بينما يتصارع العالم مع التحديات المتزايدة المتمثلة في تغير المناخ، يتجه العلماء وصناع السياسات بشكل متزايد إلى طاقة الاندماج النووي باعتبارها وسيلة محتملة لتغيير قواعد الطاقة في العالم. مصدر الطاقة الثوري هذا، يوصف منذ فترة طويلة بأنه حل “نظيف” و”متوفر” و”آمن”. ولكن هل هو حقًا مصدر الطاقة الذي كنا نبحث عنه؟ وهل الاندماج النووي خالي من المشكلات؟
يعمل الباحثون في أفضل الجامعات، مثل جامعة يورك، بلا كلل لجلب طاقة الاندماج إلى الواجهة. ولكن وسط هذه الإثارة، من الضروري الرجوع خطوة إلى الوراء ودراسة القضايا الأساسية التي يمكن أن تعيق نجاحها. وكما تقول صوفي كوجان، مرشحة الدكتوراه، من المهم دراسة الضجيج المحيط بالطاقة الاندماجية واستكشاف التوترات التي قد تنشأ أثناء تطورها.
محتويات المقال :
البحث عن مصدر للطاقة النظيفة
إن البحث عن مصدر للطاقة النظيفة ليس بالأمر الجديد؛ يعود تاريخ عملية البحث إلى الخمسينيات من القرن الماضي. عندما أصبح العالم على دراية بمخاطر تغير المناخ لأول مرة. تم استكشاف مفهوم الاندماج النووي، وهو العملية التي تزود الشمس بالطاقة، لأول مرة كحل محتمل لاحتياجاتنا من الطاقة. ومع ذلك، لم يبدأ العلماء في إلقاء نظرة فاحصة على إمكانية تسخير طاقة الاندماج النووي على أرض الواقع إلا في الثمانينيات.
كانت الفكرة بسيطة: إذا تمكنا من تكرار عملية الاندماج التي تحدث في الشمس، فيمكننا إنشاء مصدر غير محدود تقريبًا من الطاقة النظيفة. وكانت الفوائد تتضمن عدم انبعاث الغازات الدفيئة، وعدم وجود نفايات مشعة طويلة العمر، وتوفير مصدر موثوق للطاقة. لقد كان بمثابة الكأس المقدسة لإنتاج الطاقة.
وبالمضي قدمًا إلى يومنا هذا، أصبح البحث عن مصدر للطاقة النظيفة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. لم يعد تغير المناخ يشكل تهديدًا بعيدًا؛ إنها حقيقة قاسية نواجهها اليوم. والطاقة الاندماجية، التي كانت تعتبر ذات يوم حلمًا بعيد المنال، يجري الآن السعي إليها كحل قابل للتطبيق.
التاريخ العلمي لطاقة الاندماج
يعود مفهوم تسخير الطاقة من الاندماج النووي إلى ثلاثينيات القرن العشرين. عندما اكتشف الفيزيائي مارك أوليفانت وفريقه أن اندماج نظائر الهيدروجين يطلق كمية هائلة من الطاقة. أثار هذا الاكتشاف الرائد سلسلة من ردود الفعل، حيث قام علماء مثل هانز بيث وإدوارد تيلر باستكشاف إمكانية تسخير طاقة الاندماج النووي.
في الخمسينيات من القرن الماضي، تم بناء أول مفاعلات تجريبية للاندماج النووي، مما يمثل بداية حقبة جديدة في أبحاث الاندماج. اعتمدت هذه المفاعلات المبكرة على عملية تسمى الحصر المغناطيسي (Magnetic confinement fusion)، حيث تحتوي المجالات المغناطيسية القوية على البلازما وتسخنها لتحقيق تفاعلات الاندماج.
كان أحد رواد أبحاث الاندماج هو الفيزيائي ليمان سبيتزر، الذي وضع في الخمسينيات تصورًا للستيلاراتور (Stellarator). وهو جهاز يستخدم مجالًا مغناطيسيًا ملتويًا ثلاثي الأبعاد لاحتواء البلازما. مهد هذا التصميم الطريق لمفاعلات الاندماج اللاحقة، مثل توكاماك، الذي استخدم مجالًا مغناطيسيًا حلقيًا (على شكل كعكة دائرية) لحصر البلازما.
شهدت الثمانينيات تقدمًا كبيرًا في تطوير مفاعل توروس الأوروبي المشترك (JET)، والذي حقق أول تفاعل اندماجي متحكم فيه عام 1991. وقد أثار هذا النجاح اهتمامًا واسع النطاق بأبحاث الاندماج.
وقد أدى هذا الاهتمام إلى إقامة تعاون دولي وتطوير المزيد من الأبحاث، مثل مشروع المفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي (ITER). واليوم، تستمر أبحاث الاندماج في التقدم، حيث يستكشف العلماء تقنيات جديدة، مثل الاندماج بحصر القصور الذاتي (Inertial confinement fusion).
وعود ومخاطر الاندماج واعتبارات أخلاقية
ومع تزايد جاذبية مصادر الطاقة الخالية من الكربون ومنخفضة النفايات والموثوقة والآمنة نسبياً، تتزايد أيضاً الضجة المحيطة بالاندماج النووي. من السهل أن ننشغل بالإثارة التي تحيط بالحل الذي يبدو مثاليًا للتحديات المجتمعية. ومع ذلك، من المهم أن نرجع خطوة إلى الوراء ونفحص الوعود والمخاطر المتعلقة بالطاقة الاندماجية.
للوهلة الأولى، قد يبدو أن الاندماج النووي يقدم علاجًا سحريًا لمشاكل الطاقة في العالم. ويمكن أن يوفر مصدرًا ثابتًا وموثوقًا للطاقة، لا يتأثر بأنماط الطقس أو التغيرات الموسمية. علاوة على ذلك، لا تنتج تفاعلات الاندماج أي انبعاثات غازات دفيئة أو نفايات مشعة طويلة العمر، مما يجعلها بديلاً جذابًا للوقود الأحفوري والطاقة النووية التقليدية.
ومع ذلك، تكمن شبكة معقدة من الاعتبارات الأخلاقية. قد يؤدي تطوير طاقة الاندماج إلى تفاقم القضايا البيئية والاجتماعية القائمة، مثل التوزيع غير العادل للموارد والحصول على الطاقة. فالمواد اللازمة لطاقة الاندماج، مثل الليثيوم والتنغستن والكوبالت، غالبًا ما يتم استخراجها من أراضي السكان الأصليين. كما أن سلاسل توريد هذه المواد محفوفة بالتوترات الجيوسياسية، مما يزيد من تعقيد الصورة.
كما يثير استخدام الزئبق في معالجة الليثيوم مخاوف بيئية وصحية. وعلاوة على ذلك، تهيمن الصين على إنتاج الزئبق، مما يضيف طبقة أخرى من التعقيد إلى سلسلة التوريد. ومع تسارع صناعة الاندماج النووي، من الضروري مواجهة هذه التوترات الأخلاقية بشكل مباشر، بدلاً من تهميشها في السعي لإيجاد حل للطاقة النظيفة.
علاوة على ذلك، فإن الجنوب العالمي الذي ساهم بأقل قدر في تغير المناخ، قد لا يتمتع بقدرة متساوية على الوصول إلى تكنولوجيا الاندماج النووي. مما يؤدي إلى إدامة عدم المساواة في الطاقة. من الضروري الاعتراف بهذه المخاطر المحتملة ومعالجتها، مما يضمن أن مصدر الطاقة الواعد هذا يفيد الجميع، وليس مجرد قلة مختارة.
حل عالمي للطاقة أم وصفة لعدم المساواة؟
في الوقت الحالي، تتمركز برامج الاندماج إلى حد كبير في الشمال العالمي حيث الطلب على الطاقة مستقر نسبيًا. ومع ذلك، فإن الجنوب العالمي يشهد نموًا متسارعًا في الطلب على الطاقة، مدفوعًا بالتوسع الحضري والتنمية الاقتصادية. وهذا يثير سؤالاً بالغ الأهمية: هل تفيد طاقة الاندماج أولئك الذين هم في أمس الحاجة إليها؟ أم أنها ستؤدي إلى إدامة الفوارق الموجودة؟
ولتجنب ترسيخ أوجه عدم المساواة الحالية، من المهم أن نعطي الأولوية لاستراتيجيات النشر العادل ومشاركة المعرفة. وهذا يعني الاستثمار في أبحاث الاندماج والتنمية في المناطق التي ستستفيد منها أكثر من غيرها، وضمان أن يكون للمجتمعات المحلية رأي في كيفية استخدام هذه التكنولوجيا.
وبينما نمضي قدماً في مجال الطاقة الاندماجية، يجب علينا أن نعترف بأن الوصول إلى الطاقة هو حق أساسي من حقوق الإنسان. وتقع على عاتقنا مسؤولية ضمان أن تكون هذه التكنولوجيا بمثابة حل عالمي للطاقة، وليس وصفة لعدم المساواة. ومن خلال القيام بذلك، يمكننا خلق مستقبل طاقة أكثر عدلاً واستدامة للجميع.
المصدر:
Fusion Is Coming, But Are We Ready For The Problems It Could Cause? / science alert
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :