Ad

لماذا نشعر بالملل؟ وكيف ننتصر عليه؟

رفع الشاب حقيبة الظهر السوداء فوق ظهره وخرج من أمام شباك التذاكر واضعا تذكرته في جيب سترته، وانطلق مسرعا للحاق بالقطار، وما هي إلا دقائق حتى وصل لمقعده بجواري. وضع حقيبته ثم تهيأ معتدلا في جلسته، ونظر للأمام لنصف دقيقة في سكون أعقبه ملامح الشعور بالملل. أكره مثله ساعات السفر الطويلة وخاصة عندما علمت بانتهاء شحن هاتفي المحمول. لقد أصبحنا سجناء كراسينا تحت رحمة هذا القطار ولساعات. حاولت الانشغال بوجوه المسافرين حولنا. يبدو علينا جميعا الشعور بالملل، أليس كذلك؟ فجأة طرأ في ذهني ذلك السؤال، لماذا نشعر بالملل؟ وما هو بالأساس؟ وكيف ننتصر عليه؟ لا أعلم عزيزي القارئ ما إذا كان الملل هو الداعي لهذا السؤال أم هو الرغبة في المعرفة، ولكن لا شك أننا جميعا نشعر بالملل ونمر بمثل هذا الموقف، لذا دعنا نكتشف الأمر.

ما هو الملل؟

اقترح مقال بحثي منشور عام ٢٠١٢ في Educational Psychology Review أن الملل عبارة عن نقص في الإثارة العصبية يصحبه شعور مختلط من عدم الرضا والغضب أو عدم الاهتمام.

يشعر ٩١ إلى ٩٨٪ من الشباب بالملل بشكل يومي، ويظهر لدى الذكور أكثر من الإناث. فكلما ارتفعت نسب الملل، صاحبها ارتفاع مخاطر معاقرة الخمور وإدمان المخدرات وهو ما عبر عنه الفيلسوف الألماني كريكيغارد قائلا عن الملل: “هو أصل كل الشرور”. يتفق معظم البشر على أن الملل شعور سلبي.

هل يختلف الملل عن اللا مبالاة أو الاكتئاب؟

بالتأكيد يختلف عن اللا مبالاة، إذ أن الملل يدفعنا للقضاء عليه في أسرع وقت. كما أنه يختلف عن الاكتئاب، فهو ناجم عن ظروف خارجية محيطة بنا. اقرأ أيضًا: الفارق بين الحزن والاكتئاب في هذا المقال.

لماذا نشعر بالملل؟

وفقا للدراسات، هناك سبعة أسباب للملل:

أولا، الرتابة:

أول المتهمين قد يكون هو الإرهاق العقلي، إذ أن أي مهمة متوقعة ومتكررة ستقودك مباشرة إلى الملل. فالكثير من الشيء ذاته سيشعرك بالاكتفاء، ثم تفقد اهتمامك به تماما (Toohey, 2012)، إلى أن تمارسه بملل مثل المهام المنزلية اليومية.

ثانيا، قلة الأحداث:

قد يضعك أحدهم يوما ما أمام مهمة قليلة الأحداث والمتغيرات، مثل مراقبة كاميرا ما، وشعورك بالملل طبيعي تماما، فمئات الساعات تمر بسلام دون أي حادث يستحق المراقبة. المهمة هنا قليلة الأحداث وبلا أي متغيرات حقيقية تتناسب مع عقولنا المتحفزة فهل تتوقع أن استقلال وسيلة مواصلات طويلة أو انتظار دورك في الطوابير قد يكون أمر مثير؟ بالتأكيد لن يكون، لكن لا تتعجب أيضا إذا عرفت أن ممارستك لمهمة صعبة وسريعة المتغيرات قد يقودك للنقيض وهو الشعور بالقلق.

ثالثا، الحاجة إلى الجديد:

بعضنا قد يكون مختلف بعض الشيء، مثل أولئك الذين يمارسون الرياضات الخطرة أو من اعتادوا على المخاطر في حياتهم المهنية. من الطبيعي أن يشعر هؤلاء ببطء الحياة من حولهم مقارنة بما اعتادوا أن يمارسوه. هم يحتاجون إلى ممارسة شيء جديد على نفس المستوى من الخطر والإثارة كي تنتبه حواسهم. وهو ما يفسر أيضا سبب تعرض الأشخاص الاجتماعيين والمنفتحين للملل أكثر من الانطوائيين. فيدفعهم ذلك لخوض المزيد من المغامرات للقضاء على الملل.

رابعا، منح الاهتمام:

هل فكرت مسبقا أنك قد تكون مصاب بمشكلة صحية تتسبب في شعورك بالملل؟ نعم، وفقا للأبحاث فالمصابون بفرط الحركة وضعف التركيز والانتباه أكثر عرضه للملل من غيرهم. فلا يمكن أن تهتم بشيء يصعب أن تنتبه إليه.

خامسا، الوعي العاطفي:

ربما ينقصك الوعي الذاتي اللازم. فبعض من يشعرون بالملل هم أشخاص غير قادرين على تحديد ما يريدون أو ما يرغبون فيه. غياب قدرتك على تحديد ما يسعدك قد يتسبب في شعورك بالملل. لذلك ينصح بتحديد الأهداف المنطقية المناسبة لرغباتك وما يشعرك بالسعادة. (Eastwood, 2012)

سادسا، غياب الإرادة:

فترة المراهقة هي أكثر فترات الشعور بالملل، أليس كذلك؟ تبدو تلك الحقيقة قاسية ومجربة، فكلنا قد شعرنا بها في حيواتنا. يعود الأمر إلى غياب تحكمنا في سير الأحداث من حولنا. إذ نشعر بأننا محتجزين وعالقين في حياة لا نرغب فيها ونريد تغييرها بأي شكل. نريد السيطرة الكاملة والحرية. نريد أن نفعل ما نريد وقتما نريد. إذا فحرمانك من السيطرة على مجريات حياتك وإجبارك على فعل ما لا تريده سيقودك حتما للملل وربما ما هو أكثر خطورة منه.

سابعا، تأثير الثقافة:

الشعور بالملل هو رفاهية عصرية بشكل أو بآخر. (Spacks, 1996) إذ لم تعرفه البشرية أو تسميه حتى أواخر القرن الثامن عشر إبان الثورة الصناعية. قبل ذلك، لم تكن البشرية بهذا الترف، إذ قضى الإنسان معظم وقته لتأمين الطعام والمسكن، حينها لم يكن للملل وجود.

ماذا لو لجأنا إلى هواتفنا المحمولة؟

قد يتخيل البعض أن اللجوء إلى الهاتف المحمول أثناء ممارسة المهام سيقضي على الملل، إلا أنها تزيد من إدمانك لها وارتباطك بها، حتى أنها تمنحك قدر من الإثارة أكثر مما تتوقعه لدرجة تؤثر على علاقتك بأسرتك وأصدقائك. فلا تتعجب حينها عندما يشتكي منك كل من حولك. وربما تزيد الألعاب التكنولوجية أو وسائل التواصل الإجتماعي من أعراض مللك، لأنك رفعت من مستوى الإثارة الذي تتعرض له يوميا، فتكاد لا تطيق البقاء دونها، فاحذر هذا العلاج فهو كارثي.

نظرة مختلفة للملل

على النقيض من كريكيغارد، اعتبر الفيلسوف الشهير نيتشة الملل دافعا للإنجاز، أو على أقل تقدير قد يكون علامة على عدم أهمية شيء ما أو أن هذه المهمة سخيفة وليست إلا مضيعة للوقت. وحينها عليك ترك ما تفعل وتتحول لشيء آخر أكثر فائدة. والفضل في ذلك التحول يعود إلى شعورك بالملل. (Svendsen, 1999)

كيف نتغلب على الملل؟

تقترح الدراسات أن نواجه المهام المملة بطريقة تفكير غير تقليدية، أي أن نفكر في تلك المهام بشكل مختلف. ربما يساعدك إدراك مدى أهميتها للآخرين على التغلب عليها، أو إيجاد معنى أكبر لما تفعله، فيضع عقلك بعيدا ليتجاوز التكرار والتفاصيل.

كما يقترح بعض الباحثين ممارسة التأمل والتمارين الذهنية ولكن وجب التنويه أن تأثيرها غير مؤكد بعد.

يحتاج الملل كشعور إنساني للمزيد من الدراسة والفحص، فهو مرتبط ببعض الآثار السلبية مثل الاكتئاب والقلق وانخفاض الأداء الأكاديمي للطلاب وارتفاع معدلات الرسوب، كما يرتبط ببعض الأخطاء المهنية والتي قد تقود بعضها لكوارث وخسائر في الأرواح. حتى وإن لم يقودنا الملل لتلك النتائج السلبية. ما زلنا نحتاج لدراسته لتصميم بيئات تعلم ممتعة وبيئات عمل متطورة والقيام بمهامنا اليومية على أكمل وجه. يبدو عزيزي القارئ أن الملل قد وجد من لا يملون من دراسته لمساعدة البشرية.

 

مصادر:

springer

psychology today

livescience

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فلسفة صحة علم الإنسان

User Avatar

abdalla taha

أحب القراءة ومتابعة العلوم.


عدد مقالات الكاتب : 74
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق