عندما تسمع مصطلح “فن البوب” من بعيد، هل تعتقد أن علب الطماطم والكثير من وجوه مارلين مونرو المكررة هم ما يعبرون عنه؟ فكر مرة أخرى عزيزي القارئ، فهم ليسوا سوى جزءٍ صغيرٍ من القصة.
ظهرت الحركة الفنية المسماة بـ “فن البوب” في أواخر خمسينيات القرن الماضي وازدهرت في الستينيات في أمريكا وبريطانيا، ويعتبر مصطلح فن البوب pop-Art اختصارًا لكلمة Popular أي شعبي. فهي مستوحاة من الثقافة الشعبية والتجارية. وقد بدأت كتمرد ضد الفن والثقافة والآراء التقليدية عن الفن وكيف يجب أن يكون، وابتعد عن الموضوعات التقليدية كالأساطير والتاريخ الكلاسيكي، كعادة جميع الحركات الفنية الحديثة.
وقد انتشر حول العالم بعيدًا عن كونه ظاهرة فنية أمريكية بحتة. وإن تميزت تلك الفترة بالنمو الاقتصادي في أمريكا، فقد تميزت أيضًا بالاضطرابات الاجتماعية حول العالم. فقد عانت البلدان من تداعيات الحرب العالمية الثانية. وحين احتد الصراع في فيتنام، كان صعود الشيوعية يسبب بدوره الذعر، مما أدى إلى نشوء بيئة خصبة مكنت الفنانين من السخرية من السياسيين والنجوم وحتى الفنانين الآخرين.
ذلك بالإضافة لشعور الفنانين الشباب أن ما تعلموه في أكاديميات الفنون والمتاحف لا علاقة له بحياتهم، مما أدى إلى استخدامهم للأشياء الشائعة في الحياة اليومية؛ كأفلام هوليوود وملصقات الإعلانات وأغلفة المنتجات وموسيقى البوب والكتب المصورة في لوحاتهم، وقد أدى ذلك إلى ارتقائهم بالثقافة الشعبية إلى مستوى الفنون الجميلة.
وقد أصيب النقاد بالرعب من استخدام فناني البوب لتلك الموضوعات “المتدنية”، فقد أخذوا الفن إلى مجالات جديدة وطوّروا طرقًا عديدة لتقديمه. وبعد شعبية التعبيرية التجريدية، كان فن البوب بمثابة تحول كبير في اتجاه الفن الحديث، ويعتبر من أهم المظاهر الأولى لما بعد الحداثة.
ومن أهم مميزاته أنه كان سليلًا لفن “الدادا“، وهي حركة ظهرت في عشرينيات القرن الماضي والتي سخرت من جدية الفن الباريسي المعاصر والأوضاع السياسية والثقافية. وقد حاول “مارسيل دوشامب” -رائد مدرسة الدادا في الولايات المتحدة- تضييق المسافة بين الفن والحياة اليومية، ويعتبر الشخصية الأكثر تأثيرًا في تطور فن البوب.
أما أعمال فناني البوب أمثال “روي ليختنشتاين” و”آندي وارهول ” و”كلايس أولدنبورغ” و”توم ويسلمان” و”ديفيد هوكني” و”بيتر بليك” فقد تميزت من بين آخرين بتصويرهم لجميع جوانب الثقافة الشعبية التي أثرت بقوة على الحياة المعاصرة. فقد قدموا أيقوناتهم – المأخوذة من التلفزيون والكتب المصورة وملصقات الأفلام كما هي دون تجميلٍ أو تقبيح، واستعارتها من وسائل الإعلام بنفس التقنيات التجارية المستخدمة.
وكان من أكثر الأشكال لفتًا للنظر هي نسخ “روي ليختنشتاين” للرسومات الهزلية باستخدام النقاط الملونة والألوان المسطحة والتي تصلح للطباعة التجارية. بالإضافة إلى لوحات “آندي وارهول” والمطبوعات بتقنية Silk screen لمارلين مونرو وملصقات علب الطماطم والصابون، والصفوف المتكررة من زجاجات المشروبات الغازية.
ولم يبتعد النحت والتجهيز في الفراغ عن تلك الحركة الفريدة، فقد ظهرت بقوة المنحوتات البلاستيكية الناعمة لـ “كلايس أولدنبورغ” لأشياء مختلفة كالحمامات والآلات الكاتبة وشطائر الهامبرغر العملاقة! أما “جورج سيغال” فقد بنيت أعماله الفنية على عرض أشخاص بالحجم الطبيعي من الجبس موضوعة في بيئات فعلية، كطاولات غداء وحافلات تم أخذها من ساحات الخردة.
وقد بدأ غالبية فناني البوب حياتهم المهنية في الفن التجاري والإعلانات، وقامت خلفيتهم في عالم الفن التجاري بتدريبهم على المفردات المرئية للثقافة الجماهيرية، بالإضافة إلى تقنيات الدمج السلس بين عوالم الفن الرفيع والثقافة الشعبية.
وقد أدى استخدام فن البوب للأفلام والمشاهير وشخصيات الرسوم المتحركة إلى اقتحام عالم الفن وخلق جاذبية فنية فورية. وحقيقة أن أعماله الفنية لا تزال قوية وحيوية كما كانت عند إطلاقها؛ هي شهادة على أصالته وجاذبيته الدائمة.
فهو أسلوب تم تقليده إلى يومنا منذ ذلك الحين، بالإضافة لاستخدامه واستعارته في عدد لا يحصى من العروض الترويجية للطعام والشراب والرسوم الهزلية والبرامج والأفلام، مما يؤكد على كونه ثورة فنية كبيرة وأصيلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :