Ad

يستخدم القُراء الكبار اليوم أجهزة الكمبيوتر على نطاق واسع لسنوات عديدة. ومع ذلك، عندما يحتاج المرء إلى دراسة نص ما بشكل شامل، لا يزال هناك تفضيل قوي تجاه المحتوى الورقي عن المحتوى الرقمي المباشر من شاشة الكمبيوتر. يمكن للمرء أن يفترض أن هذا التردد هو مسألة تجربة. ومع ذلك، حتى مستخدمي الكمبيوتر ذوي الخبرة العالية ما زالوا يفضلون الطباعة. و في دراسة استقصائية أجريت عام 2011 لطلاب الدراسات العليا في جامعة تايوان الوطنية، ظهر اتجاه مفاجئ، حيث أفاد غالبية هؤلاء الطلاب أنهم عادة ما يتصفحون بضع فقرات فقط من موضوع ما عبر الإنترنت قبل طباعة النص بأكمله لقراءة أعمق.

منذ تسعينات القرن العشرين، و يشتعل سجال بين مدرستين فكريتين حول موضوع النصوص الإلكترونية. الأول يرى أن الورق أفضل بكثير ولن يتم استبداله بالشاشات أبدًا. و يتم دعم هذه الحجة في كثير من الأحيان بالإشارة إما إلى نوع سيناريوهات القراءة التي قد يكون من الصعب (وقتها)، إن لم يكن من المستحيل، دعمها بشكل مقبول بالنص الإلكتروني، على سبيل المثال، قراءة صحيفة على الشاطئ أو مجلة على السرير، أو الصفات اللمسية الفريدة للورق. أما المدرسة الثانية ففضلت استخدام النص الإلكتروني، مشيرة إلى سهولة التخزين والاسترجاع، وتوفير الموارد الطبيعية كحوافز رئيسية. وتري وفقًا لهذا المنظور، سيحل النص الإلكتروني قريبًا محل الورق، وفي وقت قصير سنقرأ جميعًا من الشاشات كنوع من العادة.

منذ ذلك الحين، تعمقت موجة من الأبحاث في الفروق الدقيقة بين القراءة على الورق مقابل الشاشات. لقد استكشفت أكثر من مائة دراسة، تشمل علم النفس وعلوم الكمبيوتر وعلوم المكتبات والمعلومات، هذه الاختلافات. و تشير النتائج باستمرار إلى أن القراءة على الشاشات تبطئنا وتعيق قدرتنا على الاحتفاظ بالمعلومات. ومع ذلك، مع التقدم في تكنولوجيا الشاشات، تكشف الأبحاث عن صورة أكثر دقة. على الرغم من هذه التطورات، تشير الدراسات الاستقصائية الأخيرة إلى أن الورق يظل الوسيلة المفضلة لمهام القراءة المركزة.

كيف يفسر الدماغ اللغة المكتوبة؟

لعلك تساءلت يوما، كيف يمكن لأدمغتنا تحويل خليط من التمايلات الموجودة على صفحة إلى عالم من المعرفة؟ إن فك رموز اللغة المكتوبة إنجازًا رائعًا يتم تنسيقه بواسطة شبكة معقدة في دماغنا، تقع بشكل أساسي في النصف الأيسر من الدماغ.

تبدأ الرحلة في القبو البصري، وهو مكان عميق في الجزء الخلفي من دماغك يسمى الفص القذاليoccipital lobe“. هنا، يتم التعرف على الحروف والكلمات لأول مرة. بعد ذلك، ينتقل التحقيق إلى تقاطع حرج حيث يلتقي الفص الصدغيTemporal lobe” والقذالي. هذا هو التلفيف الزاويangular gyrus“، وحدة فك التشفير الرئيسية للدماغ. هنا، يتم تحويل الحروف المكتوبة إلى الأصوات المقابلة لها بناءً على معرفتك بالصوتيات وقواعد التهجئة. تتجه الحالة الآن إلى منطقة بروكا “Broca’s area“، وهي منطقة تقع في الجزء الأمامي من دماغك. تشبه منطقة بروكا مكتبة عقلية عملاقة، مليئة بالتعريفات وتاريخ عدد لا يحصى من الكلمات. حيث تساعد على تنشيط المعرفة المخزنة بالكلمات ومعانيها.

وأخيرًا، تتجمع القطع معًا في منطقة فيرنيك “Wernicke’s area“، وهي جزء حيوي آخر من الفص الصدغي. وتعتبر منطقة Wernicke هي العقل المدبر، و الذي يجمع كل شيء معًا. فهو يأخذ الأصوات والمعاني من مكتبة بروكا، إلى جانب معلومات حول بنية الجملة (مثل القواعد)، ويبني صورة كاملة لما تحاول الرسالة قوله.[1]

هل نولد قارئين مفضلين المحتوى الورقي عن المحتوى الرقمي ؟

على عكس القدرات المعرفية الأخرى، القراءة ليست شيئًا نولد به. وذلك لأن الكتابة هي اختراع حديث نسبياً في تاريخ البشرية التطوري، ظهر حوالي عام 4000 قبل الميلاد. ونتيجة لذلك، يجب على أدمغتنا أن تتكيف مع الدوائر العصبية الموجودة للتعامل مع هذه المهارة الجديدة أثناء الطفولة. يتم تجميع هذه الدائرة المبتكرة معًا من مناطق مختلفة من الأنسجة العصبية في الدماغ المخصصة بالفعل لوظائف أخرى، مثل الكلام والتنسيق الحركي والرؤية.

إن أدمغتنا متعددة الاستخدامات بشكل لا يصدق، فهي قادرة على تكييف الشبكات العصبية الموجودة لخدمة أغراض جديدة. مثلما تتخصص مناطق معينة في الدماغ في التعرف على الأشياء، مما يسمح لنا بالتمييز الفوري بين التفاحة والبرتقالة بناءً على سماتها المميزة وتصنيفهما على أنهما فاكهة، فإن أدمغتنا تتكيف أيضًا مع مهمة القراءة والكتابة. عندما نتعلم القراءة، نبدأ في التعرف على الحروف بناءً على ترتيباتها الفريدة من الخطوط والمنحنيات والمساحات – وهي عملية تتضمن مدخلات بصرية وملموسة. وفي دراسة أجريت على أطفال في سن الخامسة، وجد <ستانيسلاس ديهين> من جامعة هارفارد أن دوائر القراءة تنشط عندما يكتب الأطفال الحروف باليد، بدلا من كتابتها على لوحة المفاتيح. وبالمثل، عند قراءة النصوص المعقدة، حيث يحاكي الدماغ حركات الكتابة حرفًا تلو الآخر، حتى في غياب حركات اليد الفعلية.[2]

طبوغرافيا وخرائط ذهنية للنصوص

اقترح كلا من <ستيفن باين> و <ويليم ريدر> في دراسة نشرت عام 2006 في مجلة “International Journal of Human-Computer Studies” أنه في العديد من سياقات استخدام النص، يحتاج الأشخاص إلى استشارة التمثيل العقلي للتخطيط بين محتوى المستندات وبنيتها. و لقد قاموا بإعداد ثلاث تجارب تبحث في بناء واستخدام مثل هذه “الخرائط الهيكلية” أو ” الخرائط الذهنية”. في كل تجربة، قرأ الأشخاص نصوصًا متعددة عبر الإنترنت حول نفس الموضوع، ثم بحثوا عن أجزاء محددة من المعلومات في تلك النصوص. وتمت مقارنة أداء البحث مع الأشخاص الذين لم يقرؤوا النصوص.[3]

كان الأشخاص الذين قرأوا نصوصًا متعددة، إلى حد ما، قادرين على تذكر مكان وجود المعلومات في النصوص كما هو موضح في المواقع التي بحثوا فيها لأول مرة أو عدد الصفحات المفتوحة أثناء البحث. وجدوا أيضًا أن قُرَاء النصوص المتعددة كانوا قادرين على العثور على الحقائق في تلك النصوص بشكل أسرع من الأشخاص الذين لم يقرؤوا النصوص، وأن هذا التسريع لم يكن تأثيرًا بسيطًا للقراءة الأسرع أثناء البحث عن الحقائق أو معرفة أكبر بالموضوع العام.

حدثت هذه التأثيرات العرضية للقراءة سواء تم تحذير المشاركين قبل القراءة أم لا بأنهم سيضطرون لاحقًا إلى البحث في النصوص ولن يتعرضوا للخطر بسبب التحولات في مظهر النص (عمود مزدوج إلى عمود واحد) التي عطلت مواضع الحقائق على الصفحات. وتم الاستنتاج بأن القراء يقومون تلقائيًا ببناء خرائط ذهنية لنصوص إلكترونية متعددة، حتى عندما يركز هدف قراءتهم على تجريد المعنى عبر المصادر. و من المحتمل أن تلعب الخرائط الهيكلية دورًا حيويًا في العديد من جوانب استخدام النص، مثل إعادة القراءة وتحديث المعرفة.

ولنجعل الاستنتاج أكثر بساطة. تخيل غابة خضراء ذات مسار متعرج. أثناء التنزه سيرًا على الأقدام، ستلاحظ وجود مزرعة حمراء نابضة بالحياة على حدود رأس المسار، يليها جبل شاهق. وبالمثل، عندما تنغمس في رواية مثل رواية “كبرياء وتحامل” ل<جين أوستن>، يمكنك أن تتذكر بوضوح توبيخ السيد <دارسي> ل<إليزابيث> أثناء الرقص، المحفور في الزاوية اليسرى السفلية من الصفحة اليسرى في الفصل الثاني.

و على عكس النص الرقمي، توفر الكتب المادية تضاريس مميزة تساعد في تكوين الذاكرة وهو ما يدعي ب “Haptic attributes“. يقدم الكتاب المفتوح نفسه كمشهد طبيعي يحتوي على حقلين بارزين – الصفحات اليمنى واليسرى – وثمانية زوايا إرشادية. يتيح لك هذا التخطيط الملموس التركيز على صفحة واحدة دون إغفال السياق العام. ويمكنك أيضًا الشعور بسمك الصفحات التي قلبتها، والتمييز بين المقروءة وغير المقروءة. إن تقليب الصفحات يشبه ترك أثر من آثار الأقدام، فكل صفحة علامة على طول رحلتك الأدبية. هذا السجل المادي للتقدم لا يسهل التنقل فحسب، بل يعزز أيضًا تكوين خريطة ذهنية متماسكة لمحتوى الكتاب. قد يدفع ذلك عقولنا مباشرة لتفضيل المحتوى الورقي عن المحتوى الرقمي على الفور.

يتجاوز العقل البشري مجرد معالجة الحروف الفردية كأشياء مادية. فهو يتمتع بقدرة رائعة على إدراك النص ككل، على غرار المشهد البصري. أثناء انشغالنا بقراءة مقطع ما، نقوم في نفس الوقت ببناء تمثيل ذهني له. على الرغم من أن الطبيعة الدقيقة لهذه التمثيلات لا تزال بعيدة المنال، إلا أن بعض الباحثين يعتقدون أنها تشبه الخرائط الذهنية التي ننشئها للتنقل في المساحات المادية، مثل المناظر الطبيعية مع الجبال والممرات أو البيئات الداخلية مثل الشقق والمكاتب.[3]

التنافر Haptic dissonance

تعتمد أدمغتنا بشكل كبير على اللمس (haptics) لفهم العالم. عندما نقرأ كتابًا ماديًا، فإن ملمس الورق، والوزن في أيدينا، وقلب الصفحة المُرضي، كلها تعمل معًا لخلق تجربة متعددة الحواس. وهذا يعزز ما نقرأه ويساعدنا في بناء صورة ذهنية أقوى للقصة. لكن الأجهزة الرقمية غالبا ما تفتقر إلى هذه العناصر اللمسية. يمكن أن تتعارض الشاشة الزجاجية الناعمة والصنابير الصامتة مع الصور التي نحاول بناءها في أذهاننا، مما يؤدي إلى انفصال – التنافر اللمسي ” Haptic dissonance“. هذا ليس مجرد إزعاج بسيط. حيث تشير الدراسات إلى أن التنافر اللمسي يمكن أن يعيق في الواقع فهمنا للقراءة والاستمتاع بها، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقصص التي تعتمد بشكل كبير على التفاصيل الحسية.[4] يزيد هذا التنافر من تفضيلنا المحتوى الورقي عن المحتوى الرقمي بالطبع.

وقد بين كلا من <كريشنا> و<مورين> (2008) بالتحقيق في تأثير التوجه اللمسي الفردي على تقييم المنتج. وبشكل أكثر دقة، قاموا بتحليل تقييم المياه المعدنية، المقدمة في أكواب أو زجاجات ذات جودة عالية أو منخفضة الجودة. ووجدوا أن عبوة المنتج أو حاوية التقديم يمكن أن يكون لها تأثير على أحكام جودة المياه. وأوضحوا أن نفس المحتوى، الذي يتم تسليمه في عبوة ذات لمسيات مختلفة، يمكن تقييمه بشكل غير متساوٍ من قبل العملاء. [5]

إجهاد وبطء في الفهم

تجربة مانجن

تشير الدراسات، مثل تلك التي أجراها <مانجن> وزملاؤه في جامعة ستافنجر النرويجية، إلى أن هذا التنافر اللمسي، وعدم التطابق بين إدراكنا البصري واللمسي، يمكن أن يعيق فهم القراءة. في دراستهم، طُلب من طلاب المدارس الثانوية قراءة نص سردي وتفسيري، نصفه على الورق ونصفه الآخر على ملفات PDF. وكان أداء أولئك الذين قرأوا على الورق أفضل، ربما لأنهم تمكنوا بسهولة من التنقل في النص بأكمله، وإنشاء خريطة ذهنية تساعد على الفهم.[6]

كما يوضح مانجن، “إن سهولة العثور على البداية والنهاية وكل شيء بينهما، بالإضافة إلى اتصالك المستمر بمسارك وتقدمك من خلال النص، قد يسمح لك بطريقة أو بأخرى بالاقتصاد في جهودك المعرفية واستثمار ما تبذله من جهد في تقوية قدرتك على الفهم.”

تجربة فيستلوند

في إحدى الدراسات التي أجراها الباحث <فيستلوند> من جامعة كارلستاد بالسويد، كان أداء المشاركين الذين أجروا الاختبار على الكمبيوتر أسوأ وأفادوا أنهم شعروا بالتوتر والتعب أكثر من أولئك الذين أجروا نفس الاختبار على الورق.

حيث تم إعطاء 82 متطوعًا اختبارًا لفهم القراءة على جهاز كمبيوتر، إما بصفحات مرقمة أو بالتمرير المستمر. ثم قام الباحثون بتقييم انتباههم وذاكرتهم العاملة، وهي القدرات العقلية التي تسمح لنا بتخزين المعلومات ومعالجتها بشكل مؤقت. وكان على المتطوعين إغلاق النوافذ المنبثقة بسرعة أو تذكر الأرقام الوامضة. ومن المثير للاهتمام، أنه في حين كان الأداء في اختبار القراءة نفسه متشابهًا بين المجموعتين، فإن أولئك الذين مرروا النص غير المرقم كان أداؤهم أسوأ في مهام الانتباه والذاكرة العاملة. و يعتقد <فيستلوند> أن التمرير، الذي يتطلب اهتمامًا مركزًا على كل من النص وإجراء التمرير، يستنزف موارد عقلية أكثر من الإجراءات الأبسط والأكثر تلقائية المتمثلة في قلب الصفحة أو النقر. كلما زاد تحويل الاهتمام إلى التنقل، قل ما تبقى للفهم.[7]

تأثير استبدال الورق بالشاشات فى سن مبكر

إن الدراسات الحديثة تشير إلى أن استبدال الورق بالشاشات في سن مبكرة قد يكون له آثار ضارة لا ينبغي إغفالها. ففي دراسة أجريت عام 2012 في مركز “كوني” في نيويورك، الذي شمل 32 زوجًا من الآباء والأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 3 إلى 6 سنوات، أن الأطفال الذين قرأوا قصصًا من الكتب الورقية كان لديهم تذكر أفضل للتفاصيل مقارنة بأولئك الذين استمعوا إلى نفس القصص من الكتب الإلكترونية التفاعلية مع الرسوم المتحركة. لقد أدت عوامل التشتيت الناتجة عن هذه الميزات الرقمية إلى تحويل انتباه الأطفال بعيدًا عن السرد ونحو الجهاز نفسه. وقد أيدت دراسة استقصائية لاحقة أجريت على 1226 من الآباء هذه النتيجة، حيث أشارت الأغلبية إلى أنهم وأطفالهم يفضلون الكتب المطبوعة على الكتب الإلكترونية عند القراءة معًا. وذلك لعد اضطرارهم على إيقاف قراءتهم الحوارية المعتادة مرارا وتكرارا لمنع أطفالهم من إضاعة الوقت في اللعب بالأزرار، الأمرالذي كان يؤدي إلى انقطاع سلسلة أفكارهم في سرد الحكاية.

المصادر

1-Psychologically speaking: your brain on writing

2-Universal brain systems for recognizing word shapes and handwriting gestures during reading

3-Constructing structure maps of multiple on-line texts

4-The development of haptic abilities in very young infants: From perception to cognition

5-INVESTIGATING THE ACCEPTANCE OF ELECTRONIC BOOKS – THE IMPACT OF HAPTIC DISSONANCE ON INNOVATION ADOPTIO

6-Reading linear texts on paper versus computer screen: Effects on reading

7-Experimental studies of human-computer interaction : working memory and mental workload in complex cognition

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]
ahmed kasem
Author: ahmed kasem

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


تطور أدب علم نفس

User Avatar

ahmed kasem


عدد مقالات الكاتب : 12
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *