إن التنشئة الاجتماعية بين الجنسين هي العملية التي يتم من خلالها توعيه الجنسين بمسؤوليتهما المنفصلة، بعبارة أخرى هو تعلم التوقعات الاجتماعية التي تخص جنسًا معينًا. هناك العديد من التعريفات والتفسيرات التي قدمها علماء الاجتماع لتسليط الضوء على جوانب التنشئة الاجتماعية بين الجنسين وتعريف ماهي الذكورة والأنوثة. فما هي أهم العوامل التي تؤثر في توزيع الأدوار؟ وما مدي تأثير كلا من التنوع البيولوجي وتقاليد المجتمع في فرض الدور الاجتماعي للفرد؟
محتويات المقال :
الجنس من المنظور الاجتماعي
الجنس والهوية أمران حاسمان في تحديد أدوار الفرد في المجتمع، يخلق تصور المجتمع والقوالب النمطية حول النوع الاجتماعي حاجة للتوافق مع المعايير الجنسانية التي يمليها المجتمع. فأدوار الجنسين والصور النمطية تجعل الأطفال في سن مبكرة يعرضون السلوك المناسب للجنس كما تُمليه الأعراف الثقافية.
فهم الجنس: التحليل النفسي للجنس
ينظر علماء النفس إلى الجنس على أنه شرط أن يكون الفرد ذكرًا أو أنثى. في السياق الإنساني، يعكس التمييز بين الجنسين استخدام هذه المصطلحات، فهو يشير عادةً إلى الجوانب البيولوجية للذكور أو الإناث. كما يشير إلى الجوانب النفسية والسلوكية والاجتماعية والثقافية لكونك ذكرًا أو أنثى. فالجنس هو جانب أساسي لاستكشاف الهوية الاجتماعية، فهو يحدد على الأغلب أدوار وتوقعات الفرد في بنيات المجتمع الموجودة مسبقًا.
ولفهم علم نفس الجنس وتأثيراته على الهوية الشخصية والداخلية للفرد؛ طور علماء النفس عِدة نظريات حول الجنس البيولوجي والجنس الاجتماعي والثقافي. والتي تهدف إلى فهم تشكيل وتطوير أداء الجنسين وتفسيرات الفروق بينمها. كذلك التحيزات والتوافق والقوالب النمطية.
ستتناول المقالة التالية إحدى أهم الأعمال البحثية حول علاقة التباين الجنسي وأدوار العمل في المجتمع وهي رواية (الجنس والمزاج قي ثلاث مجتمعات بدائية- Sex and temperament in three primitive societies). والتي تطرح سؤالاً في غاية الأهمية: هل الذكورة والأنوثة صفات مكتسبة أكثر من كونها تصنيفات بيولوجية؟
مارجريت ميد – الجنس والمزاج في ثلاث مجتمعات بدائية
مارجريت ميد- Margaret Mead، عالمة الأنثروبولوجيا الثقافية، تمكنت من تحقيق عملٍ رائد من خلال كونها من أوائل الأفراد الذين أثبتوا أهمية تمايز الثقافات وتأثير ذلك على السلوكيات والمزاجات الفردية. فقد ربطت ميد هذه الجوانب بالجنس، وألفت ما يصل الى 20 كتابًا بناءًا على أبحاثها.
تتناول روايتها، الجنس والمزاج في ثلاث مجتمعات بدائية التي صدرت عام 1935 مظاهر الدور الاجتماعي في ثلاث قبائل في أجزاء مختلفة من غينيا الجديدة. قررت ميد أن تستكشف حياة القبائل الثلات: أرابيش– Arapedh، مندوجومور– Mundugumor، تشامبولي– Tchambuli طوال رحلة حياة الأفراد هناك من الطفولة حتى البلوغ.
فتتحدى الرواية المفاهيم التقليدية المتعلقة بمعنى الأنوثة والذكورة. ذلك من خلال تحديد التباين في أدوار الجنسين الموجودة في جميع الثقافات في العالم. كما تُثير روايتها هذه النقاش الكلاسيكي حول “الطبيعية مقابل التنشئة” والتفاعل الحاصل بين الإثنين في تحديد الاختلافات بين الرجال والنساء.
لخصت مارجريت ميد عِدة ملاحظات أساسية تساعدنا في فهم كيف أن التنوع أو التقسيم الجنسي التقليدي للعمل على أساس أدوار الجنسين، يتم تقسيمه بالكامل من قِبل المجتمع الذي نعيش فيه اليوم وليس له علاقة ببيولوجياتنا.
1- قبيلة أرابيش- Arapesh
بالنسبة لقبيلة أرابيش، خَلُصَت الملاحظات التى قدمتها ميد إلى أن الأفراد الذين ينتمون إلى هذه الجماعة كانوا من عشاق السلام، ليس لديهم وعي بمفاهيم مثل “الحرب” و “الاعتداء” و”اللجوء للحرب وأدواته”. أدى هذا الميل نحو السلام وغياب مفهوم الحرب إلى نشوء مجتمع بلا مناصب قيادية، فكلهم مسئولون ويستمتعون بالعديد من الأنشطة الترفيهية مثل البستنة والصيد. بالإضافة إلى الأنشطة التى تقع في جُعبة مهام الأم كتربية الأطفال والعناية بهم، يتشاركها الرجال والنساء سويًا في تناغم قوي. فإن أهم ما يميز ويهتم به أفراد هذه القبيلة هو اللين واللطف، فهي صفة أساسية.
من ناحية الدور الجنسي، فكما ذكرنا، تنسج القبيلة المساواة في تقسيم العمل بين الرجال والنساء. إذ أن هناك مشاركة لكلا الجنسين- ذكورًا وإناثًا- فيما يُسمى بـ ” الأدوار الأمومية” مثل تربية الأطفال. فتربية الأطفال كانت مهمة الأب والأم حد على حد سواء. يتم أداؤها بإخلاص. توصلت ميد إلى أن أرابيش في الغالب أمومية في جوانبها الذكورية، أنثوية في جوانبها الاجتماعية.
2- قبيلة موندوجومور- Mondugumor
تميزت قبيلة موندوجومور بشكل حاد مع أرابيش، بسبب الصفات التي يمتلكونها. السمة البارزة لهذه القبيلة هي نظام “التجارة”، الذي يتفرع داخل الهياكل الاجتماعية للأسرة. بمعنى أن رجال الأسرة سواء كانوا آباءًا أو أبناء، لهم الحق في التجارة بالنساء مقابل زوجة أخرى وهكذا. إذ يمكن للأب أن يتاجر بالبنت أو الأخت. ويمكن للإبن أن يتاجر بالأخت مقابل الزوجة،.. ونتيجة لذلك، ساد شعور بالتنافس والعداء بين الأب والابن. علاوة على ذلك، غالبًا ما كانت الأمهات ينظرن إلى بناتهن على أنهن ” منافسات جنسيات” ويستكنن مشاعر الغيرة تجاة بناتهن.
في هذا النموذج الأسري، كان يُنظر للبنات على أنهن حلفاء لآباءهن، وكان يُنظر للأبناء على أنم حلفاء لأمهاتهم. مما خلق نوعًا من الانقسام في الأسرة. حيث أدت مشاعر العداء والريبة والوحشية -التى يتقاسمها الرجال والنساء على حد سواء- إلى تفاقم هذا الانقسام. فالإعلان عن الحمل داخل الأسرة كان يؤدي إلى نزاع زوجي حتى ولادة الطفل – ذكرًا كان أو أنثى- إذ يعني ذلك بدء التنافس.
بالنسبة للأطفال تلك القبيلة، تبدأ رحلة حياتهم بشكل سلبي؛ بسبب البيئة المشحونة التى ينبتون فيها. تستمر هذه التجربة السلبية طوال فترة حياة الطفل حتى مرحلة البلوغ، فيصبح جزءًا من النزاع وهكذا. كما أدت هذه الشخصيات القوية والعدوانية وربما الوحشية لهؤلاء الأفراد إلى كثرة نشوب الحروب والعدوان، مما جعلها قبيلة صيد بالدرجة الأولى.
3- قبيلة تشامبولي- Tchambuli
كان لأهل تشامبولي خصائص وميزات تتناقض بشدة مع سمات أرابيش وموندوجومور. في الواقع كان لديهم سمات فريدة من نوعها، فقد صورت قبيلتهم انعكاسًا في الأدوار التي يؤديها الرجال والنساء- عما هو شائع في العالم– ، أي أن الأدوار الجنسية التقليدية للرجال والنساء تبدلت في هذا المجتمع.
من ناحية الدور الأدائي فالنساء في هذه القبيلة قامت بالدور الغير تقليدي، فهن من يقمن بالتجارة والصيد والنسيج وكسب قوت اليوم لأسرهم. بالإضافة لكونهن مقدمات العاطفة والرعاية؛ فهن لا يعتنين بأطفالهن فحسب، بل يدللن ويعاملن أزواجهن أيضًا كأولاد صِغار وليسوا نظرائهم.
من ناحية أخرى، يقوم رجال هذه القبيلة بمزيد من الأنشطة الترفيهية والتزيين والتجميل. وقد شاع ما يُسمى بـ “بيوت النساء” حيث تقوم النساء بأدوارهن المنزلية والتمتع بصحبة بعضهن البعض. مقابل ذلك كان هناك بيوت “الطقوس والترفيه” خاصة بالرجال.
إذًا، يمكن لك أن تتخيل بسهولة كيف كان نظام السُلطة في هذه القبيلة التي تبدلت فيها معايير ومفاهيم الأنوثة والذكورة، فالمجتمع كله بأيديّ النساء. فما زلن يبرزن كأبوين أساسيين، ساعياتٍ إلى تحقيق التوازن بين حياتهن المنزلية وحياتهن العملية.
ما أهمية دراسة الجنس والمزاج في ثلاث مجتمعات مجتمعات مختلفة؟
صرَّحت ميد أنه بينما قامت كل ثقافة بطريقة ما بإضفاء الطابع المؤسسي على أدوار الرجال والنساء، إلا أنها لم تكن بالضرورة من حيث التناقضات بين الشخصيات المحددة لكلا الجنسين ولا من حيث الهيمنة والخضوع. فكما ذكرنا سابقًا، ساعدت دراسة الجنس والمزاج في ثلاث مجتمعات بدائية في هذه القبائل الثلاث على فهم كيفية اختلاف أدوار الجنسين في عِدة بيئات مختلفة جغرافيًا وثقافيًا وتكيفًا. وقد توصلت ميد إلى أربعة استنتاجات أساسية هما:
أولاً: لا يوجد أساس للسلوك الذكوري أو الأنثوي المرتبط بالجنس.
ثانيًا: كانت الاختلافات في الأدوار الجنسية للرجال والنساء في هذه القبائل الثلاث بمثابة إثبات أو دليل على أن التكيف الثقافي والاجتماعي للأفراد كان له تأثيرًا أكبر على سلوكهم وأدوراهم مقارنةً بالتأثير البيولوجي.
ثالثا: تؤدي الثقافات المختلفة إلى تكوين شخصيات مختلفة من حيث التنشئة.
رابعًا: تربية وتنشئة الفرد أكثر أهمية وتأثيرًا من الطبيعة.
ملاحظات حول نظرية ميد
لقد ذكرت ميد أن الغرض من هذا العمل لم يكن فقط لتحديد الأدوار النمطية للجنسين، لكن أيضًا لمراقبة وتحليل ثقافة تختلف فيها المشاعر بشكل صارخ عن تلك الموجودة في العالم في ذلك الوقت.
وعلى الرغم من أن العمل يحظى بالتقدير الكبير لوجهة النظر البناءة التي يقدمها حول الصور النمطية المرتبطة بأدوار النوع الاجتماعي والجنسي. إلا أنه أيضًا تلقى انتقادات بسبب حتميته الثقافية الصارمة. فعندما تظهر مسألة الانحرافات الثقافية أو المجتمعية في الصورة، كانت تلجأ ميد إلى تفسير نفسي أكثر يعترف بمدى وجود المتمردين في كل ثقافة. وكيف لا ينجح المجتمع دائمًا في فرض قِيمه وتعريفاته. إذ يُظهر هؤلاء المتمردون تباينًا بين ما يتوقع المجتمع منهم وبين ميولهم الفطرية. كما أشاد علماء الاجتماع بعمل ميد لإنه يصور كيف يمكن استنتاج المبادئ الاجتماعية
الخلاصة
من خلال أوراق ميد البحثية، يمكننا أن نفهم كيف أن المعتقدات حول التقسيم الجنسي للعمل في المجتمع التى تستند إلى بيولوجيا الرجال والنساء هي حجة لا أساس لها. لذلك، من الخطر على المجتمع أن يُصرح بالخصائص المحددة التي يجب أن يمتلكها الرجال والنساء بسبب جنسهم (معايير الذكورة والأنوثة). من الخطأ وصف بعض الشخصيات بأنها أنثوية وأخرى على أنها ذكورية. فمن أجل مواجهة هذه المشكلة، هناك حاجة لقبول السمات الأنثوية والذكورية في كل من الرجال والنساء. بل يمكن القول إن تصنيف السمات هو أساس المشكلة. فمن الممكن أن تتنوع وتتداخل السمات التي يمتلكها الفرد الواحد.
المصادر
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :