Ad

سلسلة أهم الفنانين على مر العصور “جيوتو”

في كل تغيير أياً كان نوعه لابد أن يكون له مؤسسين حتي تتبلور صفاته وملامحه التي سيتطور خلالها فيما بعد، وهذا بالضبط ما حدث في بداية عصر النهضة فقد حاول العديد من الفنانين الخروج من التقليدية والسطحية المصاحبة للفن البيرزنطي نحو مزيد من التجسيد والواقعية، ولكن لم ينجحوا في ذلك كما نجح جيوتو الذي استطاع أن يضيف عمق لأعماله وجعلها ثلاثية الأبعاد بمقاييس ذلك العصر حتى وكأن الواقف أمامها يستطيع أن يتلمسها بأنامله، ويشعر بها. فكان بذلك مؤثرا في عباقرة القرون التالية له مثل مايكل أنجلو وليونارو دافنشي.

نشأته وحياته:

اسمه جيوتو دي بوندوني ولد عام 1266 في بيئة ريفية بجانب فلورنسا حيث كان أبوه فلاحاً، وكان جيوتو يساعده في رعاية المزرعة وبحسب رواية فيرساري فقد تكشفت موهبة جيوتو منذ نعومة أظافرة حيث كان يرسم الخراف والزهور على الأحجر حتى رآه تشيمابويه -أحد أقوى الفنانين في ذلك الوقت- وهو يرسم، فطلب أن يأخذه تلميذاً عنده. إلا أن بعض المصادر تشكك في تلك القصة، وتعتبرها محض أسطورة فتقول أن عائلة جيوتو كانت ميسورة الحال واستطاعت أن تنتقل من الريف للحياة في فلورنسا وهناك تم إرسال جيوتو لتشيمابويه، وقد أظهر جيوتو براعة لا مثيل لها وهو لايزال تلميذاً.

وبعدها بفترة سافر تشيمابوية بصحبة تلميذه النجيب جيوتو إلى ميدنة أسيزي في إيطاليا لتزيين بازيليكا القديس فرنسيس، حيث كان هناك راهب ذائع الصيت اسمه فرنسيس اشتهر بحبه للخير والزهد. بعد وفاته تم جمع أموال التبرعات من الحجاج لتشييد مبني كبير في مدينة أسيزي تخليداً لذكراه، وكان هذا المبني هو البازيليكا المتكون من كنيستين الكبرى أو العليا للحجاج والصغرى أو السفلى للرهبان وشرع الفنانين لتزيين ذلك المبني بالغ الجمال، وبالطبع كان من بينهم تشيمابويه وتلميذه جيوتو، ويُنسب إلي جيوتو مجموعة من اللوح عن حياة القديس فرنسيس، ولكن حتي يومنا هذ لا يمكننا إثبات ذلك النسب بشكل لا يخالطه الشك؛ نتيجة لتضارب الوثائق وكذلك لاختلاف أسلوب تلك اللوح عن غيرها من أعمال جيوتو فيما بعد اختلافاً ملحوظاً. في حقيقة الأمر تلك اللوح كانت مختلفة عن أسلوب العصر وعن ما يجاورها من لوح في البازيلكا فقد امتازت بقدرة كبيرة جدا على التجسيد وإظهار المشاعر، وذلك كان ثورياً وقتها؛ فقد كان الفن اليزنطي المسيطر علي الساحه في ذلك الوقت يتميز بالجمود والرتابة ونقص القدرة التعبيرية وكانت شخوصه مسطحه لا توحي بأي تجسيد. أما ما فعله جيوتو هو أنه أضاف للعمل الفني العمق والجمال والقدرة التعبيرة الخلاقة بإضافته لبعد ثالث في اللوحه فاقتربت أكثر نحو الواقعية، والتأثيرالقوي.

بازيليكا القديس فرنسيس

وظل جيوتو يرسم العديد من الأعمال الإبداعية في مختلف الكنائس، وعمل في روما بين عامي 1297 و 1300 وهناك رسم بعض الأعمال الإبداعية مثل فسيفساء المسيح يمشي على الماء. ولكن منها من تأثر بقوة بعوامل التعرية وتم ترميمه مراراً. وعلي الأرجح أنه في تلك الفترة أيضاً رسم بعض الأعمال لدور العبادة بفلورنسا مثل لوحة صلب المسيح تلك التحفة الفنية المرسومة لكنيسة سانتا ماريا نوفيلا، ويبلغ طول تلك اللوحة خمسة أمتارتقريباً. وتقول بعض المصادر أن تلك التحفة الفنية تم رسمه في عام 1290 أي قبل ذهابه الي روما وكانت من اوائل أعماله بحسب رواية فيرساري.

صلب المسيح

اشتهر جيوتو أكثر وأكثر وطُلب منه العمل في العديد من الكنائس، وكانت من بينهم مصلي سكورفيني في مدينة بادوا padua. حيث كان هناك رجل مرابي اسمه سكورفيني سيئ السمعه لدرجة أن دانتي وضع اسمه في الدرجة السابعه من الجحيم. بعد وفاته أراد ابنه إرينكو أن يحسن صورته فبنى كنيسة باسم والده والتي لم تكن تحفة معمارية، ولكن ما فعله جيوتو بداخلها جعلها من أجمل ما يكون حيث قام جيوتو برسم حياة العذراء والمسيح في 37 لوحة. ورسم لوحة ضخمة جداً تُدعى الحساب الأخير تملأ جداراً كاملاً وحدها. فكانت تلك الكنيسة تحتوي على كنز فني حقيقي يمثل ما امتاز به جيوتو فعلاً وجعله يطلق العنان لإبداع عصر النهضة كما نعرفه. تلك الكنيسة تُسمى أيضا آريانا Arena ومعناها الحلبة لأنه تم تشييدها علي أنقاض حلبة مصارعه رومانية قديمه. وبعدها عام 1306 حتى عام 1311 عاد جيوتو مرةً أخرى إلى أسيزي التي رسم فيها مجموعة من اللوح عن حياة المسيح وغيرها في الكنيسة السفلى أو الصغرى بالبازيليكا. وبعدها انتقل جيوتو الي فلورنسا عام 1311 أو عام 1314 ومكث هناك حتي عام 1320 حيث قام بتزيين بعض المحاريب لأربع عائلات من فلورنسا في كنيسة الصليب المقدس Santa Croce. وتم استدعائه من قبل الملك روبرت ملك نابولي في ذلك الوقت للقيام ببعض الأعمال الفنية بمساعدة تلاميذه، وظل هناك حتي عام 1333 وقد حظى بتقدير كبير من الملك روبرت الذي أعطاه لقباً شرفياً وراتب تقاعد سنوي. وأخيراً ذهب جيوتو إلى فلورنسا وعمل هناك بالمعمار حيث شيد برج الأجراس الذي يعد جزء من مبني كاتدرائية فلورنسا وأيضاً حظى بتكريم كبير في فلورنسا؛ حيث أُطلق عليه لقب معماري المدينة نتيجة لأعماله المتميزة خاصةً في مجال الفن.

برج الأجراس

أبرز أعماله:

في حقيقة الأمر تمتلأ الكنائس الايطالية بجميل أعمال جيوتو وتتجلي فيه عبقريته بشدة، وهناك بعض الأمثلة التي قد تُظهر إبداعه القوي الذي تميز به بقوة.

القديس فرنسيس يخرج عن طوع أبيه:

سلسلة أهم الفنانين على مر العصور "جيوتو"

كان القديس فرنسيس شاباً في مقتبل عمره ووالده كان تاجراً، وفي أثناء مروره بجانب كنيسة سمع صوتاً من السماء يأمره بإصلاح الكنيسة فقام القديس بأخذ بعض البضائع من مخزن أبيه خفيةً ليبيعها لإصلاح الكنيسة، فغضب الوالد بشدة وذهب بابنه للقسيس حتي يطالب الفتي بالبعد عما فيه من نعيم والده. فقام القديس فرنسيس بخلع ملابسه قائلاً لأبيه (أنه متجه لخدمة ربه الذي في السماء) الأمرالذي أثر في القسيس بشدة فخلع عبائته حتي يغطي بها الفتي. وإذا نظرت للوحة ستجد أنه استطاع تمثيل كل تلك التفاصيل ببراعة شديدة مخرجا مشهداً درامياً قمة في الجمال، فيظهر القديس فرنسيس رافعاً يده للسماء شوقا لربه، ويقف أمامه أبوه الذي ارتسمت عليه ملامح القلق وقد أراد أن يزجر ابنه ولكن أحد الواقفين خلفه قد منعه. والملاحظ في تلك اللوحة أن جيوتو قد قسمها إلى جزئين الأمر الذي يدل على الفرق بين التلعق بالدنيا الممثل في الأب وجماعته، والتوجه للدين الممثل في القديس فرنسيس ومن خلفه ليبرز صراعاً قوياً يستحق الإعجاب، وكانت تلك اللوحة إحدى اللوح المنسوبة إليه في بازيليكا القديس فرنسيس بأسيزي.

أعماله في مصلي سكورفيني:

سلسلة أهم الفنانين على مر العصور "جيوتو"

كما ذكرنا من قبل تفصايل حكاية أعماله في مصلي سكورفيني قد بلغت قدراً عالياً جداً من الجمال فمثلاً لوحة الحساب الأخير تحمل تفاصيل غاية في الجمال والبراعه؛ مثل منظر الابن أرينكو في أسفل اللوحة وهو يهدي نموذج الكنيسة لرسل أو ملائكة الرب حيث قد نزل أرينكو علي ركبتيه في خشوع يظهر على وجهه عاكساً أفكاره، وعواطفه وقد حمل نموذج الكنيسة أحد أتباع أرينكو علي كتفه في نفس الوقت الذي يمد فيه أرينكو يده لأحد الملائكة كإشارة أنه تم قبول القربان الأمر الذي كان يرغب فيه أرينكو بشده.

سلسلة أهم الفنانين على مر العصور "جيوتو"

ولا ننسى أيضاً في كنيسة آرينا مجوعة لوح جيوتو عن الفضيلة والرذيلة التي لو اكتفي المشاهد بالنظر إليها لعرف بوضوح ما تتكلم عنه اللوحه، وفيما يدور موضوعها فمثلاً لو نظرت للوحة الممثلة لرذيلة الظلم: يظهر رجل ضخم، وقوي البنيان، وقد ارتسمت عليه ملامح السيطرة والكبر. وأمسك بسيف في يده وفي اليد الأُخرى ذات المخالب الظاهرة أمسك برمح وذلك تعبيراً منه عن القوة والكبر، ويظهر أسفل منه أتباعه من الجنود يجردون أحد المارة من ثيابه ويأخذون منه حصانه في مشهد لا يمكن وصفه بأي كلمة أخرى غير (الظلم).

سلسلة أهم الفنانين على مر العصور "جيوتو"

ولو نظرت إلى تمثيله لفضيلة الإيمان لوجدت الأمر نفسه فتظهر أنثى ممسكة ببردية أو مخطوطة، وفي اليد الثانية تمسك بالصليب فلا حاجة للمشاهد لأي شرح حتي يعرف أن تلك اللوحة تعبرعن “الإيمان”.

وفاة القديس فرنسيس:

كانت إحدى اللوح التي أبدعها جيوتو في كنيسة الصليب المقدس التي تتنوال موضوع وفاة القديس الزاهد فرنسيس، وعلى الرغم ما فعلته عوامل التعرية بتلك اللوحة التي تم ترميمها عدة مرات على مدار أعوام طويلة إلا أنها لازالت تحتفظ بجمالها، وقدرتها التعبيرية حيث يظهر القديس فرنسيس وجميع شخوص اللوحة متوجهة إليه حتي الصليب يميل في اتجاهه والجميع ينظرون لأسفل في شكل يدل على الحزن الشديد وقد حقق الفنان في تلك اللوحة وحدة بين الأشخاص والوحده المعمارية من خلفهم فهم يظهرون كأنهم جزء من الأعمدة في الخلفية، ومع ذلك المشهد الحزين يلتفت نظر المشاهد للشخص الموجود خلف رأس القديس فرنسيس الذي استثناه جيوتو من بين باقي عناصر اللوحة وجعله ينظر إلى أعلى نحو النجم السماوي الصاعد، وقد ارتسمت على وجهه ملامح من الدهشة وهو يشير نحو السماء. فجعل تلك اللوحة تحتوي على تجسيد لعدة مشاعر من الحزن والأسى وحتى الإندهاش من الأمور الروحية الغريبة الملازمة للقديس فرنسيس على مدار حياته حتى لحظة وفاته. وبذلك أرسى جيوتو دعائم نهضة حقيقية استمرت علي مدار قرون فكان حقاً أباً روحياً لعصر النهضة ومؤثراً حقيقياً في مسار التاريخ الفني.

مصادر سلسلة أهم الفنانين على مر العصور “جيوتو”:

BIOGRAPHY OF GIOTTO DI BONDONE

Britannica

Scrovegni Chapel

web gallery

الفن في عصر النهضة لثروت عكاشة

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فنون رسم

User Avatar

Ahmed Khatab


عدد مقالات الكاتب : 31
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق