في دراسة ثورية تكشف قدرة قردة البابون على القيام بالاحصائيات، وجد باحثون من باريس ومرسيليا أن قردة البابون تمتلك القدرة على فهم الرسوم البيانية لمخطط التشتت (scatterplot) واستخلاص الاتجاهات الإحصائية منها. هذا الاكتشاف الرائع له آثار مهمة على فهمنا للقدرات المعرفية لدى البشر والحيوانات. الدراسة متاحة حاليًا كطبعة أولية ولم تخضع بعد لمراجعة النظراء (peer review).
هذا البحث مثير للدهشة لأنه يكشف أن قرود البابون يمكنها إجراء تقييمات إحصائية مماثلة لتلك التي يقوم بها البشر البالغين والأطفال، على الرغم من أنها أقل دقة. وتشير الدراسة إلى أن الدماغ البشري ودماغ البابون يستخدمان آليات مماثلة لمعالجة المعلومات الإحصائية، الأمر الذي له آثار بعيدة المدى على فهمنا للقدرات المعرفية.
محتويات المقال :
فهم الاتجاهات الإحصائية لدى البشر
عندما نفكر في الإحصائيات، فإننا غالبًا ما نفكر في المعادلات المعقدة والتحليل العددي. ولكن ماذا لو أخبرتك أن أدمغتنا مجهزة لفهم الاتجاهات الإحصائية بطريقة أكثر سهولة؟ أظهرت الأبحاث أن البشر لديهم قدرة مذهلة على إدراك وفهم الأنماط الإحصائية، بما في ذلك التعرف على الاتجاهات، وتقدير الاحتمالات، واستخراج المعلومات من مجموعات البيانات الكبيرة. هذه القدرة، المعروفة باسم لإدراك الجماعي (Group cognition)، ضرورية لبقائنا وكانت حيوية في تطورنا.
فكر في الأمر على هذا النحو، عندما تكون في كازينو، قد لا تحسب بشكل واعي احتمالية الفوز أو الخسارة، ولكن لا يزال بإمكانك الشعور بالاتجاه والمنحى الذي تأخذه اللعبة. قد تشعر أن عجلة الروليت “ساخنة” أو “باردة”، أو أن ماكينة القمار “على وشك الفوز”. هذا الإحساس البديهي بالاتجاهات الإحصائية مدمج في أدمغتنا، وهو شيء نستخدمه كل يوم، في كثير من الأحيان دون أن ندرك ذلك.
ولكن كيف يعمل هذا؟ هل يتعلق الأمر فقط بقدرة أدمغتنا على معالجة كميات كبيرة من البيانات بسرعة، أم أن هناك شيئًا أكثر جوهرية يحدث؟ تكمن الإجابة في الطريقة التي تعالج بها أدمغتنا المعلومات المرئية. عندما ننظر إلى رسم بياني أو مجموعة بيانات، فإن أدمغتنا لا ترى النقاط الفردية فحسب، بل ترى الأنماط والاتجاهات والعلاقات. وذلك لأن نظامنا البصري مبرمج للتعرف على المحور الرئيسي للأشياء، وهو أمر ضروري لبقائنا في البرية.
على سبيل المثال، عندما نسير عبر غابة، نحتاج إلى أن نكون قادرين على التعرف بسرعة على شكل واتجاه الأشجار والصخور والأشياء الأخرى للتنقل بأمان. يعتمد هذا الإدراك على الاتجاهات الإحصائية، إذ تقوم أدمغتنا باستمرار بتقدير احتمالية حدوث سيناريوهات مختلفة، مثل احتمال سقوط فرع شجرة أو هجوم حيوان مفترس.
وفي سياق التحليل الإحصائي، تعد هذه القدرة على التعرف على الأنماط والاتجاهات أمرًا بالغ الأهمية. فهو يسمح لنا باستخراج معلومات ذات معنى من مجموعات البيانات الكبيرة واتخاذ قرارات مستنيرة.
الذكاء الإحصائي في الحيوانات
إن فكرة قدرة الحيوانات على معالجة المعلومات الإحصائية ليست جديدة. في الواقع، تمت ملاحظته في أنواع مختلفة، من الطيور إلى الرئيسيات. أحد الأمثلة المبكرة هو عمل عالم النفس إدوارد ثورندايك، الذي أثبت في تسعينيات القرن التاسع عشر أن الدجاج يمكن أن يتعلم ربط أصوات معينة باحتمالية تلقي الطعام. هذا المفهوم الأساسي، المعروف باسم الإشراط الكلاسيكي (Classical conditioning)، وضع الأساس لفهم الذكاء الإحصائي لدى الحيوانات.
وبالتقدم سريعًا إلى القرن العشرين، عندما بدأ الباحثون في دراسة السلوكيات الإحصائية الأكثر تعقيدًا في الحيوانات. على سبيل المثال، أظهرت الدراسات التي أجريت على الشمبانزي أنهم يستطيعون إصدار أحكام احتمالية (probability judgment) بناءً على نسب متناسبة، في حين وجد أن قرود المكاك طويلة الذيل تستنتج حدس مهني (heuristics) بسيط. وبالمثل، فقد لوحظ أن القردة الكبوشي (capuchin) تقوم باستدلالات احتمالية، كما أظهرت قرود البابون قدرة على تعلم الإمكان الإحصائي المكاني (spatial statistical contingencies.).
البابون وقراءة مخططات التشتت
تخيل أنك رأيت مخطط تشتت، وهو رسم بياني يوضح العلاقة بين متغيرين. قد تبحث بشكل غريزي عن الأنماط، مثل ما إذا كانت النقاط متناثرة بشكل عشوائي أو إذا كانت تشكل اتجاهًا واضحًا. ولكن ماذا لو كنت قرد البابون؟ هل لا يزال بإمكانك فهم الاتجاهات الإحصائية الأساسية؟
قرر باحثون من باريس ومرسيليا معرفة ذلك. وقاموا بتعليم مجموعة مكونة من 23 رباحًا من غينيا (Guinea baboon) كيفية ربط بعض الأشكال الهندسية بخصائص مخططات التشتت. لقد كانت طريقة ذكية للتواصل مع القرود، مما سمح لهم “بوصف” ما رأوه في الرسوم البيانية.
وكانت النتائج مذهلة. حيث كانت قردة البابون قادرة على إجراء تقييمات جماعية، وإصدار أحكام بديهية حول البيانات تمامًا مثل البشر. ولكن هذا ليس كل شيء، فقد فعلوا ذلك باستخدام نفس المقياس الإحصائي الذي يستخدمه البشر، والمعروف باسم قيمة t (t-value measure). يجمع هذا المؤشر بين ميل الاتجاه ومستوى التشويش في البيانات وعدد النقاط في الرسم البياني لتقديم ملخص لمخطط التشتت.
علاوة على ذلك، تم التنبؤ بأداء قردة البابون من خلال قيمة t، مما يشير إلى أنهم كانوا بالفعل يستخدمون المنطق الإحصائي لإصدار أحكامهم. وهذا يثير أسئلة مثيرة للاهتمام حول كيفية معالجة الدماغ للمعلومات الإحصائية وما إذا كان البشر فريدين حقًا في قدرتهم على تحليل البيانات.
القوى الإحصائية الخفية للدماغ
أحد الجوانب الأكثر روعة في هذا البحث هو فكرة أن أدمغتنا ربما تقوم بإعادة استخدام المسارات العصبية القديمة لإجراء حسابات إحصائية معقدة. يتم دعم هذه الفرضية من خلال ملاحظة أن قرود البابون، بأدائها المماثل للبشر، ربما تستخدم آليات عصبية مماثلة لمعالجة المعلومات الإحصائية.
تسلط الدراسة الضوء أيضًا على أهمية مراعاة التباين بين الأفراد عند دراسة الحيوانات غير البشرية. تمامًا مثل البشر، أظهرت قرود البابون مستويات متفاوتة في مهمة الحكم على الاتجاه، مما يشير إلى أن بعض الأفراد قد يكونون أكثر مهارة في التحليل الإحصائي من غيرهم. هذه النتيجة لها آثار مهمة على أبحاث الإدراك الحيواني، لأنها تؤكد على الحاجة إلى مراعاة الفروق الفردية في القدرات المعرفية.
من خلال دراسة القدرات الإحصائية لقرود البابون، قد نكشف عن القوى الإحصائية الخفية للدماغ، مما يكشف عن رؤى جديدة حول الآليات العصبية الكامنة وراء الذكاء الإحصائي البشري. في نهاية المطاف، يتمتع هذا البحث بالقدرة على إثراء عملية تطوير أدوات وأساليب إحصائية جديدة، بالإضافة إلى تسليط الضوء على الأصول التطورية للإدراك الإحصائي البشري.
مستقبل التحليل الإحصائي
مع إظهار قرود البابون قدرة خارقة على فهم واستخلاص الاتجاهات الإحصائية من مخططات التشتت، فمن الطبيعي أن نتساءل عما إذا كان أبناء عمومتنا من الرئيسيات قد يتفوقون علينا يومًا ما في تحليل البيانات. وفي حين أنه من غير المرجح أن تحل القرود محل الإحصائيين البشريين في أي وقت قريب، فإن هذا الاكتشاف الرائد يفتح آفاقًا جديدة للتعاون والابتكار.
تخيل مستقبلًا حيث يعمل البشر والرئيسيات غير البشرية معًا لمعالجة مجموعات البيانات المعقدة، والاستفادة من نقاط قوة بعضهم البعض لفتح رؤى واكتشافات جديدة. وبينما نستكشف إمكانيات التعاون بين الأنواع، قد نكشف عن أساليب جديدة للتحليل الإحصائي تمزج بين أفضل ما في العالمين، الحدس البشري ودقة الرئيسيات.
علاوة على ذلك، فإن هذا البحث له آثار كبيرة على الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي. ومن خلال فهم كيفية معالجة البابون للمعلومات الإحصائية، قد نتمكن من تطوير خوارزميات أكثر كفاءة وفعالية لتحليل البيانات، مما يمهد الطريق لتحقيق اكتشافات في مجالات مثل الطب والتمويل والعلوم البيئية.
وبينما نتعمق أكثر في هذه المنطقة المجهولة، يتعين علينا أيضًا أن نأخذ في الاعتبار العواقب الأخلاقية المترتبة على استخدام الرئيسيات غير البشرية في التحليل الإحصائي. كيف سنضمن رفاهيتهم وسلامتهم في هذه المساعي التعاونية؟ كيف سنوازن بين فوائد التعاون بين الأنواع والمخاطر والتحديات المحتملة؟
المصادر:
Baboons Appear To Do Statistics The Same Way You Do / iflscience
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :