يسيطر الفولاذ، والخرسانة، والزجاج على أفق مدننا الصاخبة، وقد يبدو الزحف العمراني أحيانًا بلا نهاية. وتبرز في زحمة المباني الكثيرة المساحات الخضراء كرئتين حيويّتين لمدننا، فتربطنا مع الطبيعة. ولا شك أن العشب والأزهار يثيران مشاعر البهجة والراحة لدينا، فما أهمية المساحات الخضراء في التخطيط العمراني؟
محتويات المقال :
ارتفاع درجات الحرارة في المدن
امتلأ ثلث مركز فينيكس أريزونا للحروق بالمصابين بحروق شديدة إثر سقوطهم على شوارع المدينة الإسفلتية في تموز سنة 2023. وصدرت تنبيهات عامة تحذّر السكان من مخاطر الحرارة المرتفعة للأسفلت والتي قد تصل إلى 82 درجة مئوية في فترة ما بعد الظهر. وقد حدثت هذه الحروق بسبب التعثر العرضي في الشوارع، أو من حالات الإغماء الناجمة عن الحرارة الشديدة. وقد أثبتت أغلب مدننا أنها لا تستجيب للتغيّر المناخي، والاحتباس الحراري الحاصل، لذلك قدّم المخططون العمرانيون المساحات الخضراء كحل محتمل للتخفيف من شدة الإجهاد الحراري في الأماكن العامة. [1]
ماذا يقصد بالمساحات الخضراء؟
خلقت عملية التحضّر السريع بيئةً غير طبيعية، ويتّفق اليوم المخططون، وعلماء البيئة، والاقتصاد، والاجتماع على ضرورة وجود مساحات خضراء تتخلّل المدينة. وتضم المساحات المفتوحة العامة والخاصة التي تغطيها النباتات في المقام الأول، وتشمل المنتزهات، والحدائق، والمزروعات بين فواصل الطرق وعلى جوانب الشوارع، وغيرها من المسطّحات الخضراء.[2]
مستويات المساحات الخضراء
تصنّف المساحات الخضراء عادةً في 3 مستويات؛ على المستوى الإقليمي، ومستوى المدينة، ومستوى الحي، وتختلف نسبتها ومساحتها بحسب مستواها. وتمتلك عمومًا شخصيتين رئيسيتين تميّزها وهما البنية والنمط. فالبنية هي الخصائص الرأسية للمناظر الطبيعية بما في ذلك أنواع النباتات المزروعة، وأنواع الموائل، والأشكال البيئية. بينما النمط هو الخصائص الأفقية مثل الترتيب المكاني للمزروعات، وأحجامها، وربط المناطق البيئية ببعضها.[2]
فوائد المساحات الخضراء
على مستوى البيئة
يعد تلوث الهواء والضوضاء ظاهرةً شائعةً في المناطق الحضرية، وينتجان عن وجود العديد من الآليات التي تطلق أول وثاني أكسيد الكربون، وبسبب انبعاث الغازات من المصانع مثل ثاني أكسيد الكبريت، وأكاسيد النتروجين التي تعتبر شديدة السميّة للبشر والبيئة على حد سواء. ويمكن أن يقلّل تخضير المناطق الحضرية من ملوثات الهواء عندما تحتجز النباتات جزيئات الغبار والدخان. وقد أظهرت الأبحاث أنه في المتوسط يمكن ترشيح حوالي 85% من ملوثات الهواء في الحدائق. ويمكن كذلك أن تقلّل المسطّحات الخضراء من مستويات الضوضاء اعتمادًا على كميّتها، ونوعيتها، وبعدها عن مصدر التلوث.[2]
تعمل المساحات الخضراء كمركز حماية لتكاثر الأنواع، والحفاظ على النباتات، والتربة، ونوعية المياه. على سبيل المثال؛ تخفّف المساحات الخضراء من مياه العواصف مما يشكّل تدبيرًا جيدًا لتقليل حدّة الفيضانات. كما تعد صلة وصل بين المناطق الريفية، والحضرية فهي تشعر سكانها بالتغيّر الموسمي، وتربط المدن بعالم الطبيعة. بالإضافة إلى ذلك، توفّر المسطّحات الخضراء للمدن خدمات النظام البيئي التي تتراوح من الحفاظ على التنوع البيولوجي إلى تنظيم المناخ.[2][3]
تحدث في المدن ظاهرة الجزر الحرارية إذ تمتص الأسطح البيتونية والزجاجية الحرارة، وتحتفظ بها، وتعكسها. نتيجةً لذلك، ترتفع درجات الحرارة في المدن بمقدار 5 درجات مئوية تقريبًا عن محيطها. وتستطيع الغابات، والغطاء النباتي، والمسطحات المائية تخفيف حدة هذه الظاهرة.[2]
على مستوى الاقتصاد
تُحسّن النباتات دوران الهواء، وتوفّر الظل مما يساعد على التبريد، وخفض درجات الحرارة بالتالي تقليل تكلفة الطاقة اللازمة لتبريد المباني. على سبيل المثال؛ كشفت دراسة في شيكاغو أن زيادة مساحة الغطاء النباتي بنسبة 10% يمكن أن يخفّض إجمالي الطاقة اللازمة للتدفئة والتبريد بنسبة 5-10%. [2]
كما تدل المؤشرات أن المساحات الخضراء تزيد من قيم العقارات، وإعادة التحوّل المالي لمطوّري الأراضي بنسبة تتراوح بين 5-15% بحسب نوع المشروع . فمثلًا أدى تجميل سنغافورة وماليزيا، والاهتمام بالغطاء النباتي إلى جذب استثمارات أجنبية كبيرة ساعدت على النمو الاقتصادي.[2]
على مستوى المجتمع
يلبّي الناس معظم احتياجاتهم الترفيهية داخل المنطقة التي يعيشون فيها، وتوفّر المساحات الخضراء مكانًا مناسبًا لهم. على سبيل المثال؛ أشارت دراسة أجريت في هلسنكي عاصمة فنلندا إلى أن أغلب السكان -حوالي 97% منهم- يشاركون في أنشطة ترفيهية في الهواء الطلق خلال العام. ويقوم نصف النزلاء بزيارات في الهواء الطلق على أساس يومي أو كل يومين. أيضًا تستقطب حديقة Chapultepec في المكسيك 3 ملايين زائر في الأسبوع يستمتعون بمجموعة واسعة من الأنشطة الترفيهية.[2]
يؤثر الغطاء النباتي على الصحة البدنية للإنسان، ويقلّل عمومًا مستوى الإجهاد والضغط. وقد أظهرت دراسة أن المرضى الذين واجهت غرفهم الحديقة في المستشفيات، كان شفاؤهم أسرع بنسبة 10% واحتاجوا إلى 50% دواء أقل قوة لتخفيف ألمهم مقارنةً مع المرضى الذين واجهت غرفهم جدار المبنى.[2]
يؤثر تدهور البيئة في الأحياء السكنية سلبًا على شعور السكان بالأمن، وقد يزيد من احتمال حدوث الجرائم. وتفيد دراسة أمريكية أن تخضير المدن قد يقلّل ذلك، ويرافق ذلك زيادة في النشاط البدني حيث يميل الناس إلى ممارسة الرياضة في بيئة أكثر نظافةً، واخضرارًا، وأمانًا. بالإضافة إلى ذلك، توفّر المساحات الخضراء فرصًا للتفاعلات الاجتماعية مما يساعد في الحد من العزلة، ويعتبر هذا العامل مهمًا بشكل خاص لفئات المسنين.[3]
لماذا يقصد الناس المساحات الخضراء؟
يهتم المخطّطون لفهم سبب ذهاب الناس إلى المساحات الخضراء، وهي أسباب متنوعة على نحو لا يثير الدهشة. وغالبًا ما يكون الغطاء النباتي مكانًا لممارسة الرياضة والنشاط البدني سواءً على أساس فردي أو جماعي. وتشمل الاستخدامات الأخرى الاسترخاء، والحد من الإجهاد أو التواصل مع الطبيعة، أو طريق للتنقّل. ولا يرى جميع المستخدمين المساحات الخضراء بنفس الطريقة، نتيجةً لذلك يستوجب على المخطّطين دراسة تنوّع الأسباب من أجل الوصول إلى التخطيط العمراني الفعّال.[3]
أشارت دراسة أسترالية أن الفئات المختلفة للمستخدمين تمتلك متطلبات مختلفة من المساحات المفتوحة. على سبيل المثال؛ قد يجد البعض أن المسطّحات المائية هادئة، وجذابة في حين قد ينظر إليها آباء الأطفال الصغار على أنها خطر على سلامة أطفالهم.[3]
محدّدات استخدام المساحات الخضراء العامة
تعتبر محدّدات استخدام المساحات الخضراء العامة معقدةً، ومترابطةً، ومتغيرةً كما يحدد حجمها كيفية استخدامها حيث أن المساحات الأكبر تكون عرضةً أكثر للاستخدام في الرياضة. بينما تستخدم المساحات الأصغر في المقام الأول من أجل الراحة والتفاعل الاجتماعي. ذكرت بعض الدراسات كذلك أهمية الوصول إلى المساحات الخضراء، واعتبرت أن المسافة المثلى للوصول تكون أقل من 0.5 كم أو 5 دقائق للمشي. كما أن سهولة الوصول مهمة مثل وجود مسارات للدراجات، والحد الأدنى من العوائق كعدم الحاجة إلى عبور طرق مزدحمة. مثلًا أظهرت دراسة في أودنسي في الدنمارك أن 46% من المستطلعين لم يستخدموا المسطّح الأخضر الأقرب إليهم، بينما وجدوا أن الذين أنجبوا طفلًا دون 6 سنوات، أو يرعون كلبًا، أو يعانون من صحة سيئة هم أكثر احتمالًا لاستخدام أقرب مساحة خضراء إليهم.[3]
تعد مفاهيم النظافة، والأمن، والسلامة محدّدات مهمة، إذ غالبًا ما ترتبط المساحات العامة المهجورة بأنشطة بغيضة مثل القمار غير القانوني، والتشرد، والبغاء فضلًا عن الجريمة، والتخريب. مما ينعكس سلبًا على بعض فئات المستخدمين ولاسيما النساء، والأطفال، والمسنين. بالإضافة إلى ذلك، تلعب مشاعر التماسك الاجتماعي دورًا مهمًا في لجوء الأفراد إلى الحدائق العامة، وقد تكون المجموعات العرقية والأقليات أقل احتمالًا لاستخدامها. [3]
مستقبل مستدام للمدن
في إطار السعي إلى تحقيق التنمية الحضرية المستدامة يبرز الدمج بين الهندسة المعمارية والمساحات الخضراء كأداة قوية لإنشاء مدن فعّالة، ونابضة بالحياة، وشاملة للجميع. فلا يكمن مستقبل العمارة في المباني الشاهقة، وناطحات السحاب فحسب بل في التكامل السلس للطبيعة مع المنشآت المبنية.
المصادر
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :