نبدأ بقراءة ما قاله ابن طولون في مسألة تحالف الغوري مع الشاه اسماعيل. نجد ابن طولون في أحداث سنة 922 هجرية، يحدثنا بأنه شاع بين الناس أن ملك الروم سليم خان اطلع على مطالعات من الغوري إلى إسماعيل الصفوي يستعينه على قتال ملك الروم.
والأمر يختلف كثيرا عند ابن الحمصي وابن زنبل، فكلاهما لا يتحدثان عن أي تحالف تم بينهما. بل يخبرنا ابن زنبل، بأن سليمًا قد طمعت آماله في أخذ مصر عقب واقعة مقتل علاء الدولة وضم ولاية ذلقادر. فقرار الغزو لدى سليم عند ابن زنبل، أسبق على أي حديث عن تحالف مزعوم. فاستشار في ذلك سليم وزيره الأعظم أحمد باشا هرسك ومن بعده بيري باشا. فقالا له في لطف بأنهما قد أُسِيرا زمن الحرب بين قيتباي وبايزيد وحلفا بأن لا يسحبا سيفا في وجه القبيلة (المماليك). لذلك قام سليم بعزلهما بعد ثلاثة أيام ثم صار قاصدا عسكر مصر.
محتويات المقال :
ابن الحمصي والتشكيك في تحالف الغوري مع الصفويين
وإذا تأملنا رواية ابن الحمصي في هذا الشأن لوجدناها لا تختلف كثيرا عن رواية ابن زنبل، فيحدثنا ابن الحمصي في أحداث عام 917 هجرية. أن قاصد شاه اسماعيل الصوفي قد وصل إلى دمشق وبحوزته رأس السلطان أزبك خان، وبيده مرسوما سلطانيا ليبشر سلاطين الشرق بالنصرالمؤزرعلى أزبك خان ملك خراسان. وفي هذا تحرش بسلطنة المماليك بتعبير ابن الحمصي. وفي توضيح مقصد ابن الحمصي بالتحرش هنا، ربما نجده في تعليق ابن إياس على هذه الواقعة. فيخبرنا بأن الغوري قد غَمّ لهذا الخبر وأقام الأمراء عنده للتشاور، لأن الصوفي كان مشغولا عن محاربة الغوري والعثمانيين بمحاربة ملك التتر. وبانتصاره عليه قمين بأن يزحف نحو الحدود المملوكية حينما سنحت الفرصة.
بل إن المدهش عند ابن الحمصي، أنه في مستهل أخبار عام 920 هجرية من شهر ربيع الأخر، أي ما يوازي عام 1514 م، أي قبل ثلاث سنوات من موقعة مرج دابق. بل حتى قبل واقعة جالديران مع الصفويين بثلاثة أشهر، يحدثنا أن سليمًا نزل على قيسارية بصحبة مئة وسبعين ألف فارس مقاتل. وأنه وجه مراكب قتالية عديدة في البحر ولا يعلم السبب لذلك، والذي تحرر أن سبب نزول الشاه سليم أن له غرضا في مملكة العرب وأخذها من يد الجراكسة، لكن أمورهم مكنونة لأمر يريده الله تعالى. ويفهم من كلام ابن الحمصي أن نية غزو الشام ومصر عند السلطان العثماني أسبق حتى من تصفية الموقف مع الصفويين في موقعة جالديران، فالكلام هنا عن أخبار شهر ربيع الأخر من عام 920 هجرية، وموقعة جالديران كانت في شهر رجب من نفس العام!
بل في نفي تهمة التحالف بين الغوري والشاه اسماعيل الصفوي عند ابن الحمصي، يحدثنا بأن تجريدة عسكرية خرجت من القاهرة برسم شاه اسماعيل وذلك كمساعدة للسلطان سليم ابن عثمان. وقصد الغوري من ذلك بتلك المانيّة (أي تكون له يد بيضاء) على سلطان الروم. وأن يظهر له المساعدة ليدفعه عن مملكته وأن يصير له جميلة على ملك الروم ويحفظ أطراف بلاده!
وأما ما رواه ابن الحنبلي في كتابه (درر الحبب في أعيان حلب)، لا يعدوا عن كونه ذكرا لقاصد من لدن الشاه اسماعيل إلى الغوري وهو أمر قد جرت به العادة.
لغز العجمي الشنجقي
وعند ابن اياس، فنراه يتحدث كثيرا عن وصول قصاد الشاه إلى الغوري. ففي الرصد الكرونولوجي لذكر اسماعيل الصفوي لدى ابن اياس. نراه بدأ من عام 908 هجريه، حينما أتت الأخبار بأن خارجيا يقال له اسماعيل الصفوي قد تحرك على البلاد. الأمر الذي تنكد له السلطان مما حدى به تحريك تجريدة عسكرية. ثم بقى القصاد مجيئا وذهابا بينهما دونما الحديث عن أي شبهة تحالف. إلى أن جاء ذكر الكتاب السري الذي بعث به مع نديم الغوري العجمي الشنجقي. ورغم سكوت المصادر التاريخية عن ذكر ماهية هذا الكتاب السري وما جاء فيه، إلا أننا نجد هناك شبه إجماعا بين الباحثين على أنه كان به اتفاقية تحالف دفاعي بين الغوري وبين شاه فارس!
ويحتمل أن يكون العجمي الشنجقي هو همزة الوصل مع العثمانين في اخبارهم بهذا التحالف المزعوم. فابن إياس يذكر في هذا الصدد، أنه حينما خطب لسليم الأول بمسجد حلب عقب معركة مرج دابق، التف عليه كلا من الخواجا ابراهيم السمرقندي والخواجا يونس العادلي والعجمي الشنجقي. ورغم إنهم كانوا من أخصاء الغوري، إلا أنهم كانوا مع سليم في الباطن، وكانوا يكاتبونه بأحوال السلطان وأخبار المملكة. فيحتمل أن يكون العجمي الشنجقي في سفريته للشاه إسماعيل، قد أطلع سليم الأول بالمكاتبات التي بينه وبين الغوري!
هل تحالف الغوري مع الصفويين حقًا؟
ورغم أن ذلك مقبول عقلا، إلا أننا نرفض افتراضية سعي الغوري لإقامة مثل هذا التحالف لعدة قرائن، منها اختلاف المذاهب العقدية بين الدولتين، وهي عقبة كان لا يمكن تجاوزها آنئذ. ومنها أنه حينما عقد سليم الأول العزم على غزو مصر وفكر في شرعية ذلك، سيّما وأن مصر دولة سنية، لا هي بلاد كفرية كأوروبا أو ملاحدة كالقزلباش الصفويين. وفي المجلس الحربي الذي أقامه سليم ليتشاور فيه مع رجالات الدولة العثمانية وفقهائها، بصحبة الصدر الأعظم أحمد باشا ابن هرسك ومحمد جلبي بن نشانجي خوجه، ومفتي الأنام شيخ الإسلام زنبللي علي أفندي وفي الفتوى الدينية من مفتي الأنام وشيخ الإسلام وقتئذ، لم يتطرق فيها إلى مثل هذا الاتهام. وثاني القرائن، في اللقاء الذي جمع بين سليم والخليفة المتوكل والقضاة الأربعة بأوطاقه عقب موقعة مرج دابق، نجد سليما وبخ القضاة لأنهم يأخذون الرشوة على الأحكام الشرعية ويسعوا بالمال حتى يتولوا القضاء. ولماذا لم يمنعوا سلطانهم عن المظالم التي كان يفعلها بالناس؟ ولا يوجد أي ذكر في توبيخه للقضاة عن هذا التحالف المزعوم.
تلك كانت حلقة خامسة من حلقات سلسلة بعنوان “في مسألة الغزو العثماني لمصر وللشام.
المصادر:
– ابن اياس بدائع الزهور في وقائع الدهور، أجزاء الثالث والرابع والخامس.
– العراك بين المماليك والعثمانيين الأتراك لابن أجا.
– إنباء الغمر بأنباء العمر لابن حجر العسقلاني.
– أخرة المماليك لابن زنبل.
– در الحبب في تاريخ أعيان حلب لابن الحنبلي.
– حوادث الزمان في وفيات الشيوخ والأقران لابن الحمصي.
– مفاكهة الخلان في حوادث الزمان لابن طولون.
– مقالة نهاية سلاطين المماليك، دكتور محمد مصطفى زيادة.
– المجتمع المصري تحت حكم العثماني مايكل وينتر.
– تاريخ الدولة العثمانية، يلماز اوزتونا.
– تاريخ المماليك، محمد سهيل طقوش.
– دراسة بعنوان “التجسس في العصرين الأيوبي والمملوكي”، عبدالله عيد كمال.
– تكوين العرب الحديث، سيار الجميل.
– التحفة البهية في تملك آل عثمان الديار المصرية، محمد بن أبى السرور الصديقي البكري.
– الفتح العثماني للشام ومصر، أحمد فؤاد متولي.
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :