إنها الشمس في أفق السماء، ترسل ما تبقى من أشعتها في نهاية هذا اليوم الحزين. في اللحظات العادية للبشرية، فإن هذا الأمر لا يعدو مشهدًا رومنسيًا جميلًا، أو على الأقل نهايةً عاديةً ليوم عادي. لكن، إذا كانت هذه اللحظة هي لحظة نهاية العالم، حرفيًا، ومجازيًا، فلا أعتقد أن الأمرَ سيكون مريحًا. يطل إنسان النياندرتال من فتحة كهفه على ذلك الغروب الكئيب للشمس. أمام عينيه، السماء، التي بدأت تتلون باللون الرمادي، وتنخر أذنيه نقاط المياه التي نخرت أيضًا طبقات الزمن. تصدر صوتًا اشبه بحازوقة الأطفال، لكن وللأسف، لم يعد هنالك أطفال، ولا أثر لإنسان أخر، قد يشارك هذا البائس غروبه الأخير. انقرض إنسان النياندرتال .
لكن وبعد ألاف السنين، عاد الصوت ليصدح من جديد في هذا الكهف القديم. صوت المعدات الأثرية لعلماء الأثار، وصوتٌ أخر لأغنية الإنسان الأخير.
محتويات المقال :
أحد عشر سنًا
لم يرحل إنسان النياندرتال عن هذه الأرض بدون أن يخلف لنا شيئًا لنتذكره. بل شاءت الصدفة أيضًا أن يكون أثرًا ربما يدل على قاتله. إحدى عشر سنًا وجدوا سنة 1910 في كهف 《La Cotte de St. Brelade》 على جزيرة 《جرسي – Jersey》 قرب السواحل الشمالية الغربية لفرنسا. اعتبرت هذه الأسنان لفترة طويلة لعدة أفراد من النياندرتال. لكن دراسةً حديثة أجريت عليها أثبتت أنها تعود لنوع هجين من الإنسان. لنوع يتداخل فيه النياندرتال مع الإنسان العاقل في مرحلة عاش فيها النوعان معًا.
أظهرت الدراسة أن إثنين على الأقل من الأسنان المدروسة تحمل خصائص تعود للنياندرتال و للإنسان العاقل على حد السواء. الدراسة المنشورة في مجلة Journal of Human Evolution والتي قام بها باحثون من 《متحف التاريخ الطبيعي – Natural History Museum》 مع فريق من 《معهد الاثار -institute of archaeology》 وفريق من 《جامعة كنت- university of kent》 أكدت أن جذور الأسنان (Root) تشبه كثيرًا جذور أسنان النياندرتال، لكن 《العنق -Neck》 《والتاج- Crown》 في السن فهي تشبه أسنان الإنسان الحديث اليوم.
استعمل الباحثون 《التصوير المقطعي المحوسب – Computed tomography 》كتقنية لمسح الأسنان من أجل دراستهم وهذه التقنية أدت إلى اظهار تفاصيل دقيقة لم تكن متاحة من قبل.
إن أهمية هذه الدراسة تكمن في أن عمر هذه الأسنان يعود لأقل من 48 ألف سنة. أي بذات الفترة التي عاش فيها الإنسان العاقل مع إنسان النياندرتال. هذه المرحلة الانتقالية كانت مجهولة سابقا وربما نكون الأن قد أزحنا الستار عن السبب الحقيقي لانقراض إنسان النياندرتال.
أشباه البشر
إن هذا الكهف على جزيرة جيرسي قد سكن من 200 ألف سنة. وبالإضافة إلى الأسنان فقد كشفت الحفريات التي أجريت فيه في أوائل القرن العشرين عن 20 ألف أداة حجرية بالإضافة لعظام ماموث ووحيد القرن الصوفي. هذا الكهف كان بحجمه الكبير نادرًا جدًا وقد سكن لألاف السنين.
أما النياندرتال الذي ظهر من 400 ألف سنة تقريبًا فقد سكن هذا الكهف من 200 ألف سنة. وانتشر في منطقة كبيرة من أوروبا الغربية إلى سيبيريا. كان النياندرتاليون أقصر وجسمهم أضخم من جسم الإنسان العاقل. وهؤلاء البشر كانوا أقوى عضليًا من العقلاء وأدمغتهم أكبر وكانوا أكثر تكيفا مع المناخات الباردة. استخدموا النار والأدوات وكانوا صيادين جيدين ويبدوا أنهم اعتنوا بمرضاهم وعجزتهم. (اكتشف علماء الأثار عظاما لنياندرتال عاشوا عدة سنين مع إعاقات جسدية حادة مما يدل على أن أقاربهم كانوا يعتنون بهم.) كانت الفكرة السائدة عن أن النياندرتال كانوا سكان كهوف همجيين وأغبياء لكنها تغيرت اليوم.
التواصل بين الإنسان العاقل والنياندرتال قد حصل تقريبا من 45 ألف سنة. هذه المجتمعات التي وجدت خلال العصر الحجري القديم الأوسط هي دليل محتمل على أن الانقراض ربما ليس أفضل كلمة لوصف مصير إنسان النياندرتال.
نرشح لك أيضًا: كيف يمكن لإبهامٍ صغير أن يحمل حضارةً بأكملها؟
علاقة حميمية قاتلة
لم يصل الإنسان العاقل إلى أوروبا الا قبل 70 ألف سنة تقريبا. فقد انتقل أولًا إلى الجزيرة العربية ومنها إلى أوراسيا. وعندما وصل الإنسان العاقل إلى الجزيرة العربية كان معظم أوراسيا مستوطنًا حينها من قبل أنواع بشرية أخرى. وبالفعل مع استقرار الإنسان العاقل في مناطقه الجديدة بدأت أعداد هذه المجموعات البشرية الأصلية تتناقص حتى انقرضت نهائيا.
فما الذي حدث لهم؟
علميًا هنالك عدة نظريات لكن معظمها يدور حول نظريتين أساسيتين: 《نظرية التهجين – Interbreeding Theory》. والتي تخبرنا عن انجذاب وعلاقات جنسية وامتزاج بين الأنواع. وحسب هذه النظرية تزاوج المهاجرون الأفارقة الذين انتشروا حول العالم مع مجموعات بشرية أخرى وبشر اليوم هم نتاج هذا التهجين.
على سبيل المثال عندما وصل العقلاء الى أوروبا التقوا بالنياندرتال وعاشوا معًا لمدة 5000 سنة قبل أن يختفي الأخير. وفقًا لنظرية التهجين عندما انتشر العقلاء في أراضي مجموعة النياندرتال فإن المجموعتين تزاوجتا معًا حتى اندمجتا. فإذا كان هذا هو ما حدث فإن الأوراسيين اليوم ليسوا عقلاء أنقياء فهم خليط من العقلاء والنياندرتال.
تسرد النظرية المضادة والتي تسمى《 نظرية الإحلال Replacement- Theory》 قصة مختلفة محورها الإختلاف والنفور وربما الإبادة الجماعية. وفقًا لهذه النظرية فإن العقلاء وبقية الأنواع البشرية كانت لديهم اختلافات تشريحية وعادات تزاوج مختلفة بل وحتى روائح أجسام مختلفة. وإن الاهتمام الجنسي لأحد النوعين بالأخر كان ضعيفًا. فحتى لو وقع روميو نياندرتال في حب جوليت الإنسان العاقل فلن يمكنهما إنجاب أبناء يتمتعون بالخصوبة. فالفجوة الجينية الفاصلة بين المجموعتين لا يمكن تجاوزها اصلًا.
بقت المجموعتان متمايزتان تمامًا. وعندما مات النياندرتال أو قُتل ماتت جيناته معه. فوفقًا لهذا الرأي فان العقلاء حلوا محل كل المجموعات البشرية السابقة دون أن يندمجوا معًا. فإذا كان هذا ما حدث فإن أنساب جميع البشر المعاصرين يمكن ارجاعها حصريا إلى شرق أفريقيا قبل 70 ألف سنة. إن كل واحد منا اليوم هو عاقل نقي.
لكن وعلى العكس فإذا كانت نظرية التهجين صحيحة فستكون هناك اختلافات جينية بين الأفارقة والأوروبيين والأسيويين تعود لمئات ألاف السنين.
البقاء للأصلح
كانت نظرية الإحلال هي الرائجة سابقًا وقد سندتها أدلة أثرية وكانت أصح من الناحية السياسية. لكن ذلك انتهى عام 2010 عندما نشرت نتائج جهود أربع سنوات لتحديد جينوم النياندرتال.
كانت الجهود كلها مركزة لعقد مقارنة بين جينوم النياندرتال وجينوم الإنسان الحديث. حيث اتضح أنه ما بين 1-4 بالمئة من جينوم البشر المميز للمجموعات المعاصرة في الشرق الأوسط وأوروبا هو جينوم نياندرتال. أيضًا بعدها بعدة أشهر عثر على أحفورة عظمة إصبع تعود إلى فرد من نوع دينوسوفا. أظهرت أن نسبة 6 % من جينوم سكان أستراليا الأصليين المعاصرين هو جينوم دينوسوفا.
لكن بما أن النسبة هذه قليلة، صعب الحديث عن اندماج تام بين الأنواع. يبدو أنه من 50 ألف سنة كان العقلاء والنياندرتال والدينوسوفا قادرين على التزاوج وإنتاج ذرية. يمكن أن نفكر الأن في أننا كبشر عقلاء عاشرنا نوعًا مختلفًا وأنجبنا منه أولاد!
يمكن للدراسة المنشورة حديثًا في مجلة تطور الإنسان أن تكون من أبرز الأدلة التي تدعم نظرية التهجين. فهي قد سلطت الضوء على المرحلة الانتقالية التي تزاوج فيها النياندرتال مع الإنسان العاقل. وامتص فيها الإنسان العاقل جينات النياندرتال ومع مرور الوقت لم يعد هنالك وجود للنياندرتال.
لكن هل يوجد تفسير أخر؟
إن التفسير الآخر الوحيد لظهور هذا النوع الجديد المهجن من الإنسان هو أن هذه المجموعة قد طورت في بيئة مغلقة مزيجا غير عادي من السمات بمعزل عن غيرها. لكن في هذا الوقت في العصر الجليدي الأخير وبسبب انخفاض مستوى سطح البحر، كانت جيرسي مرتبطة بالتأكيد بفرنسا المجاورة. لذا فإن مستوى العزلة طويل الأمد أمر غير مرجح.
لا تزال الصورة غير واضحة كليًا سيعمل الفريق الآن على تحليل DNA لعظام هذا النوع الهجين من أجل تأكيد وجود هذه المرحلة الانتقالية. عندها ستميل الكفة إلى الفرضية القائلة بأن الإنسان العاقل استطاع أن يمتص جينات النياندرتال ويدفع به إلى الانقراض.
عاش الإنسان العاقل خلال العشرة ألاف سنة الماضية وهو يألف كثيرًا أنه النوع البشري الوحيد لدرجة أنه من الصعب علينا تصور احتمال أخر. سهل عدم وجود إخوة وأخوات لنا أن نعتبر أنفسنا صفوة الخلق، لكن ماذا لو بقي النياندرتال والدينوسوفا جنبًا إلى جنب مع الإنسان العاقل؟ أي نوع من المجتمعات والسياسات والبنى الثقافية كانت ستنشأ؟ للأسف لن نجد الجواب فهذه الأنواع قد انقرضت للأبد.
*ملاحظة: استعان الكاتب إلى جانب البحث المنشور في مجلة Journal of Human Evolution بكتاب العاقل تاريخ مختصر للجنس البشري للكاتب يوفال نوح هَراري وبكتاب أقارب Kindred للعالمة ريبيكا راغ سايكس.
المصادر:
- الدراسة المنشورة في مجلة Journal of Human Evolution
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :