Ad

اشتعلت الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرا بمظاهرات مناهضة للعنصرية وذلك بعد مقتل جورج فلويد، وهو رجل من العرق الأسود، على يد أحد رجال الشرطة. ورغم اعتبار أميركا إحدى أكثر الدول ديمقراطية وحرية، انتشرت أعمال عنف وشغب وتخريب بين المتظاهرين. يتناول مقالنا اليوم في ضوء هذه الأحداث سلوك الجماهير من وجهة نظر علم الاجتماع، كما سنناقش لماذا تأخذ الاحتجاجات السلمية منعطفا عنيفا؟

يندرج سلوك الجماهير في الاحتجاجات ضمن مايدعى في علم الاجتماع بالسلوك الجماعي، فماذا يعني ذلك؟!

يستخدم علماء الاجتماع هذا المصطلح لوصف السلوكيات البشرية العفوية نسبيا ضمن الحشود أو الحركات الاجتماعية أو أثناء الكوارث أو الأحداث الدارجة Trends or Fads أو في أوقات الذعر.

قد يبدو هذا التعريف سهلا لكنه في الحقيقة ليس كذلك، حيث نلاحظ أنه لا يصف ظاهرة أو مؤسسة محددة بعينها فالحشود تصف مجموعة من الناس أما الكوارث فهي حدث اجتماعي أو بيئي، أما الذعر فهو شعور أو حالة للفرد، أما الحركات الاجتماعية فهي نوع من المنظمات. وفي الحقيقة يطرح هذا التنوع تساؤلا هاما عما يربط هذه المجالات المختلفة مع بعضها؟!!

حسنا، يمكن أن نتفق أن السلوك الجماعي يصف المستجدات الطارئة على بيئة ما والغير محددة بقواعد ثقافية خاصة. لكي نوضح أكثر: فالكوارث البيئية حدث طارئ قد يخرج عن سيطرة المؤسسات المعنية ويهدد حياة الناس، فهنا إذا الحدث مستجد وتصرفات الأفراد بخصوصه ليست لها قواعد موضوعة مسبقا. أما التحركات الجماعية كتلك التي نجدها في المظاهرات: فقد تبدو منظمة لكنها حدث طارئ ولا يمكن التنبؤ بمساره وبالتالي ليست هناك قواعد محددة لسلوكيات الأفراد أو الجماعات ضمنه خاصة في حال حصول النزاعات.

حاول الباحثون على مدى سنين طويلة تفسير السلوك الجماعي عبر نظريات عدة ركزت أكثر على الحشود والحركات الاجتماعية وأعمال الشغب:

نظرية العدوى Contagion Theory

طور الباحث الفرنسي Gustave le Bon هذه النظرية عام 1895 حيث يطرح من خلالها أن السلوك الجماعي عاطفي وغير عقلاني وناجم عن تأثير الجماعة في الحشد. فعندما يكون الفرد لوحده يكون منطقيا، ولكن يصبح وكأنه منوم مغناطيسيا ضمن الحشود وبالتالي لايتحكم بوعيه وغرائزه ويمكن أن يصبح عنيفا ومتوحشا.

استمرت أصداء هذه النظرية حتى القرن العشرين، حيث تم نقدها من قبل باحثين اعتبروا أن السلوك الجماعي أكثر عقلانية مما اعتقده Le Bon، وأن الأفراد غير خاضعين للتأثير المعدي للحشد.

نظرية التقارب Convergence theory

تبعا لهذه النظرية فإن السلوك الجماعي ليس ناجما عن تأثير الحشود على الأفراد بشكل عاطفي، وإنما تقترح أن الحشد هو انعكاس للأفراد الذين ينضمون إليه. فعندما يطرأ حدث ما، سيرغب الأفراد بالتصرف بطريقة معينة و سيتقاربون مع اولئك الذين يشاركونهم المشاعر والرغبات ليعكس بذلك الحشد المتشكل منهم معتقداتهم.

على سبيل المثال، عندما يجتمع أفراد متطرفون دينيا، فقد يرتكبون أعمال عنف بدافع الكراهية تجاه مجموعات أخرى.

قد لا يقوم الفرد لوحده بأعمال العنف هذه، ولكن كما نجد في هذه النظرية فإن عنف الحشد في مثالنا السابق انعكاس لمعتقدات أفراده.

نظرية المعيارية الناشئة Emergent Norm Theory

تبعا ل Ralph H. Turner و Lewis M. Killian الذين عرضا هذه النظرية في منتصف القرن العشرين، لا يكون الناس أثناء التفاعل في السلوك الجماعي متأكدين من كيفية التصرف. وبينما يناقشون سلوكهم المحتمل والمسائل الأخرى ذات الصلة، تظهر القواعد التي تحكم سلوكهم، ومن ثم يقوم الانضباط الاجتماعي والعقلانية بتوجيه السلوك.

إذا تعتبر هذه النظرية السلوك الجماعي أكثر عقلانية من نظرية العدوى. لكنها تنظر إليه على أنه أقل قابلية للتنبؤ به مما تقترحه نظرية التقارب، حيث تفترض أن الناس لا يتشاركون بالضرورة المعتقدات والنوايا قبل انضمامهم إلى الحشد.

نظرية القيمة المضافة Value-Added Theory

طرح Neil Smelser هذه النظرية عام 1963 لتصبح أكثر تفسيرات السلوك الجماعي شيوعا وتأثيرا. وتقترح نظرية القيمة المضافة أن الحركات الاجتماعبة وأشكال السلوك الجماعي الأخرى تظهر فقط عند ظهور عدة حالات معينة ك:

الإجهاد الهيكلي Structural starain أو ما يمكن أن ندعوه كذلك بالضغط الاجتماعي: فالقيود الخاصة بهيكلية المجتمع قد تدفع الناس للغضب والإحباط وتشكيل حركات اجتماعية.

المعتقدات العامة: وهي المعتقدات التي يتشاركها الناس حول أسباب المشاكل وطرق حلولها، فإذا اجتمعوا على أن هذه المشاكل هي ذنبهم أو أن الاحتجاج لن يقوم بحلها، فلن يقوموا بالتظاهر.

ظهور عوامل طارئة: فالأحداث الفجائية قد تشعل فتيل السلوك الاجتماعي، كانتشار أخبار عن حوادث عنف للشرطة في المدن تجاه الناس.

نقص السيطرة الاجتماعية: يكون السلوك الجماعي أكثر احتمالا عندما لا يتوقع الأفراد الذين ينوون المشاركة القبض عليهم أو إيذائهم أو معاقبتهم.

تم انتقاد هذه النظرية لكونها غامضة فهي مثلا لا توضح مدى الضغط الاجتماعي الواجب وجوده حتى تظهر الحركات الاجتماعية. كما وجد أن السلوك الاجتماعي لا يقتصر على الشروط التي ذكرها Smelser.

حسنا، نأمل أن نكون قد وضحنا السلوك الاجتماعي وتفسيراته العامة قبل أن ننتقل لنقطة أكثر تحديدا: السلوك العدائي ضمن المظاهرات والاحتجاجات

لماذا تتحول الاحتجاجات السلمية إلى عنيفة؟!

حسنا سنقوم بتفسير أعمال العنف والشغب بناء على آراء العديد من الخبراء:

دور الشرطة في تحريض العنف:

لماذا تأخذ الاحتجاجات السلمية منعطفا عنيفا؟

إن ردة فعل الشرطة تجاه الاحتجاجات وعلاقتهم مع المجتمع المحلي مهمة جدا، حيث يمكن للعناصر المدربة جيدا تجنب حصول العنف في المظاهرات ومثالا على ذلك: انضمام عناصر الشرطة في كامدن ونيوجيرسي في أميركا للمحتجين في مسيرهم المناهض للعنصرية وذلك في سياق الأحداث الراهنة في الولايات المتحدة الأمريكية.

من جهة أخرى، يمكن أن تشعل عدة مواجهات بسيطة مع الشرطة فتيل التوتر، خصوصا مع كون الشرطة تتصرف بكلية (وحدة متجانسة) تجاه الحشود، مما قد يعزز فكرة ( هم ضدنا) في عقول المتظاهرين خاصة مع شعورهم بأن عنف الشرطة غير مبرر وقد يكسبهم شعورا بأن العنف بحد ذاته شرعي في مثل هذه الظروف.

إذا، هل تعتقد بعد كل هذا أن العنف في المظاهرات ناجم عن مجرد فعل ورد فعل بين الجماهير والشرطة؟ حسنا، قد يكون هذا أعقد من ذلك بقليل.

قام Jonathan Pinckney (وهو باحث في المقاومة غير العنيفة والديمقراطية والعنف السياسي) بدراسة بيانات من قاعدة بيانات الحملات العنيفة وغير العنيفة ونتائجها NAVCO 3.0 Dataset، وأيضا دراسة ثلاث حالات مقارنة، ليجد بذلك أن احتمال تحول التظاهرات السلمية إلى عنيفة يرتفع مع زيادة معدل القمع بشكل مستمر على فترة طويلة من الزمن. مما يوضح بأن هذه الانعطافات العنيفة ليست مجرد ردة فعل عاطفية، وإنما ناجمة عن تراكمات محسوبة داخل الوعي مع الزمن.

دور وجهات النظر الأخلاقية:

عندما نشاهد شيئا لا أخلاقيا، تتولد بداخلنا مشاعر قوية بوجوب حماية فهمنا للأخلاق

Marloon Moojiman: أستاذ مساعد في قسم السلوك المنظم في جامعة رايس

عندما تشعر أن شيئا أو نظاما ما معطلا، ستود أن تفعل شيئا صارما لتظهر أن ذلك غير مقبول. فعلى سبيل المثال: في الحالات المتطرفة من الشغب يظن شخص ما أن الإجهاض عمل مناف للأخلاق، فيقوم بحرق عيادة للإجهاض. وقس على ذلك.

وإن لوسائل التواصل الاجتماعي في زمننا الحالي دورا في إكساب القضايا صفة أخلاقية وتصعيد وتيرة العنف. وفي هذا السياق قام باحثون في معهد Brain and creativity بدراسة على 18 مليون تغريدة على تويتر في فترة الاحتجاجات في بالتيمور 2015، حيث ارتفعت معدلات الاعتقال عند رواج التغريدات ذات الخطاب الأخلاقي وتضاعف العنف تقريبا بالتزامن مع انتشار ذلك الخطاب.

التنازلات الحكومية:

تبعا ل Jonathan Pinckney، ترتبط التنازلات الحكومية بانهيار حالة السلم، ربما لأنها تقسم الحركات إلى معتدلين ومتطرفين. حيث يحاول المتطرفون إثبات أنفسهم من خلال العنف.

دور التنظيم:

قد تظن أن الحملات الأكثر تنظيما هي الأكثر سلمية، تبعا ل Pinckney فإن البيانات تشير لعكس ذلك، فالحملات ذات الهيكلية الهرمية والغير واضحة الخلافات أكثر عرضة للعنف من تلك ذات الهيكلية المتوازية ( غير الهرمية) والتي توضح خلافاتها السياسية. حيث أن روح المشاركة والنقاش تسهل من الحفاظ على حالة السلم.

النهب والتخريب كجزء من الاحتجاج:

كثيرا ما نتساءل عن سبب النهب والتخريب في الاحتجاجات، وحسب الباحثين قد يكون هذا الفعل جزءا من الاحتجاج.

تبعا ل بروفسور Clifford Stott ( خبير في سلوك الجماهير وشرطة النظام العام في جامعة كيلي) فإن ” النهب تعبير عن القوة، فمثلا قد يشعر الشرطة المواطنين السود بانعدام القوة، لذا يصبحون أكثر قوة من الشرطة أثناء أعمال الشغب”.

وأيضا يناقش Stott أن دراسات لأعمال شغب سابقة تشير لكون المحلات التي يتم نهبها تابعة لأعمال كبرى، وهنا برتبط النهب بالشعور بعدم المساواة في مجتمع رأسمالي.

ما يؤيد وجهة النظر هذه قيام المتظاهرين في أعمال الشغب في لوس أنجلوس عام 1992 بطلاء محلات الأقليات بطلاء خاص ليتجنب الناس تخريبها.

إذا، ترتبط أعمال النهب والتخريب بعاطفية الأحداث ونمطها بالنسبة للناس. حيث قد يميل الناس في الأحداث السياسية الصرفة التي لا تنطوي على التمييز الاجتماعي للصدام مع الشرطة أو تحطيم نوافذ المحال، لكن قد لا يقومون بالنهب.

بالتأكيد، الأمر معقد وخاصة مع اختلاف دوافع الناس وفروقاتهم الفردية، فقد يتم استغلال الأحداث من قبل الفئات الإجرامية المشاركة.

المصادر:

MIT

UMN

Political Violince at a glance

Psychological today

BBC

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فلسفة سياسة

User Avatar

Samra Nofal


عدد مقالات الكاتب : 21
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق