Ad

الفلسفة اللا إنجابية ومبرراتها

يمكن تعريف الفلسفة اللا إنجابية على أنها الفكرة التي تنادي بوجوب عدم ولادة الكائنات البشرية والكائنات الحية. وهذا المذهب الفلسفي يقوم على أسسٍ ومبادئ وأفكار تبرر الدعوة إلى عدم إنجاب الأطفال وتصنيفه على أنه فعل لا أخلاقي. وتختلف عن عدم الإنجاب الطوعي لأنه عبارة نمط حياة يختاره المرء لأسباب تكون في غالب الأحيان شخصية، وليس دعوة عامة [1].

تعود أفكار رفض الولادة إلى زمن بعيد، ويمكن إيجاد بذورها عند الإغريق القدماء. كما أثرت تلك الأفكار على الأدب والفلسفة الأوروبية حتى يومنا هذا. سنستعرض في هذا المقال الأسباب المختلفة لدعاة اللا إنجابية ومبادئهم، كما سنطرح وجهات نظر جدلية لهذه الفلسفة [pdf].

مبررات اللا إنجابية

يمكن تصنيف مبررات مناهضي الإنجاب حسب موقفين اثنين، أولهما خيري للبشر والثاني كاره للبشر [2].

الموقف الخيري للبشر

يؤكد الموقف الخيري للبشر (Philanthropic) على محبة البشر والثقة بهم، ويركز على فكرة الأذى الواقع على أولئك الذين يأتون إلى الوجود. وينادي هؤلاء بأن الإنجاب يجب أن يكون غير مسموح في كل الحالات ومع كل الاعتبارات. يستند هذا الموقف على أكثر من حجة وجدلية طرحها عدد من الفلاسفة [2].

عدم التماثل

تحدث الفيلسوف ديفيد بيناتار (David Benatar) حول فكرة عدم التماثل (asymmetry) بين المتعة والألم، والتي شرحها في كتابه من الأفضل ألا تكون موجودًا: ضرر الوجود (Better Never to Have Been: The Harm of Coming into Existence) (2006). في هذا الكتاب، يؤكد بيناتار أن عملية الإنجاب دائماً ما تنطوي على ضرر أو أذى يلحق بمن يأتي إلى الوجود. ويوسّع نقاشه إلى أبعد من دائرة البشر، فيرى أن كافة المخلوقات التي تشعر أو تدرك بما حولها تعيش حالة من الأذى عندما تأتي إلى الوجود. وبما أن هذا الأذى أمر محتم، من الأفضل ألا يأتي أحد إلى هذا الوجود منعاً للضرر، خاصة وأن عدم إنجابهم لن يتسبب بضرر لأيّ كان. وقد دعم بيناتار طرحه هذا بحجة عدم التماثل بين فكرتي الوجود وعدم الوجود، وكل من الألم والمتعة المنطويان عليهما.

ويمكن تلخيص فكرته بأن غياب الألم هو أمر جيد، حتى وإن لم يشعر أحدٌ بهذا الأمر الجيد، ولكن غياب المتعة هو ليس أمراً سيئاً طالما أنها لا تُسلب من أحد. ويشرح بيناتار هذه الفكرة وفق الجدولين التاليين:

العلاقة الأولى تمثل فكرة الوجود وتبعاتها من ألم ومتعة:

الفلسفة اللا إنجابية
سيناريو الإنجاب

العلاقة الثانية تمثل فكرة عدم الوجود وتبعاتها من ألم ومتعة:

الفلسفة اللا إنجابية
سيناريو اللا إنجاب

وما يصل إليه بيناتار هنا أن فكرة حصول الإنسان على المتعة من حياته لا تعني أن الوجود هو أفضل من عدمه. وعند عدم قدوم الإنسان إلى الوجود، لن يكون هنالك من يفتقد هذه المتعة، وبالتالي فإن غيابها ليس أمراً سيئاً. كما يعتبر بيناتار أن من يرى نفسه سعيداً في الوجود ولا يعتبر نفسه ضحية أذى أو ضرر هو واهم. ويفسر تقييم الناس الإيجابي لحياتهم على أنه ناتج عن مظاهر نفسية معينة لا عن نوعية الحياة الحقيقية [2].

فرض الوجود على البشر

من الطروحات الأخرى التي قدمها اللا إنجابيون المؤمنون بخيرية البشر أنه يستحيل الحصول على موافقة أحد على خلقه. وبالتالي فإن الإنجاب ينطوي بالضرورة على خلق ضحايا واستغلال الأطفال الرضع للحصول في النهاية على أشخاص بالغين راشدين. أي أن الأذى الواقع على الفرد القادم إلى الوجود هو أذى كبير ولم تتم الموافقة عليه، وبالتالي من يود الإنجاب لن يكون قد حصل على موافقة مفترضة من صاحب الشأن في هذا الفعل. بالمقابل، عند عدم إحضار شخص إلى الوجود، لن يكون هناك من يتعرض للأذى؛ لن يكون هناك أي شيء [2].

والخلاصة أن الجدلية التي تحمل راية خير البشر تقوم على مبدأ أنه بسبب الأذى الواقع على الفرد عند إحضاره للوجود، يعتبر الأنجاب تصرفاً خاطئاً بكل الأحوال وفي كل الظروف.

الموقف الكاره للبشر

يتمثل الموقف الثاني المناصر للإنجابية بجدلية كارهة للبشر (Misanthropic). وعلى عكس الآراء الخيرة للبشر، تركز هذه الفكرة على الأذى الذي يسببه البشر عند خلقهم. وترى أنه من غير المسموح، في أغلب الحالات، إنجاب البشر. أو على الأقل يجب أن يكون هذا غير مسموح في ظل الوضع الحالي الذي يتم فيه الإنجاب. مجدداً، يظهر اسم الفيلسوف ديفيد بيناتار في هذا النقاش. ويطرح فكرته في إطار النقاش التالي:

الجدلية الكارهة للبشر

ويعدد هذا المبدأ أنواع الأذى الذي يتسبب به البشر بعد إنجابهم. فمنه ما يتمثل بأذى للبشر الآخرين، ويأتي بالمرتبة الأولى بقتل البشر لبعضهم. كما يمكن أن يأتي على هيئة اغتصاب واعتداء واستعباد وتعذيب. ولا يتوقف على هذا، بل يمتد ليشمل الكذب والسرقة والغش والخيانة، وغير ذلك. ومن النادر تحقيق العدالة حتى عند السعي وراءها، والأمثلة على هذا كثيرة [2].

يتسبب البشر أيضاً بأذى للحيوانات بأنواع وأشكال متعددة ولا يمكن حصرها. فمعظم البشر ليسوا بنباتيين (vegetarian) أو خضريين (vegan)، وهذا ما يجعلهم شركاء ضمنيين للعذاب الذي يقع على الحيوانات بسبب البشر. يضاف إلى هذا التجارب التي تقع على الحيوانات لأغراض العلم، والأذى المتعمد لمجرد التسلية، وغير ذلك. وبنفس السياق، لا يمكن تجاهل الأذى الذي يحدثه البشر للبيئة، والأمثلة عديدة من التلوث والمشاكل المناخية التي تتسبب بها المصانع والنشاطات البشرية. ومع التضخم السكاني على مستوى العالم، من المستحيل خفض حدة الأثر السلبي الناتج على البيئة.

وبهذا يتلخص نقاش كارهي البشر حول عدم الإنجاب بأهميته لتفادي الضرر الذي يسببه البشر عند وجودهم على عدة أصعدة.

وجهات نظر مختلفة عن الفلسفة اللا إنجابية

تختلف الآراء من هذه الفلسفة باختلاف العقائد والمبادئ. وقد تكون المجموعات المتدينة من أكثر الرافضين لها، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالديانات التوحيدية. حيث يحمل المؤمنون بها فكرة أن الوجود بطبيعته هو أمر جيد. ولا يخلو رد اللا إنجابيين هنا من الإشارة إلى العذاب الذي تنطوي عليه حياة البشر بالمجمل. كما يطرحون التساؤل التالي: إذا كان الوجود أمراً جيداً بحد ذاته، لماذا لا يسعى من يؤمن بهذه الفكرة إلى إنجاب أكبر عدد من الأطفال إذاً؟ [2]

بالطبع لا تخلو الفلسفة من الجدل والنقاش، وأحياناً تنبع التساؤلات من قلب الفكرة الأساسية. فهنا مثلاً، إذا تبنى البشر فلسفة اللا إنجابية، ستكون النتيجة انقراض الجنس البشري طوعاً. وهذا يعني أن البشر الموجودون حالياً – أي من يفترض أنهم سيطبقون عدم الإنجاب – سيكونون الجيل الأخير. سيتناقص عدد من تبقى موجوداً بالتدريج، وتزداد الصعوبة على القلة التي ستبقى حتى النهاية. وتتمثل المشكلة هنا في النظر إلى الأذى الذي سيقع على آخر أفراد الجنس البشري – في حال تطبيق اللا إنجابية – وهل هذا الأذى هو فعلاً أقل من الأذى الناتج عن الوجود؟ بالنسبة للفيلسوف بيناتار ومن يتفق معه، يبدو أنهم يؤمنون بأن عذاب الوجود يفوق بشدة العذاب الذي سيتحمله آخر البشر في مسيرة اللا إنجاب. وعليه، يتمسكون بتوصياتهم بالانقراض الطوعي للجنس البشري [2].

المصادر

What is anti-natalism

Anit-Natalism – Internet Encyclopedia of Philosophy

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


صحة فلسفة علم اجتماع

User Avatar

Watfa Alassafeen

مترجمة من سوريا. أحب القراءة والكتابة.


عدد مقالات الكاتب : 44
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق