“الإنسان حيوان اجتماعي”، بهذه الجملة عرّف أرسطو الكائن البشري وميزه عن باقي الحيوانات. فلا يمكن دراسة الإنسان وفهمه بأي شكل من الأشكال بمعزل عن مجتمعه ومحيطه. وفي المقابل، كل فرد يصنع تغييرًا، ولو صغيرًا، في مجتمعه. من هنا، كانت ضرورة نشأة علم الاجتماع الذي يدرس تفاعل الانسان، تأثرًا وتأثيرًا، مع مجتمعه. لكن ما هو التعريف الدقيق لعلم الاجتماع؟ ومتى نشأ؟ وما هي أبرز النظريات التي قدمها علم الاجتماع؟
محتويات المقال :
يهتم علم الاجتماع بدراسة العلاقات الانسانية والتفاعل بين البشر، أفرادًا ومؤسسات، ضمن المجتمعات. يُعتبر علم الاجتماع أو السوسيولوجيا علم مُعقّد وواسع. يدرس علم الاجتماع جوانب متعددة من المجتمع، تشمل كلًا من العائلة والدولة واللغة والثقافة والطبقات الاجتماعية والاختلافات العرقية والإثنية والجندرية والدين والجريمة والنمو الاقتصادي والتعليم والفن والتواصل وغيرها. كما أن علم الاجتماع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعلوم اجتماعية أخرى كعلوم السياسة والاقتصاد وعلم النفس، ويتقاطع معها في مجالات متعددة.
يطرح علم الاجتماع النظريات العلمية من جهة، والمناهج العملية من جهة أخرى، لدراسة دقيقة لكل المجالات والظواهر الاجتماعية.
رغم أن علم الاجتماع علمًا حديثًا، إلّا أنه يجد جذوره في الفلسفة القديمة. فقد شكّل العديد من القضايا التي تعد حاليًا مركزية في علم الاجتماع، مواضيع بحث عند الفلاسفة القدماء مثل كونفوشيوس وأفلاطون وأرسطو. فما المدينة الفاضلة إلا صورة رسمها أفلاطون عن المجتمع المثالي.
في القرن الثالث عشر، عرّف المؤرخ الصيني «ما توان-لين –Ma Tuan-Lin »، لأول مرة، الديناميات والمتغيرات الاجتماعية كعنصر فاعل في التطور التاريخي.
في القرن الرابع عشر، ظهر المفكر التونسي ابن خلدون. اعتبر كثيرون ابن خلدون عالم الاجتماع الأول. إذ كتب عن الصراع الاجتماعي والاقتصاد السياسي وميّز الفروقات بين الحياة البدوية والحضارية. ساهم ابن خلدون في وضع أسس علوم الاجتماع والاقتصاد الحديثة. وعلى الرغم من نظرياته التي درست للمرة الأولى الظواهر الاجتماعية بشكل علمي. إلا أن مساهماته في تأسيس علم الاجتماع بقيت غير مقدرة عند البعض بشكل كافي بحيث يُنسب التأسيس إلى الفلاسفة الأوروبيين. كتب ابن خلدون في تحفته الفلسفية “المقدمة” عن التغيرات الاجتماعية، باعتبارها مرتبطة بالعصبية (التضامن الاجتماعي) بشكل اساسي وبعوامل أخرى أخلاقية واجتماعية واقتصادية وسياسية وتاريخية. وصف ابن خلدون تطور المجتمع وشبهه بالحياة الانسانية التي تبدأ بالولادة، ثم تنمو لتصل إلى مرحلة النضوج، ثم تتراجع تدريجيًا وصولًا إلى الموت.
ابن خلدونإن الاجتماع الإنساني ضروري، فالإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية، ومن العجز عن استكمال وجوده وحياته، فهو محتاج إلى المعاونة في جميع حاجاته أبداً بطبعه.
طوّر فلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وأبرزهم فولتير وإيمانويل كانت وتوماس هوبس(Thomas Hobbes)، العديد من المفاهيم حول الآفات الاجتماعية، آملين بذلك إصلاح مجتمعهم.
تأسّس علم الاجتماع كعلم منفصل في القرن التاسع عشر، في أوج الثورة الصناعية، ليجيب على التغيرات الاجتماعية الضخمة التي رسمت ملامح هذا العصر. فقد خلقت الثورة الصناعية تغييًرًا كبيرًا في النظام الاقتصادي الأوروبي وأساليب الإنتاج وتوزيع الثروة، وبدأ تحول المجتمعات الريفية إلى مدن صناعية تعج بالفوضى والاستغلال والفقر. وابتعد الملايين من المزارعين عن حياتهم التقليدية، مما زعزع الانظمة العقائدية والدينية وبدّل العلاقات العائلية والاجتماعية.
يُعد المفكر الفرنسي «أوغست كومت-Auguste Comte» أبو علم الاجتماع. استخدم كومت كلمة “سوسيولوجيا” عام 1838 وسمّاها «أميرة العلوم-Queen of sciences»، واعتبر أنه يمكن دراسة المجتمع من خلال قواعد علمية تمامًا كالمستخدمة في العلوم الطبيعية ودراسة الجسد أو المادة. واعتبر كومت أن اكتشاف القواعد التي تحكم العلاقات الاجتماعية ودراستها يمكّن علماء الاجتماع من إصلاح المشاكل الاجتماعية كالفقر والأمية. وبذلك أسّس كومت علم الاجتماع.
وضع أوغست كومت الفلسفة الوضعية، وفسّرها في كتبه التي صدرت بين عامي 1830 و1848. وهي تقوم على وضع قواعد علمية (مستوحاة من القوانين المادية كقانون نيوتن مثلًا) لتفسير الظواهر الاجتماعية. وعلى الرغم أن هذه الفلسفة ساهمت في تأسيس وتعريف علم الاجتماع، وأثرت في العديد من علماء الاجتماع اللاحقين أمثال «هيربرت سبنسر-Herbert Spencer» و«إميل دوركيم-Emile Durkheim»، إلا أنها واجهت فيما بعد الكثير من التحديات والرفض من قبل علماء اجتماع آخرين.
يمكن تصنيف نظريات علم الاجتماع إلى نوعين: النظريات الكليّة Macro theory التي تتناول مشاكل شريحة كبيرة من الناس، والنظريات الجزئية Micro theory التي تتناول علاقة خاصة بين مكونات معينة محدودة.
سنتناول في هذا المقال النظريتين الشاملتين الأبرز في علم الاجتماع بشكل بسيط وموجز. وعلى الرغم أنهما مختلفتان، لكنها ليس بالضرورة متناقضتين، فهما تفسران العالم من وجهات نظر مختلفة.
النظرية الأولى هي «النظرية الوظيفية-Functionalism» وهي نظرية محافظة، ترى العالم كمكانٍ متوازن، وترى المجتمع كالجسد الذي يتألف من عدة أنظمة وأعضاء ولكلٍّ منها وظيفته، وعلى هذه الأنظمة المختلفة أن تعمل سويةً لتحافظ على توازن وصحة الجسد ككل.
تعد هذه النظرية متأثرة بفلسفة كومت الوضعية، قفد قارن هيربرت سبنسر المجتمع البشري بالجسد، والمؤسسات والعائلة والدين بالعظام والأعضاء والعضلات.
وتعتبر النظرية أن أي مكوّن لا يعمل بشكل طبيعي يفيد النظام الاجتماعي هو خلل، ويجب معالجته. مثلًا، تعتبر أن الفقر هو خلل في المجتمع المزدهر. وغالبًا تحمّل النظرية مسؤولية الخلل للمكون نفسه، مثلًا الفقير يتحمل مسؤولية فقره، وعليه أن يعمل بنفسه ليصبح أغنى. ويطرح العالم الفرنسي إميل دوركيم مفهوم “الوعي الجماعي” الذي يقود كل مكونات المجتمع الواحد ويؤثر على معتقدات وتصرفات كل فرد منه، ويحافظ على استقرار قيمه
النظرية الثانية هي نظرية الصراع، وتعد نظرية تقدمية وهي تُبرز الصراع الاجتماعي والمنافسة واللامساواة. تنبع من كتابات كارل ماركس، الذي انتقد في الثورة الصناعية الرأسمالية الناتجة عن تغير أساليب الإنتاج. واعتبر ماركس أن نتيجة الرأسمالية (وقبلها الإقطاعية) والتوزيع غير العادل للثروة سبب في بزوغ نظام ثنائي متناقض. الرأسماليين “البرجوازيين” الذين يملكون كل موارد الإنتاج، ومن جهة أخرى الطبقة العاملة أو “البروليتاريا” التي لا تملك سوى قوة عملها. العلاقة بين هاتين الجهتين ليست علاقة وظائفية. على العكس، حيث يسعى الرأسماليون إلى مراكمة الثروات على حساب الطبقة العاملة. تنظر النظرية الماركسية إلى مشكلة الفقر كمشكلة اجتماعية، ناتجة عن استغلال الطبقة الغنية للطبقة العاملة الفقيرة، وهو ما يبقيها فقيرة.
وهنا تدخل عوامل أخرى تؤثر على الوضع الاجتماعي للفرد وهي العرق والجندر، التي تعزز أحيانًا وجوه التمييز واللامساواة.
واعتبر ماركس أن هذا الوضع من الظلم والتمييز والاستغلال ناتج عن نقص ما يسمّيه من الوعي الطبقي لدى البروليتاريا. ومن هنا تأتي جملته الشهيرة: “يا عمال العالم اتحدوا.” تعد النظرية الماركسية من أكثر نظريات القرن التاسع عشر تأثيرًا على العالم وعلى الأيدولوجيات السياسية حتى اليوم.
ختامًا، علم الاجتماع من أوسع العلوم وأكثرها تشعبًا، ولربما فهم أساسياته يساعدنا على فهم أنفسنا أولًا، ومحيطنا الاجتماعي ثانيًا، والعالم من حولنا ثالثًا.
المصادر:
edX
Sage journals
توصل باحثون إلى اكتشاف رائد يمكن أن يحدث ثورة في عالم التكنولوجيا القابلة للارتداء. لقد…
مع تصاعد التوترات حول نهر النيل، الذي يشكل شريان حياة بالغ الأهمية لملايين البشر في…
من المتوقع أن تشهد البشرية في السنوات القليلة المقبلة تطورات كبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي.…
مقاومة المضادات الحيوية، التي تمثل تهديدًا صحيًا عالميًا متزايدًا، لها سبب مفاجئ وهي التربة. حيث…
في عالم الفلسفة الإسلامية، تم التغاضي عن مفهوم رائع لعدة قرون. لقد كانت الأحادية (monism)،…
من خلال إعادة التفكير في افتراضاتنا حول الحياة خارج الأرض، يتحدانا عالمان للنظر في إمكانية…
View Comments
مقال جميل جداااااااااااا واريد معرفة الفرق بين الخدمة الاجتماعية وعلم الاجتماع