إن وجود مستعمرة بكتيرية متلألئة وملونة تعكس الضوء مثل مرآة مصغرة. هي دليل على ظاهرة التقزح اللوني وهي ليست ظاهرة مقتصرة على الفراشات أو الطاووس فقط. وقد كشف فريق دولي من الباحثين من مجموعة التميز (Balance of the Microverse) في جامعة جينا، بالتعاون مع العديد من المؤسسات المرموقة، عن الآلية الجينية وراء إمكانية عكس الضوء في بعض أنواع البكتيريا دون أصباغ. وتكشف دراستهم الرائدة، المنشورة في (Proceedings of the National Academy of Sciences)، عن روابط بيئية مهمة لها آثار على تطوير وصناعة أصباغ من البكتيريا والمواد الصديقة للبيئة.
محتويات المقال :
أسرار التقزح اللوني
يعد التقزح اللوني (Iridescence)، وهو ظاهرة آسرة حيث ينحني الضوء وينعكس، أحد عجائب العالم الطبيعي المعروفة. من أجنحة الفراشات المتلألئة إلى ريش الطاووس، انبهر البشر منذ قرون بالتقزح اللوني. لكن هل تعلم أن هذا التأثير الساحر لا يقتصر على الحيوانات؟ في الواقع، يمكن لبعض الكائنات الحية الدقيقة، مثل أنواع معينة من البكتيريا، أن تظهر أيضًا التقزح اللوني، وإن كان ذلك من خلال آليات مختلفة تمامًا.
إذًا، ما هو السر بالضبط وراء هذا السحر؟ للإجابة على هذا السؤال، دعونا نتعمق في عالم البصريات والفيزياء. عندما يضرب الضوء سطحًا ما، فإنه إما يتم امتصاصه، أو ينعكس، أو ينكسر. وفي حالة الكائنات الحية الملونة، تتسبب الهياكل الصغيرة الموجودة على سطحها في انحناء الضوء وانعكاسه بطريقة معينة، مما يؤدي إلى خلق وهم تعدد الألوان. يتم ترتيب هذه الهياكل الدقيقة، التي غالبًا ما يكون حجمها مجرد نانومتر، في نمط دقيق ومتكرر، يُعرف باسم محزز الحيود (Diffraction grating). وتعمل هذا الشبكة كمنشور، حيث يُفصل الضوء الأبيض إلى الألوان المكونة له وينثرها في اتجاهات مختلفة، وبالتالي يخلق ظاهرة التقزح اللوني.
تاريخ موجز للتلوين الهيكلي
إن قدرة بعض الكائنات الحية على عكس الضوء دون استخدام الأصباغ ليست ظاهرة جديدة. في الواقع، كانت الطبيعة تعمل على إتقان هذا الفن منذ ملايين السنين. التلوين الهيكلي (Structural coloration)، كما هو معروف علميًا، هو نتيجة للتفاعلات المعقدة بين الضوء والمواد والبنى المجهرية. وقد لوحظت هذه الظاهرة الرائعة في كائنات مختلفة.
تعود إحدى أقدم الملاحظات المسجلة عن التلوين الهيكلي إلى القرن السابع عشر، عندما وصف العالم الهولندي أنتوني فان ليفينهوك لأول مرة التقزح اللوني في بعض الكائنات المجهرية. ومنذ ذلك الحين، يحاول العلماء كشف الأسرار الكامنة وراء هذه الظاهرة، مدفوعين بفضول عميق حول العلاقات المعقدة بين الضوء والمادة والطبيعة.
لقد حقق المجتمع العلمي تقدمًا كبيرًا في فهم آليات التلوين الهيكلي في العقود الأخيرة. حيث اكتشف الباحثون أن بعض الحشرات، مثل فراشة مورفو مينيلوس الأزرق، لديها قشور مجهرية على أجنحتها تكسر الضوء، مما يخلق وهم اللون. كما أن ريش الطاووس المتلألئ يحتوي على هياكل بلورية مجهرية تعكس الضوء وتخلق ألوان مميزة.
فك الشفرة الوراثية للبكتيريا الملونة
لكشف لغز البكتيريا الملونة، شرع الباحثون في رحلة وراثية. وقاموا بفك تشفير الحمض النووي لـ 87 بكتيريا ملونة هيكليا و30 سلالة عديمة اللون، بهدف تحديد الجينات المسؤولة عن هذه الظاهرة المبهرة. وأدى هذا التحليل الجيني إلى اكتشاف رائد، وهو تحديد الجينات المسؤولة عن تنظم تكوين هذه الهياكل العاكسة للضوء.
وقام الباحثون بتدريب نموذج ذكاء اصطناعي للبحث عن الأنماط والروابط بين الشفرة الوراثية وقدرة البكتيريا على إنتاج الألوان. وقد مكّن هذا الاستكشاف المدعوم بالذكاء الاصطناعي الفريق من تحليل عدد مذهل من الجينومات والعينات البيئية، وكشف الأسرار الخفية لهذه الأعاجيب المجهرية.
يحمل الرمز الجيني، الذي يشار إليه غالبًا باسم مخطط الحياة، التعليمات الخاصة بتطور الكائن الحي ووظيفته. ومن خلال فك هذا الرمز، كشف الباحثون عن الآلية الوراثية وراء المستعمرات البكتيرية الملونة. وهذا الفهم الجديد له آثار بعيدة المدى، لأنه يمكن أن يمهد الطريق لتطوير تقنيات مستدامة مستوحاة من الطبيعة. ويفتح اكتشاف هذه الجينات فرصًا لصناعة مواد وأصباغ جديدة وصديقة للبيئة من البكتيريا، والتي يمكن أن تحدث ثورة في مختلف الصناعات.
الكشف عن الروابط البيئية المخفية
وجد العلماء أن الجينات المسؤولة عن اللون الهيكلي توجد بشكل رئيسي في المحيطات والمياه العذبة والمواطن البيئية الخاصة مثل البحر الوحلي (intertidal zone) ومناطق أعماق البحار.
ولكن لماذا تكون هذه الجينات أكثر انتشارًا في بيئات معينة؟ تكمن الإجابة في التحديات الفريدة التي تطرحها هذه البيئات. ففي مناطق أعماق البحار، على سبيل المثال، يكون ضوء الشمس نادرًا، ويجب على البكتيريا أن تعتمد على طرق بديلة للبقاء على قيد الحياة. واتضح أن ظاهرة التقزح اللوني قد لا تكون للعرض فقط. ويمكن أن تلعب دورًا حاسمًا في حماية البكتيريا من الفيروسات، أو مساعدتها على استعمار جزيئات الطعام العائمة بشكل أكثر كفاءة.
هذه النتائج لها آثار كبيرة على فهمنا للعلاقات المعقدة بين الكائنات الحية الدقيقة وبيئاتها. ومن خلال الكشف عن الروابط البيئية الخفية وراء البكتيريا الملونة، فتح الباحثون آفاقًا جديدة للاستكشاف. على سبيل المثال، هل يمكن استخدام هذه الهياكل الطبيعية لتطوير تقنيات أكثر استدامة لإنتاج الغذاء أو المراقبة البيئية؟
مستقبل التقنيات المستدامة
التطبيقات المحتملة واسعة ومتنوعة. على سبيل المثال، يمكن لصناعة أصباغ من البكتيريا والمواد الصديقة للبيئة أن تحل محل البدائل الاصطناعية الملوثة المستخدمة في صناعة النسيج. فارتداء ملابس لا تبدو مذهلة فحسب، بل تقلل أيضًا من تأثيرنا على البيئة مهم. علاوة على ذلك، يمكن استخدام هذه الهياكل الطبيعية لإنشاء خلايا شمسية أكثر كفاءة، وشاشات عرض.
إن هذا الإنجاز يمكن أن يؤدي أيضًا إلى تطوير مواد حيوية جديدة تحاكي خصائص هذه البكتيريا الملونة. تصور زرعة طبية يمكن ضبط لونها للإشارة إلى التغيرات في الجسم، أو عدسات لاصقة يمكنها اكتشاف مستويات الجلوكوز في الوقت الفعلي. الاحتمالات لا حصر لها، وكل ذلك بفضل الآليات المعقدة لمرايا الطبيعة.
ومع استمرارنا في استكشاف الروابط الخفية بين هذه الكائنات الحية الدقيقة وبيئاتها، فقد نكتشف تطبيقات أكثر إثارة للدهشة. فربما يمكن استخدام هذه الهياكل الملونة لتطوير استراتيجيات أكثر فعالية للكشف عن الفيروسات أو حتى إلهام طرق جديدة لتسخير الطاقة المتجددة.
المصدر:
Bacterial glitter: New findings open up possibilities for sustainable color technologies / phys.org
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :