Ad

تعريف التماسك الاجتماعي

يستخدم مصطلح «التماسك الاجتماعي – Social Cohesion» بطرق غير محددة إلا أنه غالباً يندرج في أحد إطارين. الأول متعلق بالسياسات العامة وإجراءاتها لشرح أهداف هذه السياسات وأسبابها المنطقية لتحسين حياة الأفراد. مثل تحسين الرعاية الصحية والتعليم والحماية الاجتماعية وضمان أن يكون للجميع صوت. والثانية لشرح التغييرات الاجتماعية والسياسية وأحياناً الاقتصادية الحاصلة في المجتمع [1].

وقد عرّفت «جوديث ماكسويل – Judith Maxwell»  عام 1996 المجتمع المتماسك -في ما يشير إليه الكثيرين على أنه أول ظهور رسمي للتعريف- بأنه يتضمّن وجود قيم مشتركة، وتفسيرات مشتركة للأشياء، وتقليل للتفاوت في الثروة والدخل وبشكل أعم تمكين الناس من الشعور بأنهم جزء من مشروع، وأنهم أعضاء في ذات المجتمع، ويواجهون تحديات مشتركة. ومن هنا يكون التماسك الاجتماعي؛ عملية مستمرة لتطوير مجتمع انطلاقاً من قيم مشتركة، وتحديات مشتركة، وفرص متكافئة على أساس الشعور بالأمل والثقة والعدالة [2].

ويعرّف «المجلس الأوروبي – European Council» التماسك الاجتماعي على أنه؛ قدرة المجتمع على ضمان رفاهية جميع أعضائه وتقليل التفاوتات وتجنب التهميش [3]. ويضيف «مجلس التعاون الاقتصادي – The Organization  for Economic Cooperation and Development» على هذا التعريف أن المجتمع المتماسك يتيح لأفراده فرصة الحراك الاجتماعي الصاعد. وهو غاية مرغوبة ووسيلة تنمية شاملة. فالحد من الفقر ليس كافياً بقدر ما هو مهم التركيز على برامج الحماية الاجتماعية وخلق سياسات إعادة توزيع جديدة فعّالة.

فيكون بهذا التماسك الاجتماعي الصمغ الذي يربط بين الناس، ويتعزز هذا الربط بالسعي إلى قدر أكبر من الشمولية. وزيادة مشاركة المواطنين وخلق فرص للترقي للجميع. وهذا أحد أهم الإجراءات العامة التي تعتبر الوثاق الذي يحمل المجتمع معاً في وحدة متماسكة [4]. ويرتبط الأفراد في ظل التماسك الاجتماعي على مستوى المواقف والقواعد والسلوكيات والمؤسسات بنهج يرتكز على تحقيق الإجماع ويبتعد عن الإكراه [5].

أهمية التماسك الاجتماعي؟

غالبًا ما يكون من الأسهل رؤية الخطأ في المجتمع أكثر من معرفة ما يجعله قويًا ومتماسكًا ومستقرًا. إلا أن هناك ثلاثة متطلبات لازمة لمجتمع متماسك. أولاً الثقة والاحترام. نحن بحاجة إلى روابط حقيقية بين الناس، وإلى رؤية الآخرين كبشر وليس كأدوات يمكن الاستفادة منها.

ثانياً، الوحدة في التنوع لأن كل مجتمع لديه تنوع ويجب قبول ذلك واحتضانه. ثالثاً، الهويات المرنة حتى لا نحتضن التنوع بشكل سطحي أو نتسامح فقط مع جيراننا، ولكن نبني روابط يمكن أن تقاوم توترات السرديات الحصرية والتي يسيطر عليها لون ثقافي واحد في ظل مجتمع متعدد الثقافة، مما يعزز احتماليات العنف [6].

هذه المتطلبات هي أشياء بسيطة وعملية، ولكن يجب تطويرها بطرق حساسة ثقافيًا في كل مجتمع.

وقد يفهم البعض التماسك الاجتماعي على أنه يعني الشعور بالتجانس كشكل من أشكال الوحدة الصارمة. إلا أن الروابط المشتركة لا تعنى بالضرورة وجود تشابه في اللغة أو العرق أو الدين أو نمط الحياة [3]. «وشعور التماسك – Sence of coherence» يعني قدرة الناس على التعامل مع الضغوطات اليومية وإدارة التوتر. بالإضافة إلى التفكير في الموارد الداخلية والخارجية وتحديدها وتعبئتها لخلق مواجهة فعّالة للتحدّيات المجتمعية. و «SOC – شعور التماسك» هو توجّه وطريقة في النظر تفترض أن العالم مفهوم، وقابل للإدارة وله معنى [7].

التضامن العضوي عند دوركايم

يشير عالم النفس «إيميل دوركايم – David Émile Durkheim» إلى أن الروابط في المجتمعات الحديثة المتمايزة باتت تتحول إلى نوع من “التضامن العضوي”. حيث يقوم هيكل الإنتاج الصناعي على اعتماد جميع من في هذا الهيكل على بعضهم البعض. حيث يعتمد العاملون في الصناعة والخدمات بالضرورة على المواد الخام التي يقدمها آخرون، والأغذية التي ينتجها الآخرون، ومثال الأسواق التي يتم فيها تبادل المنتجات، وهذه كلها أشكال من التضامن العضوي.

“وعي المواطنين أنهم يعتمدون على بعضهم البعض كأعضاء الجسم”

إيميل دوركايم

وفي هذا نقطة هامة على طريق تعزيز الوعي بالتماسك الاجتماعي وأهميته وذلك في ظل التباينات الشديدة بين الناس في الجماعة الواحدة، أيضاً في علاقة الجماعة الواحدة مع غيرها من الجماعات [4]. وعلى العكس من التجانس كمقوّم للتماسك الاجتماعي نجد أنه كلما كان التباين أشد بين الناس كانت الآفاق التي تزخر بها مخرجات التماسك الاجتماعي أكبر. فواقع المجتمعات اليوم معقّد ومليء بالمتغيّرات وتوافر المجتمع على أفراد و جماعات متعددة الثقافة استثمار كبير يزيد من قدرة المجتمع على الإبداع وابتكار الحلول.

التماسك الاجتماعي عند وينفريد لويس مابس

تقول الباحثة «وينفريد لويس مابس – Winnifred Louis Maps» أن التماسك الاجتماعي لا يعني التجانس. وإنما المجتمع المتماسك هو مجتمع يحترم بعضه البعض حتى لو كانوا مختلفين، حيث يوفر للناس الاختلاف دون الشعور بغياب الأمان أو فقدان الاحترام [8].

كما تضيف الباحثة أن الخلاف الآمن هو مهم بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالفئات المهمشة. حيث هناك درجة من الصراع الاجتماعي الإيجابي لازمة للتأكد من أن الفئات المحرومة يمكنها التعبير عن مظالمها [8].

ويرتبط كلام الباحثة هنا بشكل ملفت بأوضاع المجتمعات اليوم في ظل الهجرة الكثيفة والتنوع الثقافي الذي يزداد في أغلب المجتمعات. حيث مع ازدياد تباين الثقافات داخل المجتمع الواحد، تزداد الحاجة إلى فهم التماسك باعتباره توفير مساحة آمنة للآخر عوضاً عن إقصائه أو إلتهامه ضمن ثقافة أخرى. كما أن ماسبق ذكره يسلّط الضوء على ضرورة فتح باب للنقاش والحوار حول التحديات المجتمعية لإيجاد حلول مشتركة مبنية على الاحترام المتبادل والالتزام بالعدالة [8].

كيف يتحقق التماسك الاجتماعي؟

تتضمن عملية التماسك الاجتماعي مجموعة من التحركات الهامة على طول الطريق كالتحرّكات التالية [9]:

  1. التعاون مع الحكومة، ويتم عبر عدة محاور:
  • قياس التماسك ويكون هذا عن طريق وضع مقياس رصد لواقع التماسك الاجتماعي مثل مقياس Scanlon-Monash (SMI)، ويقيس واقع التماسك عبر خمس متغيرات: الانتماء، القيمة، العدالة الاجتماعية، المشاركة، والقبول [10].
  • الالتزام بالتماسك الاجتماعي كأولوية ضمن التخطيط الاستراتيجي.
  • تقييم الاستعداد وبناء القدرات.
  • تضمين أهداف التماسك الاجتماعي في السياسات والعمليات التنظيمية.

أمثلة عن تحرّكات حكومية: (1) خطة عمل توظيف السكان الأصليين والفئات الأقل اندماجاً. (2) لجنة استشارية للسلامة المجتمعية لتحسين السلامة في الأماكن العامة. (3) لجنة حي تقوم بتوثيق التحديات وتتشارك مع الناس المشاكل وتستقبل الحلول.

2. إشراك المجتمع، ويتم عبر عدة محاور:

  • تعرف على المجتمع: افهم خصائص الأشخاص الذي يعيشون ويعملون في المنطقة وما هي احتمالات التغير التي يمكن أن تطرأ عليهم مع الوقت.
  • إشراك المجتمع:  تحديد المجالات الحالية والمحتملة للتطوير والبناء انطلاقًا من نقاط القوة الحالية.
  • كن تمثيلياً وشاملاً: التأكد من سماع جميع الأصوات.
  • حصر التحديات: تحديد التوترات التي يمكن أن تقوض التماسك الاجتماعي في المنطقة واحتماليات حدوثها.

أمثلة عن إشراك المجتمع: (1) رسم خريطة تشمل التنوعات الديموغرافية في المنطقة وذلك لتكوين صورة عامة عن المجتمع المحلي الهدف، وللمساعدة في إدارة النقاشات مع الأفراد. (2) القيام بمجموعات تركيز ونقاش مع أفراد متنوّعين من المجتمع أو عبر استبيانات على الانترنت ومكالمات عبر الهاتف.

3. بناء شراكات طويلة الأمد، ويتم عبر عدة محاور:

  • تحديد الشركاء: فهم أي الشركاء يمكنهم المساعدة في بناء التماسك المجتمعي الآن أو مستقبلاً.
  • إشراك الشركاء: تطوير استراتيجية تضمن طريقة الاتصال معهم وطبيعة العلاقة التي ستكون.
  • العمل مع الشركاء لتحديد المشكلات واتخاذ القرارات عبر نموذج عمل تعاوني.
  • ضمان وجود شراكات على المدى الطويل وما يشمله من تتبع التغييرات الحاصلة في الموظفين ورعاية العلاقات بأشكالها الرسمية وغير الرسمية.

4. قم بعمل هادف يعتمد على المكان، ويتم عبر عدة محاور:

  • تمكين المجتمع وبناء قدراته للمشاركة في تخطيط وتنفيذ الأنشطة.
  • الاستعداد الدائم والعمل مع الشركاء لتطوير خطط يمكن تنفيذها سريعاً.
  • إشراك الشباب وتمكينهم من الشعور بالاتصال مع مجتمعهم وقضاياه وتوفير مساحة تفاعل آمنة.
  • تعلّم من الآخرين، لكن صمم برنامجك بشكل مناسب للاحتياج المحلي الخاص الذي لديك.
  • تطوير وسائل الاعلام والاتصال عن طريق استخدام وسائط الإعلام المتعددة للتواصل مع الناس ونشر حس التماسك الاجتماعي.

أمثلة عن الأعمال الهادفة المعتمدة على مكان: (1) أنشطة المنظمات الإنسانية المحلية والعالمية في المناطق المنكوبة في سوريا، والعراق، واليمن التي تستهدف بناء القدرات المحلية ومشاركتهم في رصد المشاكل وإبداع الحلول عن طريق ورشات العمل، جلسات التوعية، الاجتماعات، النوادي الفكرية، الأنشطة الرياضية، الأنطة الفنية والثقافية.

5. تقييم ومشاركة النتائج

  • تطوير عمل التقييم: العمل مع المجتمع على الأرض لتحديد كيفية قياس مدى ملاءمة وكفاءة إجراءات تعزيز التماسك الاجتماعي.
  • جمع بيانات التقييم: التفكير في المعلومات التي ينبغي جمعها لبناء التقييم.
  • مراجعة النتائج المحققة: هل هناك اختلاف أو أثر للأنشطة التي تمت على الأرض مع المجتمع الهدف وساهمت بتحسين التماسك الاجتماعي؟
  • تبادل الخبرات مع الآخرين.

التماسك الاجتماعي والصحة الجيدة

حددت إحدى الدراسات أن المناطق التي تتمتع بمزيد من الاستقرار السكني ومستويات أعلى من التماسك الاجتماعي لديها معدلات ضعف أقل لدى كبار السن. ووجدت دراسة أخرى علاقة مباشرة بين التماسك الاجتماعي وتحسين القدرة على أداء أنشطة الحياة اليومية، وارتفاع مستويات السعادة. كما أشارت تحقيقات أخرى لوجود روابط بين التماسك الاجتماعي والتحسن العام في الصحة النفسية، وزيادة معدلات المشي المنتظم، وارتفاع معدل استخدام الواقي الذكري، وانخفاض الاكتئاب، وتحكم أفضل في نسبة السكر في الدم، وخفض معدلات التدخين [11].

تشير النتائج المستخلصة من دراسات إضافية إلى فوائد التماسك الاجتماعي حيث تثبت علاقته بانخفاض معدلات زيادة الوزن والسمنة، ومعدلات أقل للوفيات لجميع الأسباب، وانخفاض حالات احتشاء عضلة القلب، ومعدلات أقل لإهمال الأطفال، وتحسن الحالة العامة عند أولئك الذين يعانون من أمراض مزمنة [11] .

وتتفق الدراسات المعمولة في التماسك الاجتماعي أن النظام الذي يدعو إلى سياسات رفاه أكثر مساواة والتي تشمل الخدمات الطبية العامة، من المرجّح أن يحافظ على صحة المجتمع ويحّسنها. كما أن عامل الثقة بين الفرد والخدمات المدنية له دور كبير في زيادة التماسك الاجتماعي. وتشير الدراسات إلى أن تبنّي بلد ما سياسة متسامحة مع المهاجرين يعني أنه يتمتع بتنوع أعلى في القيم، وجهود حكومية أفضل لضمان حصول الجميع على حقوقهم.

إن البلدان المتسامحة مع المهاجرين هي بلدان أكثر عرضة لنفقات صحية أكبر إلى جانب نفقات التعليم وتوفير الفرص المتساوية للجنسين [5]. وهذه البلدان بالذات تكون تحت ضغط لصياغة سياسات صحية تحترم الحريات الفردية والاختلافات. وتوفر بيئة ملائمة للأفراد لمتابعة صحّتهم، لأنها تعي وتفهم الظروف التي تساهم بزيادة السلوكيات المنحرفة خصوصاً العقلية والنفسية [5].

كما أن الأفراد الذي يتمتعون بحالة صحية أفضل هم أكثر قدرة على المشاركة في الأنشطة المدنية والشعور بالثقة والأمان وهو ما يعود على المجتمع بالفائدة [5].

المصادر

[1] Taylor & Francis 
[2] Jstor
[3] The Scanlon Foundation Research Institute
[4] UN
[5] International Journal for Equity in Health
[6] The S. Rajaratnam School of International Studies (RSIS) 
[7] SpringerLink
[8] sychlopaedia
[9] Australian Human Rights Commission
[10] .SMI: The Scanlon-Monash “Index of Social Cohesion” Prof. Andrew Markus
[11] National Library of Medicine

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فلسفة علم اجتماع

User Avatar

Ahmad Abdulbaset

باحث في الإدارة، الفلسفة والعلوم الإجتماعية.


عدد مقالات الكاتب : 4
الملف الشخصي للكاتب :

شارك في الإعداد :
تدقيق لغوي : abdalla taha

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق