداد حجم الدين في أرض الخروج ويُنظّم ويصبح قوياً جاهزاً لاقتلاع النظام السياسي. عندها يعود الدين مفاوضاً النظام على اقتسام النفوذ والسّلطة. وتضطر السًلطة إلى التنازل جزئياً، مما يؤدي إلى نتائج وخيمةٍ على صعيد السلم الاجتماعي. ويتجه الدين الجديد نحو مزيدٍ من التّشدّد والتّمحور حول الذات، يتطور عندها الصراع إلى معركة بقاء، ويصير الدين مع الوقت مليكاً مسيطراً.
يحدث أحياناً أن تتوحد السّلطتان في شخصٍ واحدٍ، يصعب عندها الفصل بين السياسي والديني. وبعد استقرار النّظام الجديد تظهر انبثاقات أخرى داخل الدين. وتكرّر دائرة العنف نفسها بشدّةٍ أكبر لأن العقيدة الجديدة تستند إلى قراءاتٍ خاصةً للعقيدة الأصليّة على نحوٍ مخالفٍ للسائد، فيحدث عنف ديني مزدوج ضد الواقع السياسي وضد الاعتقادات السائدة.
يجب لكسر دوائر العنف اللانهائيّة أن يتّم الاعتراف بالمشروعيّة المتبادلة. فلا بدّ للديني أن يعترف للسياسي بمشروعيّة الحركة والحق في التّنظيم الاجتماعي والتعامل مع العالم الخارجي، بالمقابل لا بدّ للسياسي من الاقتناع بأنّ السياسة لن تقوم بذاتها بديلاً عن الدين.
المصادر:
كتاب اللّاهوت العربي وأصول العنف الديني
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
المقال رائع استمر