لقد تصارع الفلاسفة لفترة طويلة مع مفهوم المعاناة، ولكن في الفلسفة الوجودية (Existentialism) تتلقى المعاناة أقصى استكشاف وتصنيف فلسفي لها. حيث يميز الفلاسفة الوجوديون بين مجرد “الألم” وأشكال المعاناة التي لها صبغة وجودية أكثر، مثل مشاعر اليأس والقلق والضيق. حيث تنبع هذه المشاعر من حقيقة أننا أفراد نتصارع من أجل المعنى في كون لا معنى له على ما يبدو. دعونا نتعرف على الوجودية وشرحها للمشاكل الوجودية.
في الآونة الأخيرة، حاول الباحثون والكتاب فهم وشرح هذه المخاوف الوجودية. على سبيل المثال، كتبت الفيلسوفة جينيفر جوسيتي فيرنيسي على نطاق واسع حول موضوع المعاناة الوجودية، وسلطت الضوء على تأثيرها على إحساسنا بالذات والهدف. وفي الوقت نفسه، استكشف الروائيون مثل ميلان كونديرا مفهوم عدم اليقين والقلق في أعمالهم، مشيرين إلى الحالة الإنسانية باعتبارها أصل معاناتنا.
محتويات المقال :
الألم مقابل القلق الوجودي
عندما نتحدث عن المعاناة، غالبًا ما نفكر في الألم الجسدي أو الانزعاج. لكن الفلاسفة الوجوديين يميزون بشكل حاسم بين مجرد “الألم” ونوع أكثر عمقا من المعاناة التي تنبع من وجودنا كبشر. هذا القلق الوجودي متجذر في حقيقة أننا أفراد نتصارع من أجل المعنى في كون لا معنى له على ما يبدو. إنه الشعور باليأس والقلق والحساسية تجاه الجوانب المأساوية أو القمعية للوجود التي يمكن أن تجعلنا نتساءل عن الهدف من حياتنا.
فكر في الأمر على هذا النحو، الألم يشبه الإحساس الحاد كالطعن، في حين أن القلق الوجودي يشبه الشعور المستمر والمزعج الذي لا يمكن تخفيفه بسهولة. يمكن علاج الألم بالأدوية أو العلاج الطبيعي، لكن القلق الوجودي يتطلب استكشافًا أعمق لحالتنا الإنسانية. وهذا الأخير هو ما يهتم به الفلاسفة الوجوديون أكثر، لأنه يصل إلى جوهر ما يعنيه أن تكون إنسانًا.
تاريخ فلسفي للمعاناة الوجودية
يمكن إرجاع إحدى أقدم المناقشات الفلسفية المسجلة حول المعاناة الوجودية إلى اليونانيين القدماء. يعتقد أرسطو، على سبيل المثال، أن البشر لديهم رغبة طبيعية في السعادة والإنجاز، والتي يمكن تحقيقها من خلال عيش حياة فاضلة. ومع ذلك، فقد أقر أيضًا بأن الحياة هشة وغير مؤكدة بطبيعتها، مما يجعل من الصعب تحقيق السعادة الدائمة.
وبالتقدم سريعًا إلى القرن التاسع عشر، نرى ظهور الوجودية كحركة فلسفية متميزة. حيث بدأ مفكرون مثل سورين كيركجارد وفريدريك نيتشه في استكشاف الحالة الإنسانية بطريقة أكثر عمقًا، مع التركيز على حرية الفرد ومسؤوليته في خلق المعنى الخاص به في الحياة.
غالبًا ما يُنسب إلى كيركيجارد، على وجه الخصوص، كونه أب الوجودية. حيث قال إن الوجود الإنساني يتسم بالمعاناة والقلق واليأس، والذي ينبع من عدم قدرتنا على معرفة المستقبل أو فهم العالم من حولنا. كان يعتقد أن الأفراد يجب أن يتحملوا المسؤولية عن حياتهم ويتخذوا خيارات تخلق المعنى، على الرغم من عدم اليقين وعبثية الوجود.
في القرن العشرين، استمرت الوجودية في التطور من خلال أعمال فلاسفة مثل هايدجر، وسارتر، وألبرت كامو. لقد سلط مفهوم هايدجر عن “الوجود في العالم” الضوء على الوجود الإنساني باعتباره يتميز بشكل أساسي بعلاقته بالعالم والآخرين. وأكد مفهوم سارتر عن “سوء النية” على ميل الإنسان إلى إنكار حقيقة حريته ومسؤوليته أو الهروب منها. من ناحية أخرى، ركز كامو على عبثية الوجود الإنساني وحاجة المرء إلى خلق معنى خاص به في الحياة على الرغم من اللامعنى الواضح للكون.
الوجودية والمشاكل الوجودية
هناك بعض السمات التي لا مفر منها للحالة الإنسانية والتي يعتقد الوجوديون أنها تسبب القلق والمعاناة.
أحد أهم العوامل التي تساهم في القلق الوجودي هو حقيقة أننا جميعًا نسير عبر الزمن في اتجاه واحد، دون القدرة على معرفة المستقبل أو تأثير اختياراتنا. وكما قال ميلان كونديرا ببراعة، فإن حياة الإنسان تحدث مرة واحدة فقط، والسبب في أننا لا نستطيع تحديد أي من قراراتنا جيدة وأيها سيئة هو أنه في موقف معين لا يمكننا اتخاذ سوى قرار واحد؛ ولا يُمنح لنا حياة ثانية أو ثالثة أو رابعة لمقارنة القرارات المختلفة.
من منظور الكون، نبدو وكأننا كائنات ضئيلة الحجم ذات أعمار ضئيلة. علاوة على ذلك، لقد تم تحديد حد زمني لوجودنا، حيث سنموت جميعًا يومًا ما.
نحن لا نعرف لماذا نحن هنا، ولا أمل حقيقي لدينا في معرفة ذلك. ولم نختر الأجساد أو الأسر أو الثقافات أو الحضارات أو الكون الذي ولدنا فيه. كما لا يوجد دليل محدد لكيفية عيش حياتنا. إن هذه التجارب المشتركة من المعاناة وعدم اليقين هي التي توحدنا كبشر، ومن خلال احتضان هذه الحقائق يمكننا أن نجد العزاء والتواصل مع بعضنا البعض.
احتضان المجهول في الحياة
بينما نبحر في تعقيدات الوجود البشري، فإننا نواجه حتماً المجهول. حيث يمكن لطبيعة الحياة التي لا يمكن التنبؤ بها أن تثير مشاعر القلق وعدم اليقين وحتى الرهبة الوجودية. ومع ذلك، فإن هاوية عدم اليقين هذه على وجه التحديد هي التي توفر لنا فرصة للنمو واكتشاف الذات وصنع المعنى.
لنقل أنك تقف على حافة هوة واسعة ومظلمة، دون وجود طريق واضح للأمام. هذه هي هاوية المجهول، حيث تكمن مخاوفنا وشكوكنا. ومع ذلك، فبدلاً من التراجع عن الحافة، يمكننا أن نختار مواجهتها وجهاً لوجه. ومن خلال احتضان المجهول، يمكننا الاستفادة من مرونتنا الداخلية وإبداعنا وسعة الحيلة.
ولا تهدف عملية مواجهة الهاوية هذه إلى استئصال حالة عدم اليقين، بل إلى تعلم التعايش معها. يتعلق الأمر بإدراك أن المجهول جزء متأصل من الحياة، وأن عدم اليقين هذا بالتحديد هو الذي يجعل تجاربنا غنية ومعقدة وذات معنى.
ومن خلال الاعتراف بالمجهول، يمكننا أن نبدأ في إعادة صياغة علاقتنا مع عدم اليقين. ويمكننا أن نتعلم أن ننظر إليها ليس كمصدر للخوف، بل كمحفز للنمو والاستكشاف والتحول. وهذا يتطلب تحولاً في المنظور، من الخوف من المجهول إلى احتضان أسراره وإمكانياته.
العثور على العزاء في التجربة الإنسانية المشتركة
إن الشعور العميق بالعزلة الذي يأتي مع المعاناة الوجودية يمكن أن يكون ساحقا، لكن الوجوديين يقترحون حلا رائعا، وهو إيجاد الراحة في التجربة الإنسانية المشتركة. ومن خلال الاعتراف بأننا جميعا في نفس القارب، ونتصارع مع نفس المخاوف الوجودية، يمكننا أن نبدأ في بناء علاقات مع الآخرين وإيجاد العزاء في إنسانيتنا المشتركة.
لا يتعلق الأمر بالتقليل من شأن نضالاتنا الفردية أو تجاهل التحديات الفريدة التي نواجهها. بل يتعلق الأمر بالاعتراف بأن نضالاتنا متجذرة في حالة إنسانية مشتركة، حالة تتجاوز تجاربنا وخلفياتنا الشخصية. ومن خلال تبني هذا الشرط المشترك، يمكننا أن نبدأ في بناء الجسور بيننا وبين الآخرين، وتعزيز التعاطف والتفاهم والمجتمع.
هذه التجربة الإنسانية المشتركة هي ما يدفعنا إلى الإبداع والحب وترك تأثير دائم على العالم. إنه ما يلهمنا لتكوين روابط وبناء مجتمعات والعمل معًا لخلق عالم أفضل للجميع. ومن خلال احتضان إنسانيتنا المشتركة، يمكننا أن نجد العزاء في خضم المعاناة الوجودية، ونكتشف إحساسًا بالهدف والمعنى الذي يتجاوز نضالاتنا الفردية.
المصدر
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :