Ad

في دراسة رائدة، تمكن باحثون في جامعة ريدينغ وجامعة دورهام من فك شفرة واحدة من أكبر الألغاز في علم الأحياء التطوري، وهي حجم الدماغ. لعدة قرون، ناقش العلماء العلاقة بين حجم الدماغ وحجم الجسم، مع افتراض طويل الأمد مفاده أن الحيوانات الأكبر حجمًا لديها أدمغة أكبر نسبيًا. لكن الآن، تكشف مجموعة بيانات ضخمة تضم أكثر من 1500 نوع أن الأمر ليس كذلك. في الواقع، لا تمتلك الحيوانات الأكبر حجمًا أدمغة أكبر نسبيًا، ويشكل البشر استثناءً لهذه القاعدة.
يقود هذا الفريق البحثي البروفيسور كريس فينديتي من جامعة ريدينغ، إلى جانب البروفيسور روب بارتون من جامعة دورهام والدكتورة جوانا بيكر من جامعة ريدينغ. لقد ألقوا معًا ضوءًا جديدًا على العلاقة المعقدة بين حجم الدماغ والجسم، مما يشكل تحديًا لفهمنا لتطور الدماغ.

لغز الدماغ والجسم

في القرن التاسع عشر، اقترح عالم الحفريات الفرنسي جورج كوفييه أن العلاقة بين الدماغ والجسم كانت خطية (linear)، وهذا يعني أن حجم الدماغ يصبح أكبر بشكل متناسب كلما زاد حجم الحيوان. ومع ذلك، تم تحدي هذه الفكرة لاحقًا من قبل العلماء الذين لاحظوا أن بعض الأنواع، مثل البشر، لديها أدمغة كبيرة بشكل غير متناسب مع حجم الجسم.


إحدى المفاهيم العلمية الرئيسية التي تكمن وراء تطور حجم الدماغ يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتطور السلوكيات المعقدة والمهارات الاجتماعية والذكاء. بعبارة أخرى، فإن الأنواع ذات الأدمغة الأكبر تميل إلى أن تكون أكثر ذكاءً وقدرة على التكيف.


وقد أظهرت الدراسات أن الدماغ يُحدث استجابة للضغوط البيئية، مثل التغيرات في النظام الغذائي، والمناخ، أو الهياكل الاجتماعية. على سبيل المثال، شهدت الرئيسيات، المعروفة بقدراتها المعرفية المتقدمة، تطورًا سريعًا في الدماغ على مدى ملايين السنين. وقد سمحت لهم هذه العملية بالتكيف مع بيئتهم وتطوير سلوكيات اجتماعية معقدة.

العلاقة بين حجم الدماغ والجسم

منحنى في تطور الدماغ

وجد الباحثون أن العلاقة بين حجم الدماغ والجسم تتبع منحنى (curve)، مما يعني أن الحيوانات الكبيرة جدًا لديها أدمغة أصغر من المتوقع. يلقي هذا الاكتشاف ضوءًا جديدًا على موضوع تطور الدماغ، مما يشير إلى وجود قيود تحد من نمو الدماغ بعد نقطة معينة.


لفهم سبب وجود هذا المنحنى، نحتاج إلى التعمق في الضغوط الانتقائية التي تشكل تطور الدماغ. في الحيوانات الأكبر حجمًا، قد يصبح إنفاق الطاقة عاملاً مُقيدًا، مما يجعل من الصعب الحفاظ على دماغ كبير. فالدماغ عبارة عن عضو مكلف من حيث الطاقة، ويتطلب جزءًا كبيرًا من السعرات الحرارية اليومية التي يتناولها الحيوان. ربما، في الحيوانات الأكبر حجمًا، تكون الطاقة اللازمة للحفاظ على دماغ ضخم كبيرة جدًا، مما يفسر سبب ثبات حجم الدماغ.


علاوة على ذلك، قد يكون هذا المنحنى في تطور الدماغ ظاهرة عالمية، تنطبق على مجموعات حيوانية أخرى غير الثدييات. ولاحظ الباحثون نمطًا مشابهًا في الطيور، مما يشير إلى احتمال وجود آلية مشتركة تحكم تطور حجم الدماغ عبر الأنواع المختلفة. وهذا يثير أسئلة مثيرة للاهتمام حول المقايضات التطورية التي تقوم بها الحيوانات عند الاستثمار في حجم الدماغ. ومن خلال استكشاف هذه المقايضات، قد نكشف عن الدوافع الأساسية لتطور الدماغ والحالات الاستثنائية التي تتحدى القاعدة.

كشف سر الأنواع التي تتحدى القاعدة

الجانب الأكثر إثارة للاهتمام في العلاقة بين حجم الدماغ والجسم هو وجود بعض الأنواع التي تتحدى القاعدة. ويُعد البشر، بأدمغتهم الكبيرة بشكل استثنائي، أمثلة رئيسية على هذه الظاهرة. ولكن ما الذي يدفع تطور مثل هذه الأدمغة كبيرة الحجم؟ تكشف الدراسة الجديدة أن البشر تطوروا بأكثر من 20 مرة اسرع من جميع أنواع الثدييات الأخرى، مما أدى إلى ظهور أدمغة ضخمة تتميز بها البشرية اليوم.


ووجد الباحثون أن ثلاث مجموعات من الثدييات، الرئيسيات والقوارض والحيوانات آكلة اللحوم، تُظهر أسرع التغيرات في حجم الدماغ. في هذه المجموعات، هناك ميل لزيادة حجم الدماغ النسبي بمرور الوقت، وفقًا لقاعدة مارش-لارتيت (Marsh-Lartet rule). ومع ذلك، فإن هذا الاتجاه ليس عالميًا بين جميع الثدييات، كما كان يُعتقد سابقًا.


ولكن الأمر المذهل هو أنه حتى بين هؤلاء الذين تنموا أدمغتهم بسرعة، هناك حد لمدى كبر حجم الأدمغة. ولاحظ الباحثون حدًا غريبًا (curious ceiling)، وهي النقطة التي لا يزيد حجم المخ بعد تجاوزها، حتى في الحيوانات الأكبر حجمًا. وهذا يثير أسئلة مثيرة للاهتمام: ما الذي يمنع الأدمغة من أن تصبح كبيرة جدًا؟ هل لأن الحفاظ عليها مكلف للغاية من حيث الطاقة؟


ظاهرة “الحد الغريب” ليست مقتصرة على الثدييات. تظهر الطيور أيضًا انحناءًا مشابهًا في العلاقة بين حجم الدماغ والجسم. يشير هذا إلى وجود مبدأ عام، عبر المجموعات الحيوانية المختلفة، يحد من حجم الدماغ. إن كشف سر الأدمغة الكبيرة بشكل استثنائي سوف يتطلب المزيد من الاستكشاف.

تطبيقات وآثار أبحاث حجم الدماغ

يمكن أن يكون لهذه النتيجة تطبيقات مهمة في مجالات مثل الطب وعلم النفس والذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، يمكن أن يساعد فهم حدود نمو الدماغ علماء الأعصاب على تطوير علاجات أكثر فعالية لاضطرابات الدماغ، مثل مرض الزهايمر، حيث يعد انكماش الدماغ علامة مميزة. علاوة على ذلك، يمكن لهذا البحث أن يساعد في تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر تقدمًا، حيث يستطيع العلماء الآن فهم القيود المفروضة على حجم الدماغ ووظيفته بشكل أفضل.


وهذا الاكتشاف له أيضًا آثار على حياتنا اليومية. على سبيل المثال، فإن فهم كيفية ارتباط حجم الدماغ بالذكاء والسلوك الاجتماعي يمكن أن يساعد المعلمين على تصميم استراتيجيات تعليمية أكثر فعالية، ومصممة خصيصًا لتلبية احتياجات الطلاب الفردية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لهذا البحث أن يفيد السياسات المتعلقة بالتعليم والرعاية الصحية، حيث يمكن لواضعي السياسات الآن اتخاذ قرارات أكثر استنارة بشأن تخصيص الموارد.

المصادر:

Brain size riddle solved as humans exceed evolution trend / science daily

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


أحياء تطور

User Avatar


عدد مقالات الكاتب : 439
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *