معنى العدم هو واحد من أهم الأسالة التي عجزت الفيزياء عن تفسيرها حتى الآن. حتى الفلاسفة اختلفوا على وضع معنى واضح وصريح يفسر طبيعة العدم. فما هو العدم من وجهة نظر الفيزياء والفلسفة؟
محتويات المقال :
الفراغ لا يعني العدم
حاول أن تغلق عينيك لمدة دقيقة وتفكر في العدم. تحاول بصعوبة منع مخيلتك من تخيل أي شيء مادي، ولكنك تفشل في النهاية. فعند التفكير في الأمر ترى نفسك تتخيل أما كلمة “اللاشيء” أو اللون الأسود، وهما في الواقع شيء. محاولتك أيضًا لتخيل الفراغ بين النجوم أو الكواكب محاولة خاطئة، فما بينهم ليس لاشيء بل هو فضاء يحتوي على إشعاع وعلى قوى مختلفة مثل الجاذبية. وبالتالي مفهوم العدم لا يعني الفراغ الذي تراه. ولتخيل الفرق العدم وما تراه بشكل أوضح، حاول أن تتخيل صندوق خالي. بتفريغ الهواء من داخل الصندوق أيضًا أصبح لديك صندوق فارغ من أي شيء قد تراه أو تشعر بوجوده. ولكن كيف يرتكز الصندوق في مكانه؟ من خلال قوة الجاذبية التي تؤثر عليه وبالتالي الصندوق يحتوي على شيء، ولكنك ليس بالضرورة أن تراه.
وبالتفكير في الجاذبية من خلال نظرية النسبية العامة لأينشتاين، نجد أن الجاذبية هي تغير في الزمان والمكان. وبالتالي فلتفريغ الصندوق من الجاذبية يجب أن نزيل الزمان والمكان. وكما قال عالم الفيزياء النظرية الأمريكي «شون كارول – Sean Carroll» “ربما يكون من الأفضل التفكير في لا شيء على أنه غياب حتى للمكان والزمان، بدلاً من المكان والزمان بدون أي شيء فيهما”. [1]
المراحل الفيزيائية للعدم
نشر الفيلسوف الأمريكي «روبرت كون – Robert Kuhn» مقال عام 2013 بعنوان «مراحل اللاشيء – Levels of nothing». عبر كون عن العدم بشكل بعيد عن التخيل أو الفرضيات ووضع له مراحل فقط ليجعل التفكير له ترتيب معين. وقسم كون مراحل العدم إلى مراحل للأشياء الملموسة والغير ملموسة والمنطقية عند البعض والغير منطقية عند غيرهم. وبالتالي، وحد كون مراحل العدم لتشمل الفكر الإنساني ككل. ويمكننا ترتيب أول 6 مراحل عند كون بالشكل الفيزيائي التالي: [2]
تعتبر أبسط المراحل هي المرحلة الأولى أو كما أطلق عليها كون “اللاشيءالأول”. ولا يطلب اللاشيء الأول أي معرفة علمية أو فيزيائية مسبقة لمحاولة تخيله. فالمرحلةالأولى عبارة عن إزالة الأشياء البسيطة التي تراها بعينك. فمثلًا في مثال الصندوق الذي يحوي طعام، نصل للاشيء الأول بإزالة الطعام الذي بداخل الصندوق. ولكن بالطبع اللاشيءالأول ليس اللاشيء المطلق الذي نبحث عنه، وإن كان لك خلفية علمية بسيطة ستقول: ماذا عن الهواء بداخل الصندوق؟ وهنا تأتي المرحلة الثانية وهي المرحلة التي ندرك عندها وجود هواء بداخل الصندوق يجب إزالته. ولكن بنظرة فيزيائية حديثة أعمق سترى وجود العديد الجسيمات التي تتدفق من خلالنا أو من حولنا كالنيوترينو مثلًا. وإزالة ذلك النوع من الجسيمات هي المرحلة الثالثة. المرحلة الرابعة هي ببساطة إزالة جميع الطاقات أو الإشعاعات من حولك أو المجالات كالمجال المغناطيسي. وحتى الآن فلا وجود للمادة ولا الطاقة ولا الإشعاع، فما الذي تبقى؟
في ميكانيكا الكم حتى الفراغ له طاقة تسمى بطاقة تقلبات الفراغ. الفراغ أيضًا يحتوي على جسيمات افتراضية تتكون وتلاشي بعضها البعض مرة أخرى. ولكن على الرغم من عدم قدرتنا على اكتشاف تلك الجسيمات مباشرة إلا أن تأثيرها على المواد حولها يمكن ملاحظته. وبإزالة تلك الجسيمات وطاقة الفراغ من الصندوق نحصل على المرحلة الخامسة. ويتبقى لنا المرحلة الأخيرة من المراحل الفيزيائية للعدم، وهي إزالة الزمان والمكان. في تلك المرحلة وباختفاء الزمان والمكان، تختفي قوانين الفيزياء كلها تبعًا لهم. وبالتالي فمرحلة السادسة هي المرحلة التي تختفي عندها كل قوانين الفيزياء.
عند تلك اللحظة لا يوجد مادة، ولا إشعاعات، ولا طاقة، ولا جسيمات افتراضية، ولا زمان، ولا مكان، ولا حتى قوانين الطبيعة. فما الذي تبقى لنا في الصندوق من وجهة نظر روبرت كون؟
.
لماذا يوجد شيء بدلًا من عدم وجود أي شيء
لم يكتف روبرت كون بإزالة كل العناصر الفزيائية من الصندوق، ولكنه قرر ضم المعتقدات الإنسانية لهم. على سبيل المثال، إن كنت تؤمن بأي معتقد ديني فيجب أن تزيل كل المخلوقات التي يمكن أن تكون موجودة، الملائكة مثلًا. وتلك هي مرحلة اللاشيء السابعة لكون. أما المرحلة الثامنة نصل لها بإزالة كل العلاقات الرياضية من منطق وأعداد وقيم. ولكنها ليست النهاية، فمازال يوجد أخر مرحلة عند كون. مرحلة اللاشيء التاسعة هي عند إزالة أي احتمال لوجود أو خلق أي شيء من جديد، حتى لو لم يكن هناك شيء. وبالتالي لكي يصل روبرت كون لترتيب صحيح للاشيءفقد أزال كل الأشياء الفيزيائية حتى قوانين الطبيعة، ثم المعتقدات والراضيات وحتى أي احتمال لوجود أي شيء
واتجه الفلاسفة، عوضًا عن سؤال “ما هو العدم؟”، للبحث عن سبب عدم وجود العدم. لماذا يوجد شيء بدلًا من عدم وجود أي شيء؟ واختلفت إجابات الفلاسفة على ذلك السؤال. فأحد أشهر الإجابات هو أن العدم شيء سخيف وطبيعي أكثر أن يتواجد شيء عوضًا عن عدم وجود أي شيء على الأطلاق. أما الإجابة الثانية هي أنه لا يوجد تفسير، أو بشكل أخر هو أن الرد على ذلك السؤال غير ضروري. والإجابة الأخيرة هي أن ذلك هو أفضل اختيار موجود، فالعدم لن يصل بالكون لشيء جيد.[3] وفي النهاية فلا يوجد معنى واضح للعدم المطلق وأنه شيء نسبي يختلف تعريفه حسب تعريف الشيء نفسه. فمن رأيك هل يوجد أي إجابة أخرى يمكن أن تُعرف بها معنى العدم؟
المصادر
[1] What Is Nothing?
[2] Levels of Nothing by Robert Lawrence Kuhn
[3] Nothingness
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :