Ad

في عالم الفلسفة، هناك معضلة بعينها حيرت العلماء لعدة قرون وهي معضلة الوعي. لقد أربك السؤال حول كيفية نشوء عقولنا الواعية من العالم المادي العلماء والفلاسفة على حد سواء، مما جعل الكثيرين يتساءلون عما إذا كان بإمكاننا فهم طبيعة وعينا بشكل كامل. يشكل لغز الوعي تحديًا كبيرًا للمذهب الفيزيائي في الفلسفة، وهي فكرة أن كل شيء في الكون يمكن تفسيره من خلال القوانين والمبادئ الفيزيائية. في هذه المقالة، سوف نتعمق في تعقيدات الوعي، ونستكشف الصعوبات في التوفيق بين تجاربنا الذاتية والعالم المادي.

الطبيعة المراوغة للوعي

لقد كان الوعي لفترة طويلة شوكة في خاصرة المذهب الفيزيائي في الفلسفة. والمذهب الفيزيائي هو الموقف الفلسفي الذي يرى أن كل شيء في الكون يمكن اختزاله في مادة فيزيائية وطاقة. إنه اللغز الذي حير الفلاسفة والعلماء على حد سواء: كيف نفسر ظهور كائنات واعية من واقع مادي بحت؟ الوعي في جوهره هو التجربة الذاتية لإدراك الفرد لمحيطه وأفكاره وعواطفه. ولكن ما هو بالضبط، وكيف ينشأ من تفاعلات الخلايا والناقلات العصبية في أدمغتنا؟

إن التحدي الذي يشكله الوعي هو في الأساس مشكلة تفسير كيف يمكن للتجربة الذاتية أن تنشأ من العمليات الفيزيائية الموضوعية. إن المذهب الفيزيائي في الفلسفة، بطبيعته، غير قادر على تقديم إجابة مرضية لهذا السؤال. وإذا كان الوعي لا يمكن تفسيره بالقوانين الفيزيائية، فإنه يتحدى الافتراض الأساسي بأن العالم المادي هو كل ما هو موجود. إن واقع الوعي، والتجارب الذاتية التي تأتي معه، تثير تساؤلات حول طبيعة الواقع نفسه.

إن العالم الطبيعي، كما يُفهم من خلال مجال الفيزياء، يتكون من مادة وطاقة تحكمهما قوانين يمكن قياسها وتحديد كميتها والتنبؤ بها. ومع ذلك، فإن تجاربنا الذاتية، مثل الإحساس بالألم، أو الشعور بالبهجة، لا يمكن اختزالها في هذه العمليات الفيزيائية.

المشكلة الصعبة للوعي

إن “المشكلة الصعبة” للوعي، كما عبر عنها الفيلسوف ديفيد تشالمرز، هي على وجه التحديد: كيف يمكننا تفسير الطبيعة الذاتية والنوعية للتجربة الواعية من منظور مادي بحت؟ إن الإطار الفيزيائي، الذي نجح في تفسير العالم الطبيعي، يبدو غير ملائم على الإطلاق عندما يواجه لغز الوعي.

تعددت المحاولات لترويض العقل الواعي، وتقليصه إلى مجرد روابط وظيفية بين المحفزات الحسية والسلوك الجسدي. ومع ذلك، كانت هذه المحاولات غير مرضية، لأنها فشلت في التقاط جوهر التجربة الذاتية. ويحتدم الجدل، حيث يفترض البعض أن الوعي قد يكون مجرد وهم، ومجرد نتيجة ثانوية لنشاط الدماغ المعقد. ولكن هل يمكننا حقًا أن نثق بتصوراتنا، أم أنها مجرد افتراءات عقولنا؟

لتوضيح الصعوبة، فكر في التجربة الفكرية التالية: تخيل أنك عالم أعصاب قمت برسم خريطة لكل اتصال عصبي في الدماغ. ويمكنك التنبؤ على وجه اليقين بكيفية استجابة كل خلية عصبية لمحفز معين. ومع ذلك، على الرغم من وجود هذه الخريطة العصبية الكاملة، إلا أنك لا تزال غير قادر على تفسير سبب الشعور بجمال اللون الأحمر، على سبيل المثال. هذه هي المشكلة الصعبة للوعي، وهي تفسير سبب وجود تجارب ذاتية لدينا.

إحدى الطرق للتعامل مع هذه المشكلة هي النظر في مفهوم “كيف يكون الأمر” بالنسبة للتجربة. هذه العبارة، التي صاغها تشالمرز، تسلط الضوء على الطبيعة الجوهرية والذاتية للوعي. عندما نختبر العالم، فإننا لا نقوم فقط بمعالجة المعلومات؛ نحن نواجه تجربة ذاتية فريدة بالنسبة لنا. من الصعب تحديد هذا الجانب الذاتي من الوعي، لأنه يبدو أنه يقاوم الاختزال إلى تفسيرات فيزيائية أو وظيفية بحتة.

مذهب الوهم في الفلسفة

إن محاولة تفسير الوعي باعتباره وهمًا، كما اقترحها أنصار مذهب الوهم في الفلسفة (illusionism) مثل كيث فرانكيش، تثير أسئلة أكثر مما تجيب. وفقًا لفرانكيش، فإن “الوعي المدرك بالحواس، كما يُتصور عادة، هو وهم”. وهذا يعني أن إحساسنا بالخبرة، بما في ذلك الكيفيات المحسوسة (qualia) مثل رائحة الجبن أو الإحساس بالألم، هو مجرد تحريف للأحداث الجسدية في الدماغ.

ومع ذلك، فإن هذا التفسير لا يؤدي إلا لمزيد من المشاكل. إذا كان الوعي وهمًا، فلماذا نختبره على أنه حقيقي جدًا؟ علاوة على ذلك، كيف يمكن للعالم المادي، الذي تحكمه قوانين الفيزياء، أن يؤدي إلى مثل هذا الخداع المتقن؟

إن رد مذهب الوهم في الفلسفة على هذا التحدي هو الادعاء بأن تجربتنا للوعي هي تمثيل مبسط، أو تحريف، للأحداث الجسدية في الدماغ. دانييل دينيت، على سبيل المثال، يشبه الوعي المدرك بالحواس (phenomenal consciousness) بأوهام المستخدم الناتجة عن الواجهات الرسومية، والتي تسمح لنا بالتفاعل مع أجهزة الكمبيوتر والتحكم فيها. ومع ذلك، فإن هذا التشبيه ينهار عندما نعتبر أن آليات الكمبيوتر ليست واعية، في حين أن أدمغتنا كذلك.

هل يمكننا أن نثق في تصوراتنا؟

لمعالجة هذا السؤال، دعونا أولًا نفحص طبيعة الوعي المدرك بالحواس. يشير الوعي المدرك بالحواس إلى التجربة النوعية الذاتية التي نمتلكها عندما ندرك العالم من حولنا. إنه الإحساس باللون الأحمر عندما نرى وردة، أو الشعور بالألم عندما نصدم إصبع قدمنا، أو طعم السكر عندما نأكل المانجو الناضجة. هذه التجارب ذاتية بطبيعتها ولا يمكن اختزالها في عمليات فيزيائية بحتة.

الآن، يجادل مذهب الوهم في الفلسفة بأن هذه التجارب الذاتية هي مجرد أوهام، تحريفات للأحداث الجسدية في الدماغ. يزعم أن نشاط دماغنا يخلق تمثيلاً مبسطًا للعالم، والذي نخطئ في تصويره. لكن إذا كان وعينا المدرك بالحواس مجرد وهم، فهل يمكننا أن نثق بتصوراتنا على الإطلاق؟

للإجابة على هذا السؤال، دعونا نفكر في مثال. تخيل أنك تسير عبر الغابة، وترى مرجًا جميلاً مليئًا بالزهور البرية. يمكنك إدراك الألوان النابضة بالحياة، وحفيف الأوراق اللطيف، ورائحة الزهور الحلوة. وفقًا لمذهب الوهم في الفلسفة، فإن هذه التجربة برمتها هي وهم، وتحريف للعالم المادي. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فما هي طبيعة هذا التحريف؟ هل هو تلفيق متعمد للدماغ، أم أنه نتيجة لبعض القيود المتأصلة في أجهزتنا الإدراكية؟

أسئلة يثيرها تفسير الوعي بالوهم

إذا كان وعينا وهماً، فما طبيعة هذا الوهم؟ هل هو جانب أساسي من الكون، أم أنه نتاج محدودية دماغنا؟ وإذا كان وهمًا، فماذا يقول ذلك عن فهمنا للواقع؟

في نهاية المطاف، يؤدي مذهب الوهم في الفلسفة إلى معضلة. إذا كان وعينا المدرك بالحواس وهمًا، فلا يمكننا أن نثق في تصوراتنا، وإذا لم نتمكن من الثقة في تصوراتنا، فكيف يمكننا أن نثق في فهمنا للعالم؟ إن وهم الوعي المدرك بالحواس يثير أسئلة حول طبيعة الواقع أكثر مما يجيب عليها، وهو تحدٍ يواصل الفلاسفة والعلماء مواجهته.

المصادر:

philosophy now

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


منطق فلسفة علم

User Avatar


عدد مقالات الكاتب : 100
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق