غير مصنف

تأخير الانهيار بين حكمة مملوكية وغضب عثماني، في مسألة الغزو العثماني لمصر

تحدثنا كتب التاريخ هنا أنه رغم انتصار المماليك على العثمانيين في أول صدام مسلح بين الطرفين بسبب علي دولات، فقد آثر قيتباي حقن الدماء وأرسل قاصده جاني بك بهدية فخمة لترضية بايزيد الثاني. غير أن صدى الهزيمة التي منى بها العثمانيين قد زادت نار العداوة والغضب لدى السلطان العثماني وحملته على الانتقام الثاني من قايتباي. في هذه الأثناء وعند تحرك قاصد المماليك بهدف الصلح، كانت أعمال التجسس العثمانية عاملة بشدة في سلطنة المماليك، لتهيئة الأمر لجعل مصر والشام إيالات عثمانية. فالمصادر العثمانية تتحدث وقتذاك عن شخص مملوكي يدعى خاير بك قدم من الشام، التقى مع علاء الدولة أمير ذولقادر فأرسله إلى الصدر الأعظم مصلح الدين بك حاملا معه الرسائل والأخبار لكي يعرضها على السلطان. والرسالة محفوظة في أرشيف طويقبوسرايي باستنبول تحت رقم 06201.

قد تكون هذه أولى خيوط الخيانة لخاير بك الذي لم تحدده المصادر التاريخية. وقد لعب خاير بك الدور الأهم في زوال سلطنة المماليك الذي كلف مصر استقلالها ومركزيتها لعدة قرون. وبدافع هزيمة بايزيد الأولى هذه، رفض كل نداءات الصلح واعتدى على حدود المماليك المجاورة لتخوم الدولة العثمانية. فسيّر له قيتباي حملة بقيادة القائد أزبك وانتهت معركتهما بهزيمة العثمانيين وأسر أحد أمرائهم وهو أحمد بك ابن هرسك.

عاود بايزيد الكرة بعد عام تقريبا بالمناوشة، فأرسل له قيتباي الأمير أزبك مرة ثانية. وقبل أن يصطدم الطرفان، أرسل ثمة جاسوس يدعى إياس رسالة للسلطان العثماني يصف له فيها الاضطراب الذي ساد مصر والشام على يد العربان بقيادة يونس بك ابن عمر وأحمد بك ابن طلحة وجمعة أمراء الفيوم، ويستحثه على اقتناص الفرصة لإخضاع دولة المماليك بإرسال سفنه إلى طرابلس الشام والإسكندرونة. وحرك السلطان العثماني أسطوله نحو شواطيء الاسكندرونة، إلا أن عاصفة عاتية هبت وأغرقت معظم قطعه ولم تنجح خطة بايزيد في قطع الطريق على قوات الأمير أزبك، كي لا يصل إلى أذنة الذي حاصرها ثلاثة أشهر حتى سلمت له. وعاد أزبك منتصرا وفي ركبه عددا من الأسرى العثمانيين الذين دخلوا في خدمة المماليك واقتطعت لهم ثكنات سميت ب”العثمانية” نكاية في بايزيد.

إصرار بايزيد أمام سيف أزبك

اعتزم بايزيد المضي في هذه الحرب حتى النهاية، فالديوان العثماني لم يكن قد اعتاد على إنهاء حرب لم تكلل بالنجاح، على حد تعبير المؤرخ التركي يلماز أزوتونا. فلم يكد الأمير أزبك يولى وجهه شطر إلى القاهرة، حتى تحركت حملة عثمانية ثالثة جنوبا صوب المملكة المملوكية بأطراف أسيا الصغرى. فرد عليها قيتباي بتسيير حملة عسكرية لحماية نيابة حلب على أن يدعمها بجيش كبير إذا تطلب الأمر ذلك. غير أن قيتباي ظل يبحث عن سبل عقد الصلح مع بايزيد الثاني لسوء أحوال الخزانة السلطانية جراء النفقات الحربية التي صرفت للحملة الأولى والثانية. ومن سوء الطالع في هذه الأثناء، أن المماليك الجلبان قاموا بإشعال فتيل الفتنة معترضين الأمراء وطالبين منهم أن ينفق السلطان لهم مقابل نصرهم على العثمانيين. وأمام رفض قايتباي لشح الخزانة السلطانية، تهيأ الجلبان للإقتتال وإشهار السلاح.

وبعد توسط  من الأمير أزبك تقرر صرف خمسين دينار لكل مملوك مع بداية السنة. وكانت أحداث الجلبان هذه كاشفة للضعف العام الذي مُني به النظام المملوكي. وتحت كل هذه الضغوط التي أحاطت بقايتباي، ظل يعلل النفس بآمال الصلح مع بايزيد في حكمة مملوكية وغضب عثماني. وآية ذلك كان وصول القاصد العثماني من قبل داوود باشا مدعاة إلى الأمل في الصلح. ويبدو أن قايتباي كان متشككا في جدية بايزيد في الصلح فعمل في الوقت نفسه على إتمام الإستعدادات العسكرية.

فبينما كانت مفاوضات الصلح جارية، وصلت الأخبار بأن جندًا عثمانية تجمعت قرب قيصرية. وأن علاء الدولة أرسل إلى قيتباي يخبره بوصول فرقة عثمانية إلى بلدة كولك قرب الحدود المملوكية. لذلك أعد بالقاهرة جيشا أعلن فيه على رؤوس الأشهاد أنه سوف يقود الجيش بنفسه إلى الشام. في هذه الأثناء تحرك أزبك بجيشه نحو الشمال وبعث ماماي الخاصكي كرسول إلى الفرقة العثمانية لبحث سبل التصالح، غير أن العثمانيين قبضوا عليه وسجنوه. ملّ أزبك الإنتظار، فتوجه بجيشه صوب العثمانيين وجلاهم عن كولك، ثم زحف منتصرا نحو قيصرية وهزم الحامية العثمانية هناك وأسر كثيرا من قادتها. ثم تحرك بجيشه نحو ماونده دون أي اشتباك أو قتال، وعاد إلى مصر ودخل القاهرة دخول الظافر المنتصر.

خطوة لتأجيل الانهيار المملوكي

لم يفرح قايتباي كثيرا بهذا الإنتصار الثالث والسريع على بايزيد الثاني. إذ توقع ما قد تثيره هذه الهزيمة من سوء طالع في نفس السلطان العثماني، من عزم على الإنتقام لشرفه العسكري. لا سيما والخزائن السلطانية خاوية على عروشها خاصة في ظل تدهور الأوضاع الداخلية عقب الحملة الأخيرة والتي تركت أثرا سلبيا على الاقتصاد المملوكي، مقابل الموارد العسكرية الطائلة للعثمانيين. فعقد مجلسا بقبة يشبك وشرح الموقف شرحا جليا بحضرة القضاة الأربعة وقال لهم: “بأن ابن عثمان ليس براجع عن محاربة عسكر مصر. وأن أحوال البلاد الحلبية قد فسدت وآلت إلى الخراب، وأن التجار منعوا ما كان يجلب إلى مصر من الأصناف. وأن المماليك الجلبان يرمون مني النفقة وإن لم أنفق عليهم شيئا نهبوا مصر والقاهرة وحرقوا البيوت.” لذلك اقترح قيتباي من القضاة أن يوافقوه على جباية أجرة سنة كاملة عن جميع ممتلكات الأوقاف، فوافقوه على جباية خمسة أشهر فقط، إضافة إلى جبايات أخرى بسائر مصر والشام، وامتلأت  القاهرة بأخبار الحرب، وعزم السلطان على أن يخرج هذه المرة على رأس الجيش.

Related Post

إن المتأمل في خطبة أو خطاب قايتباي هذا أمام مجلسه، يجد صدى وإشارة واضحة لما قد آلت إليه أحوال البلاد من خراب بمصر والشام نهاية القرن التاسع الهجري أو الخامس عشر الميلادي. فحلب قد خربت عن آخرها وضاق الأمر بالناس ذرعا من عسكر المماليك وسلاطينهم. فمع كل تجريدة عسكرية على عدو لهم، يفرضون الضارئب الفاحشة على الناس ويسلبون التجار أموالهم. وإذا كانت دمشق هي قاعدة الجيش المصري للانطلاق نحو الشمال والتي تحملت عبء تكاليف الحملات العسكرية هذه قد تقهقرت وخربت، فالجنود المماليك قد عاثوا في الأرض فسادا ونهبوا وسرقوا وحلوا محل أهلها في سكنى الديار. مما أجبر نائبها يشبك الجمالي على ترك منزله والخروج من المدينة خوفا على حياته، حسب تعبير ابن طولون.

إسقاطات خطبة قايتباي على مستقبل المماليك

سيخلف ذلك السلوك الأثر السلبي على فلول عسكر المماليك بعد معركة مرج دابق. فحينما يعلم الحلبيون وأهل دمشق بهزيمة المماليك على يد سليم الأول، اتخذونها فرصة للإنتقام وتصفية ما يجدونه أمامهم من جنود. أما الشيء الأكثر خطورة في كلام قيتباي هو الإشارة إلى انحلال النظام الداخلي للجيش المملوكي وعقيدته التي كانت مبنية على أساس الطاعة العمياء لأستاذه والقناعة التامة بما يخصص له من نفقة أو إقطاع. فقد تداعى هذا النظام كثيرا وتصدع  بنيان وأساس النظام السياسي المملوكي. حيث باتت المماليك الجلبان آداة للفوضى والعدوان ضد أهالي البلاد الأمنين وشوكة في حلق كل سلطان مهددين بالثورات ضدهم كل حين وأخر. وتحت وطأة هذه الضغوط المالية على قايتباي وإنفلات جبهته الداخلية وأخبار الحرب الشاملة تدوي في القاهرة، فقد حدث ما لم يكن في الحسبان.

الدبلوماسية تنقذ الوضع

عاد القاصد المملوكي ماماي الخاصكي من البلاد العثمانية بصحبة قاضي قضاة بروصة الشيخ علي الجلبي، يحمل تفويضا بالصلح على شروط قايتباي. وهنا التقت مصالح المماليك والعثمانيين في الصلح ولكل أسبابه، وذلك على مضض من اتجاه كبير في مجلس الحرب العثماني. وكان باي تونس الحمصي المتوكل على الله -مدفوعا بتحركات الجيوش المسيحية بقيادة فيرديناند الخامس وزوجته إزابيلا الأولى لانتزاع غرناطة أخر المعاقل الإسلامية بالأندلس، ومحاولة توحيد قوتي العالم الإسلامي الأولى والثانية لتدارك الخطر الذي يواجه سكان الأندلس والشمال الإفريقي – هو من لعب دور الوساطة والاتفاق على إرجاع الوضع على ما كان عليه قبل الحرب. فعادت تبعية إمارة بني رمضان وذلقادر إلى المماليك، وإمارة قرمان تحت النفوذ العثماني. فأنقذت الحكمة المملوكية المماليك من الغضب العثماني ولو مؤقتًا.

يبدو أن أسباب الصلح العثمانية هي إعادة ترتيب الأوضاع وبحث سبل فهم أسباب تفوق المماليك في هذه الحرب التي ظلت طيلة ثمانية أعوام حسوما. فسياسة الدولة العثمانية العالمية التي بزغت منذ سقوط القسطنطينية، ألزمت جراء هذه الحرب المملوكية العثمانية الأولى توجيه الأنظار إلى جوقور أوفا التي احتلتها عدة مرات. وأظهرت ضرورة توسع العثمانيين في الأناضول ثم هبوطهم لا محالة إلى العالم العربي لحل مشكلة الحدود نهائيا. وحينها سيحشد العثمانيين كل قواهم في حربهم  الفاصلة ضد المماليك لسيادة العالم الإسلامي. ومعها ستذهب الدولة المملوكية من مسارح التاريخ إلى كتبه وتقبع في خيالات المؤرخين.

تلك كانت حلقة ثاني حلقات سلسلة بعنوان “في مسألة الغزو العثماني لمصر وللشام”.

المصادر:
ابن اياس بدائع الزهور في وقائع الدهور، أجزاء الثالث والرابع والخامس.
العراك بين المماليك والعثمانيين الأتراك لابن أجا.
إنباء الغمر بأنباء العمر لابن حجر العسقلاني.
أخرة المماليك لابن زنبل.
در الحبب في تاريخ أعيان حلب لابن الحنبلي.
حوادث الزمان في وفيات الشيوخ والأقران لابن الحمصي.
مفاكهة الخلان في حوادث الزمان لابن طولون.
مقالة نهاية سلاطين المماليك، دكتور محمد مصطفى زيادة.
المجتمع المصري تحت حكم العثماني مايكل وينتر.
تاريخ الدولة العثمانية، يلماز اوزتونا.
تاريخ المماليك، محمد سهيل طقوش.
دراسة بعنوان “التجسس في العصرين الأيوبي والمملوكي”، عبدالله عيد كمال.
تكوين العرب الحديث، سيار الجميل.
– التحفة البهية في تملك آل عثمان الديار المصرية، محمد بن أبى السرور الصديقي البكري.
الفتح العثماني للشام ومصر، أحمد فؤاد متولي.

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]
عماد السعيد

Share
Published by
عماد السعيد

Recent Posts

ابتكار واقي شمس بتقنية جديدة لتبريد الجلد

عندما يتعلق الأمر بحماية بشرتنا من التأثيرات القاسية لأشعة الشمس، فإن استخدام واقي الشمس أمر…

يوم واحد ago

العثور على مومياوات مصرية قديمة بألسنة وأظافر ذهبية

اكتشف فريق من علماء الآثار 13 مومياء قديمة. وتتميز هذه المومياوات بألسنة وأظافر ذهبية،وتم العثور…

يوم واحد ago

بناء منازل على المريخ باستخدام الدم البشري

ركز العلماء على الخرسانة الرومانية القديمة كمصدر غير متوقع للإلهام في سعيهم لإنشاء منازل صالحة…

يوم واحد ago

خلايا المخ تتطور بشكل أسرع في الفضاء وتظل بحالة جيدة!

من المعروف أن الجاذبية الصغرى تغير العضلات والعظام وجهاز المناعة والإدراك، ولكن لا يُعرف سوى…

يومين ago

ما هو الويب 3.0 وكيف سيحمي بيانات المستخدمين وخصوصيتهم؟

الويب 3.0، الذي يشار إليه غالبًا باسم "الويب اللامركزي"، هو الإصدار التالي للإنترنت. وهو يقوم…

يومين ago

كيف يمكن مشاهدة انفجار المستعر الأعظم قبل حدوثه؟

لطالما فتنت المستعرات العظمى علماء الفلك بانفجاراتها القوية التي تضيء الكون. ولكن ما الذي يسبب…

يومين ago