Ad

منذ فجر الحضارة الإنسانية، ارتبط مصيرنا ارتباطًا وثيقًا بحبات قليلة من الأعشاب البرية التي استأنسها أجدادنا، وفي مقدمتها القمح. هذا المحصول الذهبي لم يكن مجرد مصدر للغذاء، بل كان محركًا للثورات الزراعية، ودافعًا للاستقرار والتمدن، وحجر زاوية في بناء الإمبراطوريات والثقافات. من سهول الهلال الخصيب، انتشر القمح ليغزو العالم، ليصبح اليوم الغذاء الأساسي لأكثر من ثلث سكان الكوكب، ومصدرًا رئيسيًا للسعرات الحرارية والبروتين النباتي. إنه بحق “سلة خبز العالم”، وشبكة أمان غذائي لا غنى عنها.
ولكن في القرن الحادي والعشرين، يواجه هذا الحليف القديم، ومعه البشرية جمعاء، تحديات غير مسبوقة. فتعداد السكان العالمي يتجه نحو عشرة مليارات نسمة بحلول منتصف القرن، مما يفرض ضغوطًا هائلة على أنظمتنا الزراعية لزيادة الإنتاج. وفي الوقت نفسه، تلقي التغيرات المناخية بظلالها القاتمة، مهددةً بتقلبات حادة في درجات الحرارة، وأنماط أمطار غير منتظمة، وزيادة في وتيرة الظواهر الجوية المتطرفة كالجفاف والفيضانات. تتقلص الأراضي الصالحة للزراعة، وتتدهور جودة التربة، وتستنزف موارد المياه العذبة. إن المعادلة تبدو صعبة للغاية: كيف ننتج المزيد من الغذاء، بموارد أقل، وفي ظل بيئة متغيرة تزداد عدائية يومًا بعد يوم؟
في خضم هذه التحديات الجسيمة، يبرز العلم كمنارة أمل، وتقدم التكنولوجيا الحيوية والوراثة الجزيئية أدوات ثورية قد تمكننا من قلب الموازين. ولقد شهدنا مؤخرًا إنجازًا علميًا يمثل نقطة تحول فارقة في هذا السياق: إعلان فريق من العلماء الصينيين من معهد العلوم الزراعية الحديثة التابع لجامعة بكين، ونشرته مجلة “نيتشر جينتكس” (Nature Genetics) ذات الصيت العالمي، عن اكتمال رسم أول خريطة جينوم كاملة للقمح سداسي الصبغيات (Triticum aestivum L.) من التيلومير إلى التيلومير. قد يبدو هذا الخبر للوهلة الأولى تقنيًا بحتًا، لكن أبعاده وتداعياته تمتد لتلامس جوهر قضية الأمن الغذائي العالمي ومستقبل الزراعة المستدامة. إنه ليس مجرد فك لشيفرة وراثية، بل هو تسليم مفتاح يمكننا من فتح كنوز دفينة من الإمكانات الكامنة في هذا المحصول الحيوي.

متاهة وراثية: فهم تعقيدات جينوم القمح الهائل

لفهم حجم الإنجاز الذي نتحدث عنه، لا بد من الغوص قليلاً في تفاصيل التركيب الوراثي للقمح، والذي ظل لسنوات طويلة يمثل تحديًا استثنائيًا لعلماء الوراثة. إن جينوم القمح ليس مجرد كتاب ضخم من التعليمات الوراثية، بل هو أشبه بمكتبة كاملة تتألف من عدة مجلدات متداخلة ومعقدة.
أولاً، يتميز القمح الشائع (قمح الخبز) بأنه سداسي الصبغيات (Hexaploid)، ويُشار إلى تركيبته الجينومية بالرمز AABBDD. هذا يعني أنه يحمل في خلاياه ست مجموعات من الكروموسومات، نشأت نتيجة تهجين طبيعي قديم بين ثلاثة أنواع مختلفة من الأعشاب البرية، كل منها ساهم بزوج من الجينومات. تخيل أنك تحاول فهم نص مكتوب بثلاث لغات مختلفة في آن واحد، مع وجود تداخل وتشابه كبير بين مفردات هذه اللغات. هذا هو الوضع الذي واجهه العلماء مع جينوم القمح. هذا التعدد الصبغي، رغم أنه أكسب القمح قدرة هائلة على التكيف مع بيئات متنوعة، إلا أنه جعل من مهمة فصل وتحليل كل جينوم فرعي على حدة أمرًا بالغ الصعوبة.
ثانيًا، حجم الجينوم هائل: يقدر بنحو 17 مليار زوج قاعدي (17 جيجابايت)، أي أنه أكبر بحوالي خمس مرات من جينوم الإنسان (الذي يبلغ حوالي 3.2 مليار زوج قاعدي). هذا الكم الهائل من المعلومات الجينية يتطلب قدرات تسلسل وتحليل حاسوبية جبارة للتعامل معه.
ثالثًا، وأحد أكثر الجوانب تحديًا، هو ارتفاع نسبة التسلسلات المتكررة (Repetitive DNA) في جينوم القمح، والتي تشكل ما يزيد عن 85% من إجمالي الجينوم. هذه التسلسلات، ومعظمها عناصر وراثية قافزة (Transposable Elements)، هي أشبه بفقرات أو حتى صفحات كاملة مكررة مئات أو آلاف المرات في أنحاء مختلفة من الجينوم. عند محاولة تجميع الجينوم باستخدام تقنيات التسلسل التقليدية التي تقرأ أجزاء صغيرة من الحمض النووي، كانت هذه التكرارات بمثابة كابوس حقيقي. تخيل أنك تحاول تجميع أحجية صور مقطوعة (بازل) ضخمة للغاية، معظم قطعها متشابهة تمامًا أو تكاد تكون كذلك. كان من الصعب جدًا تحديد مكان كل قطعة صغيرة بدقة، ومعرفة أي القطع المتشابهة يجب أن تتجاور، مما أدى في المحاولات السابقة إلى خرائط جينومية مجزأة، مليئة بالثغرات (Gaps) وعدم اليقين في ترتيب العديد من المناطق.
لقد بذلت جهود دولية جبارة في الماضي، مثل “الاتحاد الدولي لتسلسل جينوم القمح (IWGSC)، وقدمت مساهمات قيمة في فهم جينوم القمح، بما في ذلك نشر نسخة مرجعية جيدة في عام 2018. ولكن الإنجاز الصيني الأخير يمثل قفزة نوعية، لأنه يقدم لأول مرة خريطة “من التيلومير إلى التيلومير لجميع كروموسومات القمح الـ 21.

الإنجاز العلمي: فك طلاسم القمح من البداية إلى النهاية

ماذا يعني بالضبط مصطلح “من التيلومير إلى التيلومير” (T2T)؟ التيلوميرات هي أغطية واقية توجد في نهايات الكروموسومات، أشبه بالقطع البلاستيكية في نهاية رباط الحذاء التي تمنعه من التفكك. الحصول على تسلسل كامل لكل كروموسوم من أحد تيلوميراته إلى التيلومير الآخر يعني أننا نمتلك الآن النسخة الأكثر اكتمالاً واستمرارية ودقة لجينوم القمح، بدون ثغرات أو مناطق مجهولة الترتيب تقريبًا. إنه بمثابة الحصول على خريطة طريق مفصلة وواضحة لمدينة معقدة، بعد أن كنا نعتمد على خرائط متفرقة وغير مكتملة.
وقد تحقق هذا الإنجاز بفضل التقدم الهائل في تقنيات التسلسل الجيني طويلة القراءة (Long-Read Sequencing)، مثل تقنيتي PacBio SMRT و Oxford Nanopore. على عكس تقنيات القراءة القصيرة التي تنتج قطعًا صغيرة من الحمض النووي، تستطيع هذه التقنيات الحديثة قراءة تسلسلات طويلة جدًا، تمتد لآلاف أو حتى ملايين الأزواج القاعدية. هذه القراءات الطويلة قادرة على تجاوز معظم التسلسلات المتكررة دفعة واحدة، مما يسهل بشكل كبير عملية تجميعها بالترتيب الصحيح، تمامًا كما يسهل تجميع أحجية إذا كانت قطعها أكبر حجمًا وتحتوي كل قطعة على تفاصيل أكثر.
بالإضافة إلى ذلك، اعتمد الفريق البحثي الصيني على خوارزميات تحليلية بيوانفورماتية متطورة لمعالجة الكميات الهائلة من البيانات الجينية الناتجة عن التسلسل، وتجميعها بدقة فائقة. إن تكامل هذه التقنيات المتقدمة هو ما مكنهم من التغلب على العقبات التي حالت دون تحقيق هذا المستوى من الاكتمال في المحاولات السابقة.
إن نشر هذا البحث في مجلة “نيتشر جينتكس” المرموقة، والتي تخضع فيها الأبحاث لعمليات مراجعة صارمة من قبل علماء متخصصين، يضفي مصداقية وثقلاً كبيرين على النتائج. ويؤكد البروفيسور دنغ شينغ وانغ، رئيس معهد العلوم الزراعية الحديثة وأحد كبار المشاركين في الدراسة، أن خريطة الجينوم الجديدة “تفوقت على النسخ السابقة من حيث الاكتمال والاستمرارية والدقة، ما يضع أساسًا ثابتًا لأبحاث الجينوم الوظيفية”.

كنوز مكشوفة: ما تكشفه الخريطة الجينومية الكاملة

إن توفر هذه الخريطة الجينومية المرجعية عالية الجودة ليس مجرد إنجاز أكاديمي، بل هو بمثابة فتح “صندوق كنز” من المعلومات الوراثية ذات القيمة التطبيقية الهائلة. من أبرز ما تقدمه هذه الخريطة:

تأسيس قاعدة صلبة لأبحاث الجينوم الوظيفية: تعتبر هذه الخريطة بمثابة مرجع جينومي موثوق به سيسهل بشكل كبير تحديد الجينات المسؤولة عن الصفات الزراعية المرغوبة. يمكن للباحثين الآن ربط الاختلافات في التسلسل الجيني بين سلالات القمح المختلفة بصفاتها الظاهرية بدقة أكبر، مما يسرع من وتيرة اكتشاف الجينات المتحكمة في زيادة المحصول، أو تحسين الجودة الغذائية، أو مقاومة الأمراض والآفات، أو تحمل الظروف البيئية القاسية.

الاكتمال والاستمرارية الفائقة: كما ذكرنا، هذه الخريطة تغطي الجينوم بأكمله تقريبًا، بما في ذلك المناطق المعقدة مثل القسيمات المركزية (Centromeres) والمناطق القريبة من التيلوميرات، والتي كانت عصية على التجميع في السابق. هذا يوفر فهمًا غير مسبوق للهيكل الكامل للكروموسومات.

الدقة العالية: تقلل هذه الخريطة من الأخطاء والثغرات التي كانت موجودة في الخرائط السابقة، مما يوفر أساسًا أكثر موثوقية للدراسات الجينية المستقبلية وتحديد الجينات بدقة.

تحديد ودراسة المناطق المعقدة: لأول مرة، أصبح من الممكن تحديد ودراسة هذه المناطق بدقة، والتي غالبًا ما تلعب أدوارًا هامة في تنظيم الجينات، وتطور الكروموسومات، وتحديد الصفات الزراعية الهامة.

اكتشاف جينات جديدة: تمكن الباحثون من تحديد ما لا يقل عن 34,120 جينًا جديدًا “عالي الثقة”، لم تكن معروفة من قبل. هذا العدد الهائل من الجينات المكتشفة يفتح آفاقًا واسعة لفهم وظائفها ودورها المحتمل في نمو وتطور القمح، واستجابته للظروف البيئية، ومقاومته للأمراض. سيتطلب الأمر سنوات من البحث لتوصيف هذه الجينات، ولكن كل جين منها قد يحمل مفتاحًا لصفة مرغوبة.

من الشيفرة إلى السنبلة: هندسة قمح المستقبل

إن الآثار المترتبة على هذا الإنجاز في مجال تربية النبات وتحسين المحاصيل هي الأكثر إثارة وترقباً. فمع هذه الخريطة المفصلة، يدخل مربو القمح عصراً جديداً من التربية الدقيقة (Precision Breeding):
• تسريع برامج التربية التقليدية والحديثة:
o الانتخاب بمساعدة العلامات الجزيئية (Marker-Assisted Selection – MAS): ستصبح العلامات الجزيئية (مؤشرات وراثية) المرتبطة بالجينات المرغوبة أكثر دقة وموثوقية. يمكن للمربين فحص آلاف النباتات الصغيرة (الشتلات) بحثًا عن هذه العلامات، واختيار تلك التي تحمل التراكيب الجينية الأفضل بسرعة، دون الحاجة لانتظار النبات حتى ينمو وينضج لتقييم صفاته، مما يوفر سنوات من العمل والموارد.
o التجميع الجيني (Gene Pyramiding): ستسهل الخريطة الدقيقة عملية تجميع العديد من الجينات المفيدة في صنف واحد. على سبيل المثال، يمكن دمج عدة جينات مختلفة لمقاومة سلالات متعددة من فطر الصدأ، أو جينات لتحمل الجفاف مع جينات لزيادة المحتوى البروتيني، لإنتاج أصناف “سوبر” تجمع بين العديد من الميزات الإيجابية.
o الانتخاب الجينومي (Genomic Selection – GS): وهو نهج أحدث يعتمد على تقييم القيمة الوراثية الإجمالية للفرد بناءً على معلومات من آلاف العلامات الموزعة على كامل الجينوم. الخريطة الكاملة ستعزز بشكل كبير دقة نماذج الانتخاب الجينومي.
• تطبيقات التحرير الجيني المستهدف (Targeted Gene Editing):
o تقنيات مثل كريسبر-كاس9 (CRISPR-Cas9) تسمح بإجراء تعديلات دقيقة وموجهة في الحمض النووي. مع وجود خريطة جينوم كاملة وعالية الدقة، يمكن للعلماء تحديد الجينات المستهدفة بدقة متناهية وتعديلها لتعزيز وظيفتها (مثلاً، زيادة نشاط جين مسؤول عن تحمل الملوحة) أو تعطيل وظيفة جين غير مرغوب فيه (مثلاً، جين يجعل النبات حساسًا لمرض معين) أو حتى إدخال متغيرات جينية مفيدة من سلالات أخرى أو أقارب برية.
o يمكن أن يؤدي هذا إلى التطور السريع لما يمكن أن نسميه “قمح مصمم حسب الطلب” (Designer Wheat)، موجه لتلبية احتياجات محددة: قمح يتحمل الجفاف لمناطق قاحلة، قمح عالي البروتين لمكافحة سوء التغذية، قمح ذو خصائص عجن مثالية لأنواع معينة من الخبز، أو قمح مقاوم لأمراض جديدة ناشئة.

أمثلة على الصفات المستهدفة للتحسين:

  1. زيادة الإنتاجية (Yield Potential): من خلال فهم وتعديل الجينات المتحكمة في عدد السنابل لكل نبات، وعدد الحبوب في كل سنبلة، ووزن الحبة، وكفاءة عملية التمثيل الضوئي، وتوزيع المغذيات داخل النبات.
  2. تحسين القيمة الغذائية (Nutritional Quality):
    o التحصين الحيوي (Biofortification): زيادة محتوى البروتين والأحماض الأمينية الأساسية (مثل اللايسين)، والفيتامينات (مثل فيتامين أ، أو حمض الفوليك)، والمعادن (مثل الحديد والزنك)، لمكافحة “الجوع الخفي” أو نقص المغذيات الدقيقة الذي يعاني منه الملايين.
    o تحسين جودة النشا والبروتين لخصائص خبز أو معكرونة أفضل.
    o تقليل المركبات غير المرغوب فيها أو المسببة للحساسية لبعض الأفراد.
  3. تعزيز مقاومة الأمراض والآفات (Disease and Pest Resistance):
    o تحديد وإدخال جينات مقاومة واسعة الطيف ودائمة ضد الأمراض الفطرية المدمرة مثل صدأ الساق والصدأ الأصفر وصدأ الأوراق، والبياض الدقيقي، والتفحم، أو الأمراض الفيروسية.
    o تطوير سلالات مقاومة للحشرات الثاقبة الماصة كالمن، أو حشرات الحبوب المخزونة كالسوس، مما يقلل الحاجة للمبيدات الكيماوية.
  4. زيادة القدرة على تحمل الإجهادات البيئية (Abiotic Stress Tolerance):
    o الجفاف (Drought): تحسين كفاءة استخدام المياه، وتطوير أنظمة جذرية أعمق وأكثر كفاءة، وزيادة تحمل الجفاف الفسيولوجي على المستوى الخلوي.
    o الحرارة (Heat): تطوير أصناف تتحمل موجات الحرارة المرتفعة، خاصة خلال مراحل النمو الحرجة مثل التزهير وملء الحبوب.
    o الملوحة (Salinity): تحسين قدرة النبات على النمو في التربة المتأثرة بالملوحة، وهي مشكلة متزايدة في العديد من المناطق المروية.
    o نقص المغذيات (Nutrient Deficiency): تطوير أصناف أكثر كفاءة في امتصاص واستخدام العناصر الغذائية من التربة، مثل النيتروجين والفوسفور، مما يقلل الحاجة للأسمدة الكيماوية.

ما وراء المختبر: نحو زراعة مستدامة وأمن غذائي عالمي

إن تداعيات هذا الإنجاز تتجاوز حدود المختبرات ومحطات الأبحاث لتصل إلى حقول المزارعين وموائد المستهلكين، ولتلعب دورًا محوريًا في تشكيل مستقبل الزراعة والأمن الغذائي:
• التكيف مع تغير المناخ: إن تطوير سلالات قمح أكثر قدرة على تحمل الجفاف والحرارة والملوحة، وأكثر كفاءة في استخدام المياه والمغذيات، هو أمر بالغ الأهمية لضمان استدامة إنتاج القمح في مواجهة تحديات تغير المناخ. هذا يوفر للمزارعين أدوات أفضل لمواجهة تقلبات الطقس والحفاظ على سبل عيشهم.
• تعزيز ممارسات الزراعة المستدامة:
o تقليل الاعتماد على المبيدات الكيماوية من خلال تطوير أصناف مقاومة للأمراض والآفات بشكل طبيعي.
o تقليل الحاجة للأسمدة الكيماوية من خلال تحسين كفاءة استخدام العناصر الغذائية.
o المساهمة في الحفاظ على التنوع البيولوجي من خلال تقليل الأثر البيئي للزراعة.
• الزراعة الدقيقة (Precision Agriculture): يمكن دمج المعلومات الجينومية للأصناف المختلفة مع بيانات الاستشعار عن بعد، وأنظمة المعلومات الجغرافية، وتقنيات إدارة الحقول الذكية. يمكن للمزارعين اختيار الأصناف الأنسب تمامًا لظروف حقولهم الخاصة (نوع التربة، المناخ المحلي، توفر المياه)، وتطبيق المدخلات (مياه، أسمدة) بالكميات الدقيقة وفي الأوقات المثلى، مما يزيد الإنتاجية ويقلل الهدر والتكاليف والأثر البيئي.
• سد الفجوة الغذائية العالمية:
o زيادة إمكانات الغلة: كل زيادة مئوية في إنتاجية القمح تترجم إلى ملايين الأطنان الإضافية من الغذاء. هذا ضروري لتلبية الطلب المتزايد لسكان العالم.
o تحسين الأمن الغذائي في المناطق الهامشية: يمكن تطوير أصناف قمح مكيفة خصيصًا للنمو في الأراضي الأقل خصوبة أو في ظل ظروف مناخية صعبة، مما يوسع من رقعة زراعة القمح ويوفر مصدر غذاء ودخل للمجتمعات الضعيفة.
o استجابة أسرع للتهديدات الناشئة: إذا ظهر مرض جديد أو سلالة آفة جديدة تهدد محصول القمح، فإن وجود الخريطة الجينومية الكاملة سيمكن العلماء من البحث بسرعة في بنوك الأصول الوراثية أو الأقارب البرية عن جينات مقاومة، وفهم آلياتها، ودمجها في الأصناف المزروعة في وقت قياسي.

نموذج يُحتذى به: تأثير مضاعف على علوم النبات

إن التقنيات والمنهجيات التي استخدمت بنجاح في فك شيفرة جينوم القمح المعقد ستكون بمثابة دليل ونموذج لتحليل جينومات المحاصيل الأخرى ذات التراكيب الوراثية المعقدة والمتعددة الصبغيات، مثل القطن، وقصب السكر، والشوفان، والبطاطس، والبن. كل تقدم في فهم جينوم محصول رئيسي يفتح الباب أمام تقدم مماثل في محاصيل أخرى، مما يخلق تأثيرًا مضاعفًا يعود بالنفع على الزراعة العالمية ككل.
الطريق إلى الأمام: تحديات وفرص واعدة
على الرغم من الإثارة والتفاؤل الكبيرين اللذين يجلبهما هذا الإنجاز، فإن الطريق ما زال طويلاً. إن الحصول على التسلسل الجينومي الكامل هو خطوة أولى حاسمة، ولكنه ليس نهاية المطاف:
• من التسلسل إلى الوظيفة (From Sequence to Function): التحدي الأكبر الآن هو فهم وظيفة كل جين من عشرات الآلاف من الجينات، وكيف تتفاعل مع بعضها البعض ومع البيئة لتحديد صفات النبات. هذا يتطلب جهودًا مكثفة في مجال الجينوم الوظيفي، والتحليلات الحيوية، والتجارب المخبرية والحقلية.
• إدارة البيانات الضخمة (Big Data): تولد أبحاث الجينوم كميات هائلة من البيانات التي تتطلب بنى تحتية حاسوبية قوية، وخوارزميات تحليل متطورة، وخبراء في المعلوماتية الحيوية لتحليلها وتفسيرها.
• ترجمة الاكتشافات إلى حلول عملية (Bridging the Lab-to-Farm Gap): هناك فجوة زمنية وتحديات لوجستية وتنظيمية بين الاكتشاف العلمي في المختبر وتوفير صنف جديد ومحسن للمزارع. يتطلب الأمر استثمارات في برامج التربية التطبيقية، وأنظمة إنتاج البذور وتوزيعها، وإرشاد زراعي فعال.
• الاعتبارات الأخلاقية والمجتمعية: يجب أن يواكب التقدم العلمي نقاش مجتمعي واسع حول استخدام التقنيات الحديثة مثل التحرير الجيني، وضمان القبول العام، ومعالجة أي مخاوف محتملة تتعلق بالسلامة أو التأثيرات البيئية.
• ضمان الوصول العادل (Equitable Access): من الضروري ضمان أن فوائد هذه التقنيات تصل إلى جميع المزارعين، بمن فيهم صغار المزارعين في البلدان النامية، وألا تزيد من الفجوة بين الزراعات المتقدمة والتقليدية.
• الاستثمار المستدام في البحث العلمي: يجب على الحكومات والمؤسسات الدولية والقطاع الخاص مواصلة الاستثمار بقوة في البحث والتطوير الزراعي، فهو حجر الزاوية في مواجهة تحديات المستقبل.

فجر جديد لزراعة القمح ومستقبل البشرية

إن اكتمال رسم أول خريطة جينوم للقمح سداسي الصبغيات من التيلومير إلى التيلومير على يد العلماء الصينيين هو أكثر من مجرد إنجاز علمي باهر؛ إنه إعلان عن فجر جديد في قدرتنا على فهم وتحسين هذا المحصول الذي لا غنى عنه لحياة المليارات. كعالم قضى أكثر من ثلاثة عقود في دراسة خبايا الوراثة الجزيئية وتطبيقاتها، أرى في هذا الاكتشاف تتويجًا لعقود من البحث المضني، وفي الوقت نفسه، نقطة انطلاق لإمكانيات لا حدود لها.
لقد وضع هذا العمل الأساس العلمي المتين الذي سيمكننا من تسريع وتيرة الابتكار في تربية القمح بشكل لم يسبق له مثيل. إنه يمنحنا الأدوات اللازمة لتطوير أصناف قمح ليست فقط أكثر إنتاجية، بل أيضًا أكثر قدرة على التكيف مع مناخنا المتغير، وأكثر كفاءة في استخدام مواردنا الثمينة، وأكثر ثراءً من الناحية الغذائية.
إن التحديات التي تواجه الأمن الغذائي العالمي هائلة، ولكن مع كل اختراق علمي من هذا القبيل، تتجدد ثقتنا في قدرة العقل البشري على إيجاد الحلول. هذه الخريطة الجينية الشاملة للقمح ليست مجرد مجموعة من البيانات، بل هي وعد بمستقبل يمكن فيه تسخير قوة العلم لضمان أن يظل القمح، هذا العطاء الذهبي، مصدرًا للغذاء والرخاء للأجيال القادمة في كل أنحاء العالم. إنها شهادة على أن الاستثمار في العلم هو استثمار في مستقبلنا المشترك.

طارق قابيل
Author: طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير...

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


غير مصنف

User Avatar

د. طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير علمه وخدمة مجتمعه. وقد ترك بصمة واضحة في مجال العلوم الأساسية، وفتح آفاقًا جديدة للباحثين الشبان.


عدد مقالات الكاتب : 3
الملف الشخصي للكاتب :

التالي

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *