حشرة فرس النبي هي رمز للجمال والهدوء. فمنظرها تطفو على ورقة أو زهرة -بجسدها الأخضر أو البني النحيل، لابثة بلا حراك، منتظرة بصبر وجبتها التالية- منظر ساحر ويدعو إلى البهجة. ولكن هناك جانب مظلم لهذه الحشرة استحوذ على خيال العلماء وهو أكلها الشريك الجنسي. تشتهر أنثى فرس النبي بأنها تلتهم شركائها الذكور أثناء التزاوج أو بعده. لكن لماذا تنخرط أنثى فرس النبي في هذا السلوك الذي يبدو شنيعًا؟ سنتعرف أكثر على الفرضيات التي تفسر هذا السلوك وأمثلة أخرى مشابهة في عالم الحيوان في هذا المقال.
محتويات المقال :
تناول الشريك يزيد الخصوبة الجنسية
درس العلماء سلوك التكاثر الوحشي لدى فرس النبي لعقود من الزمن، وقد اقترحوا العديد من الفرضيات لتفسير ذلك. واحدة من أكثر النظريات شيوعًا هي أن أكل اللحوم الجنسي يزيد من لياقة الأنثى ويزيد خصوبتها الجنسية. من خلال تناول الذكر، تكتسب الأنثى كمية كبيرة من العناصر الغذائية التي يمكن أن تساعدها على إنتاج المزيد من البيض أو النسل الأكثر صحة.
حاول الباحثون دعم هذه الفرضية من خلال ما اكتشفوه من أن الإناث اللواتي يأكلن الذكور يكتسبن كتلة جسم أكبر من الإناث اللواتي منعوا عنهن الذكور. وأيد الباحثون هذه الفرضية عندما وجدوا أن الإناث التي تتغذى بشكل جيد كانت أقل احتمالية لأكل رفقائها مقارنةً بالإناث سيئة التغذية. وسميت هذه الفرضية بفرضية استراتيجية البحث عن الطعام. [1]
فرضية اختيار الشريك
تقول هذه الفرضية بأن التهام أنثى فرس النبي للشريك الجنسي لا يتأثر بالجوع كما افترضت فرضية استراتيجية البحث عن الطعام. بل هي استراتيجية للتخلص من الأزواج غير الجذابين. ودعم الباحثون هذه الفرضية بدليل أن الذكور الأصغر هم أكثر عرضة للالتهام من الذكور الأكبر حجمًا، على افتراض أن الحجم الصغير هو سمة سلبية في الذكور. [1]
تعمل الإناث بهذا السلوك على تصطفية الذكور الأقوى والأضخم للحفاظ على استمرارية النوع، من خلال التهام الذكور الضعاف وذوي الحجم والكتلة الصغيرين. نشر ريتشارد دوكينز عام 1976 تلك الفكرة بصورتها الأعم في كتابه الجين الأناني يقول بأن الهدف الوحيد لأشكال الحياة البيولوجية هو نقل الحمض النووي الخاص بها من جيل إلى آخر. من هذا المنظور، قد لا تكون الأجساد التي نعيش فيها أكثر من أوعية للمعلومات الجينية التي تحتويها. وبمجرد أن يتم نشر هذه الجينات للجيل التالي، فإن الجسد المادي ليس له فائدة تذكر. [3]
لكن تم دحض هذه الفرضية بعد أن أثبتت الأبحاث اللاحقة أنّ إناث فرس النبي لا تكترث بحجم الذكر الذي تلتهم رأسه بعد كل جماع، بل على العكس هي تأكل الذكر أيًا كان حجمه. ووجدت أيضًا فرضية أخرى تعزز مفهوم اصطفاء القوة لدى فرس النبي، وهي فرضية الانتشار العدواني.
فرضية الانتشار العدواني
تعزز أنثى فرس النبي استنادًا إلى طرح هذه الفرضية مهاراتها الدفاعية، حيث أنّها تعرضت لهيمنة أو عنف الشريك الذكر. مما دفعها إلى التطور عبر الزمن وصولًا إلى سلوكها العنيف في التزاوج. أي يساعد هذا السلوك إناث فرس النبي على تجنب التحرش أو الإكراه من قبل الذكور. وبذلك قد يكون التهام الشريك وسيلة أنثى فرس النبي لتأكيد هيمنتها وتثبيط التقارب الجنسي غير المرغوب فيه. وإضافة إلى كونه سلوكًا دفاعيًا، تفترض هذه الفرضية أنّ سلوك التهام الشريك قد يعزز مهارات الصيد لدى الأنثى. [1]
وساد الاعتقاد بأنّ سبب تناول الأنثى للشريك، ناتج عن عدوانيتها المفرطة التي تدفعها للخلط بين الشريك والفريسة. فنتيجة لتمرس الأنثى على الصيد أو ممارسة السلوك العنيف بشكل مفرط كآلية دفاعية، أصبح ذلك دافعًا لها لممارسة الالتهام.[3] لكن تم دحض هذه الفرضية عندما تبين أنّ العدوانية ليست شرطًا أساسيًا في الإناث التي تلتهم شركائها. كما لم يثبت علميًا حتى الآن أن زيادة العنف لدى إناث فرس النبي يحدث تغييرًا واضحًا في سلوكها اتجاه الذكور خلال التزاوج أو قبله. ولكن كل ذلك يطرح تساؤلًا هامًا، هل يحاول الذكور التملص من تلك العدوانية أم أنّهم يقبلونها طواعية؟
تفسير قبول ذكور فرس النبي للافتراس
فرضية الانتحار الكيفي
تقول هذه الفرضية بأن قبول ذكور فرس النبي بهذا السلوك الجنسي العنيف نابعة عن أنّهم يضحون بأنفسهم أو يستثمرون بأنفسهم في سبيل استمرارية النسل. أي أنّهم يتقبلون هذه الخاتمة البائسة على اعتبار أنّها ستحقق مكاسب أكبر من ناحية الحفاظ على نسلهم أو أن يكونَ أكثر صحة. مما يدفع ذكور فرس النبي إلى تقديم أنفسهم طوعًا كوجبة دسمة للإناث. [1]
لكن ناقضت الأبحاث تلك الفرضية، فالذكور يحاولون التملص من الإناث خلال العلاقة الجنسية. ولا ترتفع عتبة المغامرة إلّا في حالات الذكور الذين لم يتعرضون لمواجهات عديدة مع الإناث، نتيجة نقص في عدد الإناث في محيط الذكر الحيوي. أي أن سلوك أنثى فرس النبي الجنسي غير تكيفي كما يعتقد. ورغم أنّ الافتراضات كثيرة إلّا أنّ أنثى فرس النبي قد أثبتت أنّها حشرة شرسة ليس فقط بسبب سلوكها الجنسي العنيف مع الشركاء من نفس نوعها، بل بسبب قدرتها على تناول الطيور أيضًا. [1]
أنثى فرس النبي في مواجهة طائر الطنّان
نعلم جميعًا أنّ الحشرات تعدّ الوجبة الرئيسية التي تتغذى عليها الطيور، وتساهم بنسبة كبيرة في تغذيتها. ولن يلفت انتباهنا أبدًا منظر طائر يحمل حشرة في فمه حتى وإن كانت أكبر منه. لكنّ وعلى العكس، قد تدفعنا مشاهدة صورة كالتي في الأسفل، إلى مسح نظاراتنا وفرك أعيننا. فلا ريب أنّ رؤية رقبة طائر الطنّان اللطيف بين ملاقط أنثى فرس النبي منظر غريب ومثير للدهشة.
تشير أوصاف مختلفة إلى أنّ أنثى فرس النبي قادرة على أن تتغذى على طائر الطنان عبر إمساكه في بطنه. وقد تقوم بمباغتته وليّ عنقه، وثم التغذي على رأسه. ورغم أنّ العلماء قد رصدوا هذا السلوك العنيف من فرس النبي منذ زمن طويل، إلّا أنهم لم يلحظوا مهاجمته لطائر آخر. مما يعني أنّ طائر الطنّان هو الضحية الوحيدة التي تم رصدها حتى الآن. وربما يعود السبب إلى تقارب حجم فرس النبي مع طائر الطنّان.[2] لكن هل سلوك التهام الشريك الجنسي شائع في عالم الحيوان، أم هو حكر على فرس النبي؟
حيوانات أخرى تلتهم شركاءها خلال أو بعد التزاوج
منحت عنكبوت الأرملة السوداء اسمها المشهور وذائع الصيت بسبب سلوكها الجنسي أيضًا. فهي تتناول شريكها بعد العلاقة وتطعم جسده لأطفالها أيضًا. ولكن الأكثر إثارة للدهشة هو ذكور العناكب ذات الظهر الأحمر الذين يؤدون ما يصفه العلماء بأنه شقلبة مباشرة في أفواه الإناث بعد التزاوج! أداء جمباز مميت، ولكنه فعّال أيضًا، فالذكور الذين يضحون بأنفسهم ينجبون ضعف عدد الأطفال.
كما أنّ تناول الشريك ليس حكرًا على الحشرات أو العناكب فحسب، فأفعى الأناكوندا العملاقة قد تخنق شريكها أيضًا وتتغذى عليه. إذ أن أنثى الأناكوندا أكبر حجمًا من الذكر، مما يسهل عليها المهمة. [3] تبدو الإناث شريرة تمامًا في عالم الحيوان، أليس كذلك؟ فهل سلوك التهام الشريك الجنسي حكرٌ على الإناث أم تحتوي مملكة الحيوان نموذجًا منصفًا للطرفين؟
الذكور والإناث في معركة الحفاظ على الذات
تشارك متساويات الأقدام ” Isopods” -وهي نوع من القشريات- في سلوك التهام الشريك الجنسي. رغم أنه في حالتها يسير الأمر في كلا الاتجاهين. حيث شوهد كلٍ من الذكور والإناث يأكلون شركائهم بعد ممارسة الجنس.
ورغم أنّ الباحثين ليسوا متأكدين تمامًا من سبب أكل الذكور للإناث في بعض الأحيان، إلّا أنّ الذكور قد واجهوا مشكلة تكوين نسل معهن. ويقول العلماء إنه قد يحدث ذلك فقط عندما تموت الإناث بعد فترة وجيزة من التزاوج، أو عندما يعاني الذكور من نقص خطير في الطعام. ولذلك ربما لا يكون هذه النموذج منصفًا للذكور حقًا. [3]
في الختام، بغض النظر عن الأسباب التطورية وراء سلوك تلك الكائنات، يظل تناول الشريك الجنسي جانبًا مثيرًا للجدل في سلوك ال. في حين أن بعض الناس يجدونها مثيرة للاشمئزاز أو مزعجة، يرى آخرون أنها تعبير طبيعي عن غرائز أنثى فرس النبي المفترسة وسعيها الدؤوب للبقاء والتكاثر. وبينما يواصل العلماء استكشاف أسرار هذه الحشرة الغامضة، هناك شيء واحد مؤكد. ستستمر أنثى فرس النبي في أسرنا وإثارة اهتمامنا بجمالها وجانبها المظلم.
المصادر:
1- Adaptive Value (reed.edu)
2- Praying Mantis Devours Hummingbird in Shocking Photo (nationalgeographic.com)
3- Sexual Cannibalism: Why Females Sometimes Eat Their Mates After Sex | Discover Magazine
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :